ينطوي سؤال الماهية في الإعلام العمومي المغربي على فوارق، تستمد شكلها الهندسي من خاصيات يمكن بسطها في فكرة الإعلام، هل راكم تجربة وأسس قيما، وأسهم في مناقشة التحولات الجديدة وكرس طبيعة الخلل الذي استحوذ على بنائية الميديا؟ أم أن الإعلام ظل طيلة أجيال مرهونا بالتقاطعات الهوياتية والثقافية واللغوية، ومنحازا للسلطة بما هي أداة ووسيلة للتحريف والبروبجندا والتوجيه السلبي؟ لا بد أن لمعنى الإعلام في الموجهات الرسمية للسلطة الحاكمة مهمات استثنائية تقوم أساسا على قدرته الفائقة على مبارحة تعقد الواقع والتجاوب الدينامي الفوري مع المتغيرات، دونما الحاجة إلى تشكيله كقوة ناعمة تتجاوز الصور النمطية للإعلام وتواكب مجمل التطلعات والانتظارات التي تقف عليها الرسائل المروجة والرموز المتحاملة. إن هذا القلق المفاهيمي لدى دارسي نظريات الإعلام سيكرس مجزوءا كبيرا وحماسة منقطعة النظير عندما يتعلق الأمر بتقييم تجربة مارست فيها السلطة طيلة أعوام دمارا عنيفا واستقطابا واسعا، اصطرعت فيه أحلام أجيال راودت سبر نظام إعلامي قمين بالمرحلة متماه مع تجربة تختمر تحت ظلال من التيه والخوف وسوء التدبير. وتطور الصراع إلى ما يشبه عملية انتحار بطيئة، استعملت فيها كل وسائل التدجين وتشويه الحقائق وتمييع قيم الإعلام وأخلاقياته. ولم يعد الأمر خافيا على عموم من استوعبوا مرحلة تمليك الداخلية أيام الرصاص، وأضحى التقليد وممارسة الاستبلاد ومنطق التعليمات ومراوحة الفكر ضلعا من تدهور العملية الإعلامية التواصلية. فشلت السلطة الحاكمة من حيث فشل إعلامها ومطبلوها الحائزون على نعم الرضا والعطف والدلال. وكما قال جورج جرينر إن حجم العنف السلطوي، الذي يمكن أن تمارسه لغة المستبد، أكبر بكثير من احتمال قياس آثار وسائل الإعلام البديلة عندما يتعلق الأمر بتحديد وتقويم القيم وأولويات ترسيم الأدوار والبرامج. لقد استعان المخزن سبعينيات القرن الماضي بسلطة ممارسة الإعلام كاملة وانحاز إلى الفردانية وتسبيغ المواطنة كآلة للتقيد بضوابط وقطعيات لا تؤدي ما كان أساسيا من التماس المعرفة وإحداث فجوات بإزائها، وتمثيل المعلومات ونظرية الإطار الإعلامي فيها. وصار الحديث عن عمل حارس البوابة الإعلامية الذي هو السلطة الحاكمة تقويضا لمؤثرات عوامل وجوده، حيث انقلبت المعايير رأسا على عقب وتقلص فعل التنشئة الاجتماعية والوعي السياسي والحق في التعليم والصحة والشغل، وكذا الاتجاهات والميولات والانتماءات والجماعات المرجعية. وابتدعت وسائل الإعلام الجديدة ما بعد الألفية الثالثة أساليب جديدة ممنطقة بروح التأويل وعولمة الحواس والتطبع بالسرعة وعدم مناجزة الخبر بفعله الزمني ودواله القصدية، وصار معها المخزن يحاكي سيرورة الإغواء الزمني وروح العصر، فاختار أن يمارس لعبة القط والفأر، حيث ينام الأول في جيب المصيدة، بينما يقع الثاني في مكيدة منتظرة. تحولت الميديا إلى مجال لتمجيد البروبجندا، وارتدى القراصين الجدد قمصان التخفي، والتبديل والاستفراغ وتشكيل بؤر للتدريب على السرعة النهائية. لم يعد لقيمة الخبر الصادق أي معنى، وانصاع الباقون ممن استهوتهم ديمقراطية الإعلام الجديد كباقي النياشين المعلقة بين الضمير وما تبقى من صمود فاتر ونفاذ للبصيرة تحول إلى يأس وكآبة. هل نتحدث فعلا عن تضبيعنا من قبل إعلام مضبع أم إننا نتبادل اتهامات تحويل عقولنا إلى مزابل استنفذت كل درجات التضبيع؟ لا وقت لذلك طبعا، لكننا منخرطون فعليا في تكريس هذه النظرية الاستعارية، التي تبلغ حدودا تأويليا قاسيا، وإفرازا واقعيا لمظاهر تقويض إعلام يعتبر راهنا كأحد أهم الصناعات الاستراتيجية في التنمية وتطور الإنسان. من الضروري والحتمي الآن أن يتغير الإعلام في بلادنا ويرتقي بمآلاته، أن يصير في ضوء التطور العميق في وسائل الاتصال والتكاثر وانفجار المعرفة، صوتا مستقلا مسموعا، بشخصية ذات صفة وهوية ومرجع، وإبداعية ثقافية مفتوحة ومتحولة، إعلاما يضبط إيقاعاته على كل أشكال التفكير والحوار والتسامح، يوازن بين الشكل والمضمون، بين الهدف والمتلقي، حتى يمنح الاتصال ثماره في الاكتمال والتمدد. [email protected] https://www.facebook.com/ghalmane.mustapha