من جملة القضايا الأساسية الداعية إلى المساءلة النقدية لمنجز الدراسات حول الأدب المغربي الحديث والمعاصر: الغياب شبه الكلي أو المطلق لعدد هام من أعلام أدبنا في هذا المنجز، يأتي في صدارتهم شاعرنا المرحوم محمد بن أحمد البقالي أحد أهرام الشعر المغربي الحديث المؤسسين الأوائل للقصيدة المغربية الحديثة الذين بزغ نجمهم في ستينيات القرن الماضي، المعدود ضمن طليعة الشعراء المجددين. لقد هالني وأرقني أمر هذا الغياب الاستثنائي لهذه القامة الشعرية الرائدة في الأدب المغربي الحديث، بعدما تصفحت العشرات من هذه الأعمال المنوطة بهذا الأدب على الخصوص، وقد ازددت استغرابا وتعجبا حينما علمت أن شاعرنا معروف شخصيا لدى معاصريه ممن لهم باع في نظم الشعر ودراسة الأدب المغربي الحديث والمعاصر كمحمد الميموني وعبد الله كنون أستاذ شاعرنا، الذي قدمه في "المهرجان التضامني مع الشعب الأفغاني المجاهد"، المقام في قاعة مجمع الصناعة التقليدية بتطوان سنة 1981، بحضور الدكتور عبد الكريم الخطيب مؤسس حزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية، وبعض المجاهدين الأفغان، وممثل الجبهة الإسلامية لتحرير أفغانستان الدكتور عبيد الله مجددي، وغيرهم من الشخصيات الأدبية والثقافية والسياسية، وذلك لإلقاء قصيدته الملحمية البطولية في المجاهدين الأفغان، غير أن عبد الله كنون بعد تقديمه شاعرنا لإنشاد قصيدته بالمناسبة انصرف توا عندما شرع ناظمها في إلقائها حسب ما حكاه لي شاعرنا المرحوم !!! كل هذا يفتح المجال واسعا للمساءلة النقدية عن أمر هذا الغياب غير المبرر علميا، وإن كنا لا ننفي بعض العوامل التي أرخت بظلالها عليه، من قبيل: -الصراع المرير بين حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال المنتمي إليه أديبنا، الذي انتهى لصالح الحزب الأول إلى تحديد ورسم مسار ومستقبل البلاد على عدة مستويات الثقافية منها والتعليمية والسياسية وغيرها، وتنفيذ حملات التصفية والتعذيب الشنيع على العديد من قياديي ومناضلي حزب الشورى والاستقلال الذي سيخبو شعاعه برحيل زعيمه محمد بلحسن الوزاني. -ترفع شاعرنا عن تيار الأضواء والذيوع، وعدم مداهنته لأدعياء الشعر أو توانيه في نقد سقطه ونشازه، بناء على ذائقته الشعرية الرفيعة وملكته النقدية الأدبية واللغوية الرصينة ومواهبه المتعددة وثقافته الموسوعية في فنون وعلوم ومعارف مختلفة. -إيثار الشاعر العمل في سدة الصمت وحضرة الظل على حشر ذاته في تيار الادعاء والضحالة والإشهار والتباهي والوصولية والولاء، رغم انفراده وتميزه عن أقرانه في قول الشعر، ونبوغه في نظمه الذي بوأ قصيدة شاعرنا "المذكرة الأخيرة" السابقة الذكر، كي تكون: "نموذج نضج الشعر المعاصر في المغرب"، حسبما أثبته الناقد المغربي الكبير محمد برادة سنة 1968، كما كان من قلائد عقيانه تأليف أوبيريت فلسطينية سماها "حكاية شعب" التي تعد من فرائد ونوادر ما كتب في هذا الفن على الصعيد الوطني أو المغرب العربي. -سيادة النقد التحاملي المترع بالأنوية والإيديولوجية الحزبية الذي أساء إلى وظيفة النقد وأضر بالأدب المغربي، ولم تسلم منه مجموعة من رواده الذين لهم باع طويل ووازن في فن الشعر كعبد الكريم الطبال الذي تصدى لهذا النقد في بعض مقالاته ردا على أصحابه، في طليعتهم حسن الطريبق الذي لم يتردد كذلك في صب جام نقده على شعرائنا المغاربة الذين لهم مساهمات في فن المسرح الشعري، من بينهم شاعرنا محمد البقالي. ويكفي الاضطلاع على سبيل المثال: التصدير الذي قدمت به مسرحيته الشعرية: "العهد الأنور" في مجلة اتحاد كتاب المغرب آفاق بعددها الخاص بالمسرح الصادر سنة 1966، واستهلال دراسة حسن الطريبق لهذه المسرحية به كذلك في رسالته الجامعية: الشعر المسرحي في المغرب: حدوده وآفاقه، لمعرفة مدى عاهات هذا النقد العليل الذي لا يحتاج إلى برهان أو دليل ، بغض النظر عن اختلال المنهج المتبع في هذا البحث ومحدودية مادته البيبليوغرافية وثنائية الإثبات والنفي والتجزيئ والتعميم وغيرها التي تعتريه، ما يقتضي دراسة خاصة بها يتعذر تناولها في هذا المقام. -غياب دراسة علمية خاصة بفعاليات وأنشطة "المهرجان الوطني للشعر المغربي الحديث"، المنظم من طرف جمعية أصدقاء المعتمد بن عباد بشفشاون، الذي كان يشكل مختبرا وطنيا للتجارب الإبداعية الشعرية بامتياز، انبثقت منه كوكبة من الشعراء الستينيين المعروفين بجيل الرواد من أمثال أحمد المجاطي المعداوي ومحمد الخمار الكنوني وعبد الكريم الطبال ومحمد الميموني وأحمد الجوماري وشاعرنا محمد البقالي، المؤسسين الأوائل للقصيدة المغربية الحديثة. -تأخر شاعرنا في نشر ديوان شعره الأول كنز الحكيم. -كثرة تنقل الشاعر في مسار مهامه المهنية المتعددة، فضلا عن ترحاله الطويل لمدة ليست بالقصيرة إلى إسبانيا والبرتغال وأمريكا اللاتينية لتقلد مناصب مختلفة، حسبما تمت الإشارة إليه في دراستي المنشورة بالصحيفة الإلكترونية هيسبريس. كما يدعونا أمر هذا الغياب والنبوغ إلى مساءلة ما أنجز من دراسات حول الشعر المغربي، سواء من حيث المناهج المعتمدة أو مواضيع ومظان الدراسة، ككتاب: تطوّر الشعر العربي الحديث والمعاصر في المغرب من 1830م إلى 1990م والأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه لعباس الجراري، و أحاديث عن الأدب المغربي الحديث لعبد الله كنون،وظاهرة الشعر المعاصر في المغرب: مقاربة بنيوية تكوينية والشعر العربي الحديث: بنياته وإبدالاته لمحمد بنيس، والقصيدة المغربية المعاصرة: بنية الشهادة والاستشهاد لعبد الله راجع، خاصة إذا علمنا أن هذه الدراسات اعتمدت بصفة أساسية وانتقائية على المجاميع الشعرية المنشورة، وما أنتجه مشاهير الشعراء المغاربة كعبد الله كنون ومحمد الحلوي وعبد الكريم بن ثابت ومحمد السرغيني وحسن الطريبق وعبد الله راجع، دون أن تنطلق من جرد شامل لكل النتاج الشعري المغربي المنجز، المنشور في مختلف الصحف والمجلات والكتب، باعتبار هذا المنطلق خطوة أولية أساسية لدراسة الشعر المغربي الحديث والمعاصر، وهذا ما يسمها لا محالة بالقصور في رسم صورة وافية شاملة لهذا الشعر وبمحدودية دراساتها ومناهجها المعتمدة ونتائجها المحصلة، بل إذا قارنا في هذه الدراسات المنجزة حول الشعر المغربي الحديث والمعاصر، مدى حضور وغياب الدواوين المغربية المنشورة حسب آخر بحث بيبليوغرافي محين الذي أمدنا به محمد يحيى قاسمي في كتابه: بيبليوغرافيا الشعر المغربي المعاصر (1923-2016)، رغم عدم ذكره مجموعة من الدواوين الشعرية كديوان شاعرنا محمد البقالي: كنز الحكيم وديوان محمد الرهوني: لمحات شعرية، أدركنا خطورة التهميش والانتقائية التي يعاني منها هذا الشعر من جهة، والقصور الكبير الذي يطبع هذه الدراسات من جهة أخرى. والملفت للنظر أن هذه القطيعة أو الجفوة المعرفية لم تجد سبيلها فقط بين الدراسات الأدبية والنقدية والبيبليوغرافية وبين المادة الشعرية المجموعة والمنفردة على حد سواء، بل حصلت كذلك بين هذه الدراسات نفسها، وخير دليل على ما أقوله دراسة الناقد محمد برادة القيمة حول الأعمال الشعرية التي ألقيت في أهم وأعرق مهرجان شعري مغربي وهو "المهرجان الوطني للشعر المغربي الحديث" بشفشاون في ستينيات القرن الماضي التي ينتمي إليها جيل الرواد والمؤسسين الأوائل للقصيدة المغربية الحديثة، حيث نالت قصيدة شاعرنا "المذكرة الأخيرة" في دورته الرابعة مرتبة الصدارة في الأداء الشعري بإجماع جميع نقاد المهرجان، كما اعتبرها ناقدنا "نموذجا لقصائد الشعراء المعاصرين الآخرين" وكذا حسب نص قوله: "نموذج نضج الشعر المعاصر في المغرب لمميزات مضمونية وفنية عديد، من أهمها أن ظل القصيدة ينم عن ثقافة شعرية وفكرية واسعة، كما أن صياغة القصيدة جمعت بين الاتساق والوحدة وتعدد طبقات النغمة الشعرية وأصالة الموضوع 'تأملات أخيرة لزنجي حكم عليه بالإعدام بتهمة قتل شرطي أبيض في حالة غضب'. إن القصيدة من بدايتها إلى نهايتها موفقة في نقل تجربة فريدة من نوعها، تجربة مضمخة بدم أسود، بحقد أسود، يرقص على إيقاعات الطبول التي تتابع دقاتها بإصرار لا حد له". كان هذا الحدث الشعري البارز وهذه المرتبة الشعرية العليا التي تبوأها شاعرنا، وشهادات الناقد الأكاديمي محمد برادة في حقه، ونشرها في أهم وأشهر صحيفة وطنية بالمغرب، و إذاعة الشاعر المغربي الكبير عبد الرفيع الجوهري لقصيدة شاعرنا محمد البقالي الفائزة على أمواج الإذاعة وشاشة التلفزة الوطنية بالرباط في اليوم نفسه الذي أنشدت هذه القصيدة، فضلا عن مشاركاته في أبرز مهرجانات الشعر التي كانت تقام في شفشاون والدار البيضاء ومكناس، أمرا كافيا لتهتدي الدراسات الموالية إلى معرفة متون أديبنا الشعرية ومواكبة ما تجود به قريحته الفنية المشهود لها بالنبوغ والتألق. إن غياب هذه الدراسة النقدية الرصينة التي أعدها صاحبها لفعاليات الدورة الرابعة للمهرجان الوطني للشعر المغربي الحديث بشفشاون، في منجز الدراسات النقدية والأدبية والتأريخية للشعر المغربي، ليدعو إلى التعجب والاستغراب والمساءلة: -كيف لم تقف الدراسات الخاصة بنقد الشعر وتأريخه عند فعاليات هذا المهرجان الوطني بشفشاون باعتباره عكاظ الشعر بالمغرب الذي استقطب سنويا نخبة من النقاد والشعراء الذين تباروا في منابره وتألق نجمهم عبر معراجه، من أمثال عبد الرفيع الجوهري وعبد الكريم الطبال وأحمد الجوماري، المصنفين في عداد رواد الشعر المغربي الحديث ؟!. -كيف لم تتم الاستفادة من هذه الدراسة النقدية الفريدة التي نشرت في حلقتين بصحيفة العلم الوطنية الذائعة الصيت ولسان حال الحزب الحاكم بالبلاد ؟!. -كيف يسوغ لهذه الدراسات عدم الوقوف عند أنشطة هذا المهرجان الوطني الذي يعد محطة هامة في إبراز وتوجيه ونقد تجارب شعرائنا بصفة خاصة، وتاريخ النقد الشعري الحديث بالمغرب بصفة عامة ؟!. -كيف لم يتم إنجاز دراسة وافية علمية حول أنشطة هذا المهرجان خاصة في فترته التأسيسية الستينية باعتباره "تيرمومترا لمعرفة تطور الحركة الشعرية بالمغرب"، حسب ما صرح به أحد مؤسسيه وهو المرحوم الشاعر محمد الميموني في إحدى حواراته الصحفية !؟. -ألا يكون المنزع الحزبي والإيديولوجي وما كان يثيره هذا المهرجان من انتقادات حادة بين بعض الشعراء والنقاد، وراء هذا الغياب ؟!. رغم أن الباحث محمد بنيس تعرض إلى هذا المهرجان في دراسته، إلا أنه تطرق إلى ذكره على سبيل التعريف به في ملحق بآخر كتابه: ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب: مقاربة بنيوية تكوينية، تحت عنوان: "المهرجانات الشعرية"، تضمن فقط بيانين حول دورتيه الأولى والخامسة وبعض الآراء النقدية في جوانب من تظاهراته، لكل من محمد الميموني وعبد الكريم الطبال ومحمد الهرادي وإدريس الخوري. وثالث الأثافي أن يعتمد الدكتور محمد بنيس على مجلة اتحاد كتاب المغرب: آفاق في بحثه المذكور، دون أن يلتفت في دراسته إلى عملين شعريين هامين لشاعرنا محمد البقالي، نشرا في المجلة نفسها: الأول مسرحية شعرية : "العهد الأنور"، مستوحاة من كفاح العرش والشعب، نشرت في عددها الرابع الخاص بالمسرح سنة 1966؛ والثاني قصيدة تحمل عنوان "الهيبي" ( (Hippieمنشورة في عددها الرابع لسنة 1969، أعتبرها بدعا في باب موضوعات الشعر المغربي الحديث. ناهيك أننا نجد ممن صنف ضمن زمرة الذين لم يسلم لهم قياد الشعر، ونصحوا بأن يتجهوا إلى مجال آخر للكتابة والتعبير، في "المهرجان الوطني للشعر المغربي الحديث" الذي أحرز فيه شاعرنا قصب السبق في نظم الشعر؛ واردا اسمه وشعره في بعض الدراسات من قبيل ظاهرة الشعر العربي المعاصر في المغرب: مقاربة بنيوية تكوينية لمحمد بنيس و شعر الطليعة في المغرب لعزيز الحسين. كل هذا وذاك يؤكد على حاجتنا الكبيرة إلى دراسة جديدة استقرائية موضوعية فاحصة ليس فقط لشعرنا المغربي الحديث والمعاصر، وإنما أيضا لنصوصه النقدية المتناثر في مختلف المنابر الثقافية والإعلامية، وكذا إلى كتابة علمية لتاريخنا الأدبي والنقدي على حد سواء. (يتبع)