أبرزت علماء أكفاء لم تُسلط عليهم الأضواء يعتبر إنشاء الكراسي العلمية في المغرب تجربة فتية انطلقت في مساجد العاصمة الرباط لتنتشر مستقبلا في باقي مساجد المدن الأخرى للبلاد، وتقضي بتقريب العلماء من المجتمع من خلال إعطائهم دروسا بشكل مواظب في شتى العلوم الشرعية والمعارف الإسلامية لجمهور المهتمين من مختلف شرائح المجتمع. وإذا كان بعض المراقبين يرى أن هذه التجربة الناشئة لاقت قبولا ونجاحا منذ بدايتها بدليل الاهتمام الكبير بها من لدن المغاربة الذين عُرفوا بالاحتفاء بعلمائهم، فإن آخرين يرون أن هذه التجربة محفوفة بعوامل الفشل، مثل سابقتها التي تمثلت في تقديم دروس الوعظ والإرشاد في المساجد عبر التلفاز. وجدير بالذكر أن عدد الكراسي العلمية حاليا في أكبر مساجد الرباط هو ثمانية كراسي؛ تلقى فيها دروس في العقيدة والتفسير والسلوك والفقه والسيرة النبوية والقراءات والتجويد والنحو، في أفق انتشار التجربة في مساجد المدن الأخرى في حال نجاحها وتحقيقها للأهداف المرجوة. النشأة وطبيعة التجربة وأنشأت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية لأول مرة مشروع الكراسي العلمية في المساجد خلال شهر أبريل من العام المنصرم، بمعنى أنها تجربة شابة تملك من العمر سنة واحدة فقط، وهو الأمر الذي تراهن عليه السلطات الدينية بهدف تعميم هذا المشروع العلمي قريبا في سائر مساجد المغرب. وترتكز الكراسي العلمية بالمساجد على ترسيخ الثوابت الدينية الرسمية للمغرب في النسيج الفكري والثقافي والعلمي للمجتمع، والمتمثلة في العقيدة الأشعرية، والمذهب المالكي، وتصوف الإمام الجنيد. وتتمثل هذه الكراسي العلمية في: كرسي الإمام الجنيد ومادة التصوف السني ثم الحكم العطائية بشرح الشيخ زروق، ويلقي هذه الدروس عبر الكرسي المخصص لها الشيخ عبد الله بلمدني الذي عُرف بطول باعه في العلم الشرعي وبمحاضراته الدينية داخل وخارج المغرب. وهناك كرسي الإمام نافع ومادة القراءات والتجويد من خلال شرح كتاب "الدرر اللوامع في أصل مقرئ الإمام نافع" ، ويشرف عليه الشيخ الفقيه محمد بن الشريف السحابي الذي اشتهر بإتقانه للقراءات القرآنية العشر، وبقوة حفظه وذاكرته، حيث سبق له أن حفظ موطأ الإمام مالك واستظهره كاملا أمام لجنة علمية، وهو في الثالثة والعشرين من العمر. أما كرسي الإمام أبي الحسن الأشعري فيلقي عليه دروس العقيدة مع شرح كتاب "اللُّمَع في الرد على أهل الزيغ والبدع" للأشعري، الدكتور محمد أمين الإسماعيلي المتميز في المذاهب العقدية الفكر الإسلامي، بينما كرسي متن الآجرومية في علم النحو، فيلقيه الأستاذ عبد الله اكديرة الذي يشغل حاليا وظيفة رئيس المجلس العلمي للرباط. وتتوزع الكراس العلمية الباقية على كرسي الإمام مالك الذي يشرف عليه سعيد الكملي ويدرس عبره مادة الفقه، وهو أحد الفقهاء الأكفاء الذين اندهش لهم الكثيرون بفضل علمه الغزير في مادته، وكرسي الإمام القاضي عياض يلقي فوقه الدروس الأستاذ الحسن اد سعيد، وكرسي الإمام ورش مع نعيمة غنام، ثم كرسي الإمام ابن عطية بمادة التفسير يشرف عليه الشيخ الفقيه مصطفى البيحياوي. تخريج العلماء ويعتبر الشيخ محمد السحابي، المشرف على أحد الكراسي العلمية، أن هذا المشروع فكرة رائعة ينبغي من باب الإنصاف أن يُشكر عليها القائمون على تنفيذها وخروجها من حيز الفكرة والنظرية إلى نطاق الفعل والتطبيق، مبرزا أنها مبادرة محمودة وجد موفقة وتنال حاليا الكثير من القبول والرضا من طرف عامة الناس فضلا عن طلبة وحفظة العلم. وأضاف الفقيه المغربي أن الكثيرين يتصلون به من أجل الاستفسار أو الاستزادة من أحد دروس علم القراءات التي يلقيها في إطار الكراسي العلمية، لكونهم سمعوا مثلا عبر القناة الفضائية التي تنقل هذه الدروس العلمية أمورا كانوا يجهلونها من قبل خاصة بالنسبة لبعض القراءات الخاصة بالمغرب التي تختلف عن قراءات أهل المشرق في كثير من النواحي. وبخصوص الجمهور المُستهدَف من هذه التجربة العلمية، أفاد السحابي بأن لكل كرسي خصوصيته، فمثلا كرسي القراءات وعلم الرسم والضبط يحضره طلبة العلم بالخصوص الذين يمتلكون مسارا في هذا المجال، وقد يوجد كرسي آخر يمكن أن يحضره عامة الناس للاستفادة والتعلم. وقال السحابي إن هذه الكراسي العلمية هدفها تخريج وتكوين العلماء من خلال تلقي العلوم على أيدي علماء لهم باع وخبرة في هذا المجال، مشيرا إلى أن فكرة الكراسي العلمية ليست وليدة اليوم فهي سنة قديمة في المغرب. وتابع المتحدث بأن الكراسي العلمية في تاريخ المغرب كانت منارة للعلوم الدينية والشرعية، وكانت مساجد المدن الكبرى تحفل بالعديد من الكراسي العلمية خاصة في جامع القرويين، ومنها تخرج العلماء الكبار وأهل القراءة والفقه وغيرهما من العلوم والمعارف. إحياء سُنَّة قديمة ويأخذ المؤرخ والدبلوماسي الدكتور عبد الهادي التازي خيط الحديث من السحابي ليؤكد أن تجربة الكراسي العلمية وإن بدت جديدة في المغرب لكنها في الواقع قديمة قد عادت إلى الظهور من جديد، فهي تمتلك جذورا ضاربة في تاريخ الدول التي حكمت المغرب. وزاد أن سلاطين الدولة المغربية إبان عهد المرابطين والمرينيين والسعديين اهتموا بوضع كراسي علمية في مساجد البلاد لنشر العلم الصحيح المبني على السنة لمحاربة البدعة والخرافة التي كانت منتشرة في ذلك الوقت بشكل حاد. ونهجت الدولة العلوية التي يمتد عمرها إلى حدود اليوم نفس المسار حيث لجأت إلى إعطاء الاهتمام والرعاية للكراسي العلمية، من خلال العطايا والهبات المادية لتشجيع العلماء وإكرامهم بهدف حثهم على المزيد من العطاء العلمي. وبحسب ورقة تعريفية للوزارة الوصية، فإن العديد من علماء المغرب عُرفوا بملازمتهم للكراسي العلمية وحج الناس إليهم لتلقف المعارف والعلوم الإسلامية بمختلف أصنافها، ومنهم محمد المكي البطاوري والعلامة أبو إسحاق التادلي الذي اعتكف زهاء ثلاثين سنة بأحد مساجد الرابط للتدريس.. وفي العصر الحديث، نجد مثال العلامة أبو شعيب الدكالي أحد رواد السلفية الوطنية عبر تاريخ المغرب، والذي تخصص في دروس تفسير القرآن وأيضا شرح كتب السنة المعتبرة، وذلك في أحد الكراسي العليمة التي دأب على حضورها.. سياق تجربة الكراسي العلمية وبالرجوع إلى اهتداء المسؤولين عن الحقل الديني بالمغرب إلى فكرة الكراسي العلمية، يتبين أنه مشروع علمي أريد به تعويض الإخفاق الذي عرفته تجربة سابقة بدأت منذ بضعة سنوات في مختلف مساجد المملكة، وهي تجربة الوعظ عبر التلفاز داخل بيوت الله. وبالرغم من الطموح الذي واكب تجربة التلفاز في المساجد لمشاهدة برامج الوعظ والإرشاد الديني، فإنها تجربة لم تُعَمر طويلة، حيث يبدو أن التجربة توقفت حاليا بشكل أو بآخر، الشيء الذي يفسره بعض المراقبين بأنه كان مجرد مشروع ضيق الأفق وقصير المدى دون إستراتيجية واضحة المعالم تعرف المنطلقات وتعي الغايات. وبالتالي، يرى الكثيرون أن تجربة الكراسي العلمية أتت لتعوض ما خفقت فيه تجربة الوعظ بالتلفاز بالرغم من اختلاف مضامين التجربتين، سواء على مستوى الحضور أو على مستوى التفاعل أيضا، باعتبار أن عرض برامج دينية تُبث على القناة الدينية الفضائية ومشاهدة المصلين لها داخل المسجد يقل تفاعلا عن حضور عالم الدين للمسجد وإلقائه لدرسه أمام جموع الحاضرين الذين يتجاوبن مع ما يستمعون إليه مباشرة. والذي يؤكد أن التفاعل في تجربة الكراسي العلمية كان أكبر وأشمل هو ما يشهده الانترنت حاليا من بث مقاطع مرئية وصوتية تسجل مضامين هذه الكراسي العلمية من طرف طلبة ومهتمين يحضرونها، كما عمدوا إلى تأسيس مواقع العلماء الذين يشرفون على الكراسي العلمية للتعريف بهم وبمحاضراتهم وأنشطتهم... نواقص التجربة ومثل أية تجربة بشرية فإن الكراسي العلمية التي دأبت عليها الوزارة الوصية لاشك أنه تعتريها نواقص وسلبيات؛ يرى المتشائمون أنها ستكبر مع مرور الزمن لتحد من إشعاعها وتلقي بها إلى الإهمال والنسيان مثل تجارب سابقة تبين أنها مجرد محاولات بدون تخطيط مسبق. وقال عضو في المجلس العلمي فضل عدم ذكر اسمه أنه لا يرى بعين الرضا اشتغال هذه الكراسي العلمية ولا مستقبلها، مضيفا أن من أبرز نواقص التجربة ضعف بعض المؤطرين لهذه الكراسي من ناحية التكوين والعلم. وتابع أنه بحكم معرفته ببواطن مجريات المجالس العلمية والوزارة الوصية التي انبثقت عنها تجربة الكراسي العلمية، توجد حالات تدخلات ووساطات مسؤولين لتعيين فلان وتأخير فلان في اعتلاء الكرسي العلمي، الشيء الذي يقل من هيبة العالم وصفاء صورته، كما يرهن الكرسي العلمي إلى أشخاص ليست لديهم الكفاءة اللازمة لإلقاء الدروس على الناس. ومن النواقص الأخرى التي تُسجل في صحيفة الكراسي العلمية أن الشيوخ الذين يلقون الدروس يتحدثون أحيانا كثيرة بلغة عربية فصحى لا يستطيع فهمها الكثير من الناس من شرائح اجتماعية تعاني من الأمية مثلا أو من مستوى دراسي ضعيف. وفضلا عن عدم انتشار الكراسي العلمية في باقي مساجد المملكة، يرى البعض أن هذه الكراسي ما تزال تعاني من قلة الحضور باعتبار نخبوية الدروس، وهو قول يرد عليه البعض الآخر بالنفي لكون هذه الدروس تم تسجيل الراغبين في متابعتها بشكل كثيف منذ بداية انطلاقها.