تعرف الظرفية السياسية الرّاهنة خصوصيات لم يسبق أن عرفتها ظرفية أخرى في تاريخ المغرب المعاصر. على المستوى الخارجي، تتجلّى هذه الخصوصيات في السِّمات التالية : تراجع واضح للدكتاتوريات و أنظمة الحكم الفردي في العالم؛ انطلاق الربيع العربي و تغيير نظام دولتين مغاربيتين؛ تفجير أزمة مالية عالمية سنة 2008، لا زالت تداعياتها قائمة و هي لا تخدم الجمود السياسي " الغير الآمن " و الهشاشة الاقتصادية و الفوارق الاجتماعية الكبرى التي تعرفها مجمل دول العالم الثالث؛ تطوير وسائل الاتصال الحديثة و انتشار استعمالها في هذه الدول. أمّا على المستوى الداخلي، فإن أبرز خصوصيات الظرفية الحالية تتجلّى في الحِراك الشعبي الذي يعرفه المغرب منذ 20 يبراير و الذي أظهر اهتمامَ الشباب بالشأن العام، خِلافاً لِما كان يُعتقد، ولكن خارج الأحزاب و المؤسسات. وكان و ما زال هذا الحِراك، الذي التحقت به فئات أخرى من المجتمع المغربي و من الفعاليات السياسية، ينادي بمطلب ثابت يهُمُّ محاربة الفساد و الاستبداد. و جاء ردُّ فعل الدولة من خلال الخطاب الملكي ليوم تاسع مارس معلِناً عن مراجعة دستورية و انتخابات سابقة لأوانها. و كانت واضحةً من روح الخطاب إرادةُ التغييرِ و إطلاقِ دينامكية جديدة تضع حدّاً للجمود السياسي الذي يعرفه المغرب منذ بضع سنوات. لكن قِوى مقاومة التغيير سواء داخل أجهزة الدولة أو داخل الأحزاب المستفيدة من الوضع الحالي الذي يعتمد على تمثيلية جد ضعيفة، سرعان ما لجأت إلى الممارسات القديمة للحدِّ من أهمية التغيير و إبقاء الوضع على حاله و التصرُّف دون اعتبار خصوصيات المرحلة. ظهر هذا خلال حملة الاستفتاء و ظهر كذلك مؤخراً من خلال الاستشارات التي قامت بها وزارة الداخلية مع الأحزاب السياسية. أخذت هذه الاستشارات طابعاً تقنياً و مصلحياً قبل أن يُحسَم في الأهم، أي في الجانب السياسي. السؤال المطروح : أوّل سؤال كان على الدولة أن تطرحه قبل الشروع في الاستشارات التقنية هو : ما هو الجواب الصحيح على متطلّبات الظرفية الحالية؟ لماذا نُغيِّر و ماذا نغيِّر؟ يُفيد تشخيص الوضع الحالي الذي هو موضوع الإصلاح أن العِلّة الكبرى تكمن في انعِدام التوازن بين السلط: حضور قوي للمؤسسة الملكية على كل المستويات، ضعف ملحوظ للأداء البرلماني ناتج عن طبيعة تكوين البرلمان و ضعف تمثيليته، أداء حكومي باهت لتركيبة لا يجمعها برنامجٌ ذو أهداف مدروسة و متكاملة في إطار إستراتيجية و رؤية سياسية منسجمة، تبعية القضاء للسلطة التنفيذية و حاجته إلى إصلاح حقيقي ليصبح سلطة مستقلّة لا يُشَكُّ في نزاهتها واستقلالها. أفرزت هذه العِلّة الكبرى علّة أخرى خطيرة هي فقدان الثقة في العمل السياسي و العزوف عن المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية. و قد بلغ هذا العزوف ذروته في الانتخابات التشريعية الأخيرة (2007) حيث لم تتعدَّ نسبة المشاركة الرسمية 37%، من ضمنها 19% أوراق ملغاة. دون الحديث عن كل ما شاب هذه الانتخابات من خروق كسابقاتها و التي تبعتها على مستوى الجماعات المحلِّية و مجلس المستشارين. يعني هذان الرّقمان أن أكثر من 70% من الكتلة الناخبة اتخذت موقف عدم المشاركة. وهذا يُعتبر زِلزالٌ سياسي في الدول الديمقراطية يؤدّي إلى إلغاء الانتخابات و فتح حوار وطني لمعرفة الأسباب و تشخيص الوضع و العمل على معالجته و تعبئة المواطنين. لم يحدث هذا في المغرب. بل أكثر من هذا، اعتبرت الأحزاب التاريخية و الأحزاب الإدارية أن الأمور عادية و أنه يمكن تحليل الأرقام و تكوين "أغلبية ". بعد هذا، أُصيبَت " الأغلبية " بالنسيان و صَدَّقت أنها أغلبية. وهي تحاول الآن ضمان استمرار وضعها على مستوى البرلمان و الحكومة. إذن توازن السلط و فصلها و استرجاع ثقة المواطن في المؤسسات التمثيلية تُشَكِّل موضوع التغيير المنشود. كانت المراجعة الدستورية أول خطوة إيجابية على طريق التغيير رغم كل المؤاخذات المتعلِّقة بالمِسطرة و بالمضمون و التي لا تخلو من صحة و وجاهة. و كان من المفروض أن تتبعها خطوات أخرى لإشعار المواطن أننا ندخل في عهد جديد يعتمد على اهتمامه بالشأن العام و تطوير مشاركته في العمل السياسي لبناء أسس مجتمع ديمقراطي. من ضمن هذه الخطوات المنتظرة : - إطلاق سراح جميع معتقلي الرأي ؛ - الضمان الفعلي لحرية التجمّع و التظاهر السِلمي دون قمع أو ترهيب؛ - رفع أي ضغط على حرّية التعبير و حرّية الصحافة ؛ - دمقرطة الولوج إلى وسائل الاتصال العمومية و الخاصة خارج الحملات الانتخابية ؛ - توفير ظروف الحوار و النِّقاش الحر و دعوة جميع الفاعلين السياسيين و المدنيين للمشاركة بدون تمييز ؛ - توفير ظروف ظهور نخب جديدة داخل الأحزاب ؛ - تعامل الدولة مع كل الأحزاب على حدٍّ سواء إلى أن يتِمَّ التوافق على مقاييس عادلة للتصنيف؛ - إعطاء إمكانات العمل للأحزاب الناشئة حتى تتمكّن من القيام بمهامّها الدستورية ؛ - حذف العتبة باعتبارها إجراء إقصائي لا يناسب الظرفية السياسية الحالية؛ - إحداث لجنة وطنية مستقلة للإشراف على الانتخابات تحظى بتوافق و احترام الجميع؛ - تفعيل كل المقتضيات القانونية الزجرية في إطار قضائي سريع التفاعل لكي يَبلُغ الهدف المُنتظر منه، أي القضاء على المتاجرة بالذِّمم و بأصوات المواطنين المعوزين؛ - المنع الفوري لِ " الأعمال الخيرية " المرتبطة بأهداف انتخابية؛ - و مع كل هذا و ذاك، خلق مناخ سياسي جديد للتعبئة تقوده الدولة و تساهم فيه كل الفعاليات السياسية و النقابية و المدنية. يجب أن تكون هذه التعبئة بمثابة ثورة ثقافية لتغيير الذهنيات و ضد التصوُّر السائد للانتخابات، كموسم -بالمعنيين العربي و المغربي- يمُّر و يستفيد منه من يستفيد، بشكل أو بآخر و تُعطَّل فيه الديمقراطية. إن أساس التغيير المنشود هو أن تَعِيَ كلُّ فئات الشعب المغربي و مختلف مؤسساته داخل الدولة و خارجها أننا في منعطف تاريخي سيُدخلنا إلزاماً إلى عهد جديد. علينا أن نختار بطاقة الدخول و تكلُفتها. على نخب هذه المؤسسات، على وجه الخصوص، حُسنَ الاختيار و الوعي بخطورة تبعات الخطأ. تقع على هذه النخب مسؤولية تاريخية تتلخص في تأطير المواطن المغربي و إقناعه بعزم كل الفاعلين السياسيين على القطيعة مع ممارسات الماضي و بأهمية السلوك الديمقراطي الشريف في تقدُّم البلاد وفي انعكاس هذا التقدم على أوضاعه و أوضاع أبنائه. إذا توفّقت النخب في هذه المسؤولية، سنسترجع حتماً ثقة الشعب المغربي و حماسه و سيخجل المفسِدون ( أو سيخافون ) من اللجوء إلى ممارساتهم لأن المواطن الذي نَبَذَهُم دائماً في السِّر، سيتجرّأ هذه المرة على فضحهم والتشهير بهم. و سترتفع نسبة المشاركة لأن الناخب سيَعي بواجب المشاركة لقطع الطريق أمام أعداء الديمقراطية الذين أصبحوا اليوم أكثر من أي وقت مضى أعداء المغرب وأعداء الشعب المغربي. و سيكون المغرب قد حقّق فعلاً حلم الثورة الهادئة.