علينا أن نفكر في أولئك الذين حوصروا أثناء قيام الثورة الليبية ، وهم غرباء عن البلد وعن العباد . لقد توجهوا إلى ليبيا من أجل لقمة العيش ، وعلى أن يعودوا إلى بلدهم الأصلي بعد جمع قدر من المال لينفقوه على أهلهم ، وكذلك لمواجهة النائبات في بلد الاستقبال . فقرروا ألا يعودوا وألا يتركوا الليبيين يواجهون قدرهم لوحدهم وهم يواجهون نيران بنادق المستبد ومرتزقته .فقرروا أن يكونوا مع الشعب الليبي وإن كانوا ليس منه لأنهم كانوا يتقاسمون معه نفس الهموم، ويسقون جميعا من نفس المتاعب بحتا عن الرزق . فلاالراجمات ولا الكلاشنكوف ولا الصواريخ لم تخيفهم ، و لن ترعبهم إلى حد الهروب وترك البلد . فمسهم الخوف والجوع والتشرد، وإصابات قاتلة وجروح عميقة . يقال في الأمثال الشعبية ، أن الإنسان لا يموت أو يقتل إلا إذا حل أجله المحتوم .قال تعالى : " ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها" . من أجل ذلك رفض العديد من غير الليبيين أو السوريين أو اليمنيين أو المصريين مغادرة البلد خوفا من الموت ، فالموت قد يأتي للإنسان وهو على فراش بيته وبين أهله وهو مطمئن. وقد لا يأتيه وهو بين الرصاص . فقد يصاب جندي برصاصة طائشة وهو في مكان آمن، وقد يخرج آخر من المعركة سالما وكأنه كان في نزهة . لكن السؤال ، هل كل أولئك الذين بقوا ، ورحى الحرب تدور في ليبيا أو في غير ليبيا ، هم شجعان إلى درجة تفضيل البقاء بين الرصاص على العودة للوطن أو النزوح إلى بلد ثان ؟ ويظهر أن تصرف الناس أمام وضعيات بعينها تختلف باختلاف الاستعداد النفسي والمعتقد والروابط الاجتماعية والعامل الاقتصادي. فكلما كان المهاجر يرتبط ارتباطا قويا ببلده ، وتجمعه مع أهله روابط قوية ودائمة، وله رصيد مالي أو عقار قد يغنيه عن عمله مؤقتا على الأقل ، قد يفكر في ترك بلد الاستقبال والعودة إلى البلد الأصلي زمن الحروب . أما الذين يفضلون البقاء في بلد الاستقبال زمن الحرب فهم إما منقطعون عن أهلهم ، وإما هم يائسون من فضل بلدهم عليهم ، و سبق لهم أن عانوا من ضائقات مالية في وطنهم ، وسبق لهم أن عاشوا على الهشاشة وعلى طرة المجتمع إلى أن جاءتهم فرصة العمل ببلد المهجر والاغتراب . وقد يقنعون أنفسهم بطرح السؤال . ما الفرق إذن بين أن يعيش المرء وسط الحرب في بلد الاستقبال ، وأن يعيش الغربة المميتة في بلده؟ ولقد قيل :" اقبر غريب ولا اشكارة خاوية" ؟. لذلك فضل العديد من المهاجرين البقاء في بلدان الاستقبال وعدم العودة إلى وطنهم ،لأنهم يدركون أن بقاءهم ببلد الاستقبال وفي عز الحرب لن يجنبهم الموت إذا بلغ الأجل أمده ، لكن ذلك البقاء قد يجنبهم الفقر والتشرد لو عادوا إلى وطنهم الأصلي. فهم يعلمون أن وراءهم في وطنهم ،من هم ميتون وهم أحياء ، لأنهم فتحوا أعينهم على الحاجة إلى أي شيء ، فلا يحصلون على أي شيء من أي أحد ، وهم يترنحون ، ويتجرعون مرارة الغربة بكل أشكالها كل حين : غربة البسمة ، وغربة الكلمة وغربة المكانة وغربة الحنان، وغربة الطمأنينة ، وغربة الانتماء داخل الانتماء . من أجل ذلك هم مقتنعون بأن الموت في الحرب كالحياة داخل دائرة الغربة . فموت المغترب والغريب في حرب كحياته وهو ضائع في بلده بين أهله الذين هم حاضرون غائبون بالنسبة إليه . الغربة غريبة عن القاموس الانجليزي – عربي ، لأنه لا يوجد مصطلح مناسب للغربة وإنما فقط للإغتراب . فالغربة كشعور باطني لم يسبق أن جربه الإنسان الغربي الأمريكي والكندي ،لأنه لا يرحل عن أرضه ووطنه كرها كما يفعل إنسان عالم التخلف ، وإنما طوعا من أجل المتعة الشخصية مما يستبعد وجود فكرة الغربة والبؤس لديه ، باستثناء تمثلات وتصورات الجندي الغربي الذي يغادر وطنه كرها إلى بلد آخر وهو مطوق بفكرة العودة إلى وطنه محمولا في تابوت .أما المواطن العربي الممقوت من طرف بني جلدته والذي يتصور نفسه أنه في غربة كريهة وفي تابوت دائم ، فهو محاصر بالتحديات من كل الجهات. وجود المرء خارج وطنه ليس شرطا للإحساس بالغربة كتجربة إنسانية عميقة وباطنية ومرة، فقد يجرب الإنسان الغربة داخل بيته وداخل مدينته وحتى داخل وطنه . ويكفي أن تعطي فرصة الحديث لمن تصادفه يوما في قطار أو في جنة أو على شاطئ بحر أو غابة ، كي تتمكن من التعرف عن قرب عن أنواع وأشكال الغربة في عالم يموج بالحركة ، يقال عنه عالم إنساني! ومن هنا أمُرّ للحديث عن أولئك الشباب المندفعون بسحر القوة ، وهم في مقتبل العمر يقدمون أرواحهم قربانا للثورات ، من أجل تغيير واقع مُرّ عرفوه ، ولم يستطعوا مواصلة العيش فيه كما هو ، فأصبحوا يشعرون بالغربة داخل وطنهم. فالمواطن التونسي الذي أحرق نفسه احتجاجا على الأوضاع السيئة التي كان يمر منها وطنه ، لم يختر يوم ميلاده، ولا والديه ولا جنسيته . فالقضاء والقدر رماه في أقصى جنوبتونس في مرحلة بنعلي الاستبدادية ،و التي قضت على كل أحلامه وأحلام الشباب مثله .تلك الأحلام التي تحولت إلى غربة قاتمة سدت كل منافذ الحياة الكريمة أمام الجميع ، فكانت الثورة الربيعية. تلك الثورة التي ما كان لها أن تكون لو بنعلي وحاشيته وضعوا صوب أعينهم وآمنوا بصدق بوجود الإنسان التونسي. لا أظن أن هناك مخلوقا على وجه الأرض يحب أن يمر من الغربة والتي ليست "المغامرة" التي يمكن أن تكون سعيدة رغم مرارتها . فالذين يخاطرون بأرواحهم في قوارب الموت ، أو يشاركون في المظاهرات ببلدانهم يتشبثون بآخر قشة من أجل المرور إلى الشاطئ السعيد ،أو بآخر فرصة لهدم الحائط الذي يعيق وصول الرزق إلى عتبات بيوتهم . فهم ليسوا مغامرين وإنما يحملون ما تبقى من تفاؤل لبلوغ أحلامهم . فلو الذي حرق نفسه كان يعلم أنه سيموت ما عرض نفسه للخطر. فمحمد البوعزيزي -كما أظهره " الفيديو" – حاول التخلص من النار وهو يجري لينقذ نفسه من موت محقق . لن يستطيع أي أحد أن يقنع أحد بأن البوعزيزي لم يمر من مرحلة خوف عميق وهو يتعلم من النار التي أوقدها ، بعد تعويم جسمه بالبنزين ، ثم من أمل النجاة وهو يبحث عمن ينقذه، ثم خيبة أمل وندم وهو يحترق. ولن يستطيع أي أحد إقناع أحد بأن البوعزيزي لم يفكر لما اشتعلت النار حوله ونشبت بأطرافه ،في أمه أولا، ثم أفراد أسرته ، قبل أن يدرك متأخرا أنه قد انتهى وضاع. فرغم تظاهر المرء بالشجاعة ، ومحاولة ظهوره كرجل شجاع ، فإن هذه الشجاعة تخفت وقت الحسم ، فحتما لا تدري نفس ماذا تكسب غدا ولا تدري نفس بأي أرض تموت ، لذلك لا يقدر أي أحد على تنبؤ لحظة قضائه ، أو معرفة أنه يعيش آخر لحظات حياته . ولو علم ذلك ما خرج ليموت ، لأن الطبيعة البشرية مبنية على حتمية فرار الإنسان العادي من الموت . ولذلك ترى الضحية يقاوم الحريق والغرق والعطش والجوع والسقوط ،فالأضحية تقاوم قبل الذبح الموت وبعد الذبح فكيف "لا" الانسان؟ هناك تهور –نعم!- هناك اندفاع زائد – نعم!- هناك فقر قد يجعل المرء يكفر بنعمة الحياة- نعم!-.قال تعالى : " قل أن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم"صدق الله العظيم. لذلك حُرّمَ القتل العمد، وخطف الأرواح بالباطل . واعْتُبِرَ قتل النفس الواحدة كقتل الناس جميعا. ولذلك يطالب المتظاهرون بإسقاط الأنظمة التي تورطت أو ورطها جنودها قصدا في قتل أبرياء ، وأصبحوا ينادون بالقصاص بعدما كانوا ينادون بالإصلاح. فاعتبر إزهاق الأرواح جريمة ضد الإنسانية يعاقب عليها القانون الدولي. من أجل ذلك ، لابد أن يدرك "البعض" بأن العالم قد تغير ، وأن زمن " السيبة" و " الغفلة" قد وليا بلا رجعة ، وأن دعاء بعضهم " الله يجيب الغفلة " السياسية"بين البائع والشاري" لم يعد له منطق بين الناس . فالأفكار تطورت، والمنطق أصبح وسيط كل المعاملات " هاك وأرى" . فلن يستطيع أي "أحد "إقناع جيل اليوم بوجوب التضحية من أجل الآخر، و بالتشبث بالقيم النبيلة ، من صبر وحلم وإحسان وهلم جرا ..جيل اليوم مقتنع تماما بنظرية " الحساب على الطاولة" ولذلك تجده في أول الصفوف يرفع صوته ضد المماطلة والتسويف والممانعة والكذب والفساد. وليس هناك من حل يجنب الوطن والمواطن مرارة الغربة إلا نبل " القناعة"، ودرء تَمَلُّكِ مالا يجوز، والعمل على فتح جميع المسارات كي يلج الجميع إلى فضاء المواطنة الحقة على أساس المساواة والعدل . والسؤال لماذا يرفض البعض نتائج المنطق السليم ، الذي يدعو إلى صيانة حقوق الناس وإشراكهم في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية؟ لماذا لا يريد "البعض " أخذ المبادرة " استباقا" من أجل إصلاح أحوال الناس قبل أن يثوروا عليهم؟ لماذا لا يحاكي"البعض" الغرب في أي شيء إلا في طريقة التسيير ، والاقتناع بأن المشاركة في تسيير دفة الحكم – بضع سنوات -كافية كي يعطي المرء كل ما لديه من خطط وأفكار لتطوير بلده وعلى أن يترك المجال لمن يستحق بعده؟ قطعا لم تتغير الدنيا ، وإنما نحن الذين تغيرنا ،بعدما نسينا ما ذكرنا به . لقد أصبح "البعض" ملكيون أكثر من الملوك ، ورأوا في المنصب والكرسي إرثا يورث ، وليتهم يرجعون شيئا ما إلى تاريخهم ليجدوا أن نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، أنه لم يورث الكرسي والمنصب لأحد، وإنما ترك فرصة اختيار " أكرم الناس" للأمة . أليس العرب – بهذا- أول من شرع لحرية الاختيار – قبل أن يتخلفوا- وقبل أن يبدأ الغرب بالمطالبة بالديمقراطية في عصر التنوير؟ وأريد أن أختم بكلمات الأغنية الجميلة لنعمان لحلو " يوم العيد " التي تفيض حنانا وعاطفة وحنينا إلى زمن المحبة والتسامح والتعاون والتآزر، بعيدا عن الأنانية والفردانية التي مزقت نسيج المجتمع. اشنو بغينا من هاد الدنيا غير السلامة وراحة البال وفين هي راحة البال اشنو وقع للدنيا *** ليام هي ليام والأحلام نسينا الأحلام احنا اللي تغيرنا *** واعلاش مهمومة يا ليام واعلاش ننساوا الأحلام تطلع الشمس وتغرب وفوسط الليل يبان النور *** ويدور العالم يدور بالناس ولجبال ولبحور ويبقى كيدور وتستمر الحياة واحنا اللي تغيرنا والجميل أن لحلو ينهي الأغنية بالأمل وبكلمات حلوة تعبر عن خصال المغاربة عبرالتاريخ والتي يمكن إجمالها في ثقة المغاربة في المستقبل وفي بلدهم، وفي ثقتهم بأنفسهم ، وقدرتهم على مراجعة النفس لتجاوز الصراعات المصطنعة التي لا يرجى منها أي خير للإنسان المغربي وللوطن .يقول لحلو بتفاؤل: غدا يوم جديد ويمكن يصبح يوم العيد. وأمل الجميع أن يجتاز المغاربة كل الامتحانات بنجاح ، وأن يحققوا أمل الجميع على أساس التوافق والتعاون على البر والتقوى ، وليس على الإثم والعدوان. وعلى المتلاعبين بالزمن، والمتلاعبين بالفرص ، أن يستقيموا أو يتركوا المكان لمن هو قادر على المساهمة " بالاستقامة " وإعمال الضمير" " وكف اليد عن الإفساد"-على الأقل- ليتجنب المواطن الشعور بالدونية والغربة داخل وطنه . تلك الغربة التي يحس بها المرء ويعاني منها في صمت ، لأن جهات ذات اختصاص لم تأبه به ولا تريد الاستماع أو الانتباه لمعاناته . وبخيط واحد رفيع من الأمل يمكن شحن " المغترب " وتحويله إلى ذات متعاونة ومشاركة في البناء لا الهدم.وعلينا دائما أن نحاول وألا نستسلم ونؤمن أننا في جهاد أكبر من أجل صيانة وطن عزيز.