باسم الله الرحمان الرحيم نجحت جهات معينة، الله أعلم بما تخفيه صدورها، في نفخ روح خبيثة في مواضيع ميتة. وأمام سكوت العلماء الفعليين، على هذا المنكر، بدأت أفكار دخلية وخطابات مستوردة، في الانتشار بحرية على مواقع التواصل الاجتماعي، ما خلق -في أحسن الأحوال- حالة من الضبابية، وفي أسوئها فتح بابا من أبواب الفتنة قد تتسلل منه كثير من الشياطين. مسألة "المتعة" مثال ناطق على ذلك، خاصة حين نستحضر الهوية المذهبية لمن يجيزون هذا النوع من الممارسات.. وقد فرض السجال الدائر حولها حاليا، تسجيل المعطيات التالية.. والله تعالى أعلى وأعلم.. * إضاءات.. - "الحشد الشعبي" وغيره من التنظيمات المشابهة.. ليست فقط ميليشيات مسلحة تنفذ الأجندات الإيرانية في مناطق معنية من العالم العربي، بل تتنوع أساليب عملها في كثير من الجبهات، فهناك حشد شعبي في الإعلام، وآخر في العمل الخيري والجمعوي وثالث في مجالات العلوم الشرعية، ورابع في مواقع التواصل الاجتماعي... إلخ.. وهذه وغيرها أخطر من الفصائل المسلحة التي تخوض حروبها بوجوه مكشوفة، وبأهداف معلنة. .. - من الأدوار التي يضطلع بها هذا "الحشد"، خاصة في الدول التي تتمتع بوحدة المذهب، ولا توجد فيها طوائف يمكن استغلال صراعاتها وخلافاتها للتسلل إلى عمق المجتمع، محاولة اختراق بعض الفئات التي لا تتوفر على المناعة الكافية لصد هذه المحاولات.. - محاولات الاختراق هذه، تعتمد أدوات متنوعة تبعا لتنوع الفئات والشرائح المستهدفة بها، وإحدى أهم هذه الأدوات تتمثل في جر الناس إلى نقاش مواضيع، يفترض أن حكمها محسوم ولا مجال للخوض فيها أصلا. لكن تحويل هذه المواضيع إلى مجال للأخذ والرد والسجال، هو غاية وليس وسيلة فقط.. لأن إخراج مسألة من دائرة الحسم إلى متاهات الجدال هو إنجاز في حد ذاته. - لا يشك اصغر طالب علم في أن هؤلاء لا يقدمون، شبهة حجة بله حجة.. لكنهم يعتمدون سبيلين في تسويق بضاعتهم المزجاة: أولهما المكابرة والعناد ورفض الإقرار بالهزيمة مهما كانت آثارها بادية للعيان. وثانيهما، ممارسة أقصى درجات الاستفزاز، بما في ذلك السب بأفحش الكلام، لدفع بعض الأشخاص -تحديدا- للرد وبالتالي المشاركة مرغمين في نقاش يدركون جيدا الهدف الحقيقي من وراء افتعاله. والمشكل هنا، أن المشهد بالنسبة لكثير من المتابعين من الذين ليس لهم اطلاع على خلفية ما يجري، يتلخص في وجود طرف يتحدى ويعلن استعداده لكل أشكال المواجهة، من المناظرة إلى المباهلة، مقابل أطراف أخرى تلتزم الصمت الذي يفسر تلقائيا على أنه ضعف حجة وقلة حيلة، مع أن الواقع غير ذلك. ولهذا حتى حين يضطر احد هؤلاء إلى الرد، فإن الأمر لا ينتهي إلى مقارعة الحجة بالحجة، بل إلى سعي متواصل لإطالة أمد النقاش ما أمكن، وإغراق المتابعين في جزئيات الجزئيات، وفي المراوغة والقفز من حبل إلى حبل، فقط لتضبيب الصورة، ودفع بسطاء الناس إلى الشك حتى في بعض المسلمات.. * نماذج.. هناك تقنيات معروفة، ليست جديدة على كل حال، ربما يستشهد بها البعض أحيانا من باب التنكيت، لكنها فعالة جدا خاصة على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي.. مثلا هناك تقنية اللعب على الأسماء والمسميات.. فمن اللواط إلى الشذوذ الجنسي إلى المثلية.. ومن الحديث عن ممارسة جنسية مخالفة للطبيعة البشرية وللفطرة السليمة.. إلى مناقشة موضوع زواج المثليين.. وهناك تقنية أخرى، قريبة من سابقتها، تتمثل مثلا في اللعب على بعض المفاهيم من قبيل "زواج المتعة"، الذي يتحول مع تواصل النقاش من حرام بين، إلى "رخصة شرعية"، ثم إلى وسيلة "عملية" لحل إشكاليات العنوسة والدعارة والفوضى الجنسية والكبت..إلخ.. لتبسيط الصورة أكثر، إليكم المثال التالي: شاب عرض على شابة الاستمتاع بها لمدة ساعة أو أقل مقابل مبلغ مالي معين. إذا تمت العملية في إطار صفقة المال مقابل الجنس .. فهي زنى.. لكن إذا تمت في إطار "المتعة" المحتفى بها، فهي زواج شرعي على كتاب الله وسنة رسوله.. هل يمكن لعقل سوي أن يقبل هذه المعادلة؟ * السم في الدسم.. كما قلت سابقا، فغالبا ما يتم تقديم "وصفات" ملفقة على أنها "اجتهادات" شرعية، تعتمد على الكتاب والسنة وأصول التشريع، لحل مشاكل يعاني منها المغاربة -وغيرهم-، والتي غالبا ما تتطور لتتحول لاحقا إلى معضلات اجتماعية واقتصادية ونفسية وسياسية.. هذا الكلام يجد حتما سوقا رائجة في بعض الاوساط غير المحصنة ضد الفكر الدخيل.. فكثير ممن يتعاطون الزنى بانتظام، سيجدون في "المتعة" حلا لتنويم ضميرهم الديني وحتى الإنساني. فالمسألة في النهاية ترتبط ب"نوعية" العقد، وب"النية".. وهنا مكمن الخطر. لا أريد هنا التوقف عند المخاطر الحقيقية التي يمكن أن تنجم عن ممارسات من هذا النوع، ولكن أشير فقط إلى مسألة تغيب عن كثيرين، تتمثل في أن الخوض في موضوع العلاقات الجنسية بالطريقة التي يعتمدها "الحشد الشعبي" في قضية "المتعة"، تحيل على كلام نفيس أورده الشيخ أبو الأعلى المودودي في تفسيره لسورة النور، خلاصته :"الشيء الوحيد الذي يمكن أن يقوي المسلمين ويدفع بهم إلى الرقي والتقدم، هو تفوقهم المعنوي الذي جعل أعداءهم على مر التاريخ يسعون لاختراقه بشتى السبل والوسائل. ومن طبيعة اللئام أنهم إذا رأوا محاسن غيرهم، ومساوئهم هم واضحة، وعلموا أن محاسن هذا الغير هي السر في تقدمه ورقيه وأن مساوئهم هم، ومواضع الضعف والانحلال فيهم، هي التي تضع من شأنهم وتهزمهم، يعملون جهدهم لجره إلى أوحال الرذيلة. هذه العقلية الدنيئة هي التي حولت مساعي أعداء الإسلام في أحيان كثيرة من الأعمال الحربية الظاهرة، إلى العمل على نشر الرذيلة وإشعال الفتن داخل المجتمعات الإسلامية". * هل المتعة زنى؟ إن مجرد طرح السؤال بهذه الطريقة، فيه توجيه غير بريء للقارئ غير المطلع. فأول ما قد يفعله هذا الأخير، هو استفسار "الشيخ غوغل"، الذي سيجيبه في نهاية المطاف أن أقصى ما في المسألة أن عقد "المتعة" شبهة تسقط حد الزنى. وهذا ما يسعى إليه أصلا، واضعو السؤال كما أشرت أعلاه، أي التشكيك حتى في المسلمات والبديهيات، والقفز من بيان حكم "المتعة" إلى مناقشة آثارها المحتملة. ولأن القاعدة تقول :"لا حد في زواج مختلف على صحته"، فسرعان ما سيركز هؤلاء على أن هذا إقرار ب"شرعية" هذا "الزواج" المختلف فيه. لكن لنتوقف عند بعض التفاصيل: - مبدأ درء الحدود بالشبهات موضوع فيه كثير من التفاصيل، بين من يتوسع فيه كالحنفية، ومن يلغيه بالمرة كالظاهرية، وبين المذهبين هناك آراء كثيرة ومتنوعة، ولا يمكن "سلقه" في بضع جمل أو فقرات. - هذا الخلاف لا يؤثر على مبدإ آخر أهم، يتعلق بكون المعيار في هذا "الدرء" شخصيا وليس موضوعيا، كما يقول أهل القانون، أي أن كل واقعة ينظر إليها في إطار ملابساتها الخاصة. فلا يمكن مثلا القول بأن كل من عقد "المتعة"، يستفيد من مبدإ درء الحد بشبهة العقد، لأن الحد لا يدرأ لشبهة العقد -كما في حالتنا هذه- ما دام الجاني عالماً بالتحريم. مثال بسيط تطبيقي: من شرب سائلا معينا وهو يعلم أنه مسكر، بدعوى أنه يعرض في المحلات ضمن رواق العصائر، هل نقول إنه يستفيد من شبهة تدرأ عنه الحد. نفس الشيء ينطبق على "المتعة"، فنحن نعيش في زمان ترسخت فيه القواعد والأحكام المحرمة لهذا النوع من العقود، ولم يعد هناك في وطننا -على الأقل- من يمكن أن يعتبر "المتعة" زواجا سليما من الناحية الشرعية والقانونية، حتى نلتمس له العذر تحت عنوان "الشبهة".. خاصة وأن مدونة الأسرة تعرف الزواج في مادتها الرابعة بأنه "ميثاق تراض وترابط شرعي بين رجل وامرأة على وجه الدوام، غايته الإحصان والعفاف وإنشاء أسرة مستقرة، برعاية الزوجين..".. فكيف تتحقق شروط الدوام والإحصان والعفاف والاستقرار وإنشاء أسرة، في إطار "زواج" قد لا يستمر سوى دقائق معدودة؟ - إن الشبهة إن استجمعت كافة شروطها، تعفي من الحد، لكنها لا تمنع من معاقبة مرتكب الفعل الممنوع، بما هو دون الحد، وهنا أيضا المسألة تخضع لمعيار شخصي، ولقناعة القاضي وسلطته التقديرية، تبعا لملابسات كل نازلة على حدة. - إنه من لمن الاستخفاف الواضح بحدود الله تعالى، محاولة إيجاد "مخارج" مضللة، لتسهيل وشرعنة الوقوع في الحرام، عن بينة وسابق علم. * خلاصات: يتضح مما سبق ما يلي: - أن محاولة فتح نقاش حول مسألة محسومة دينيا وقانونيا في المغرب، هي في الحد الأدنى "عبث" يفترض أن تنزه عنه أفعال وأقوال العقلاء، وإلا فإن هناك شواهد كثيرة تشير إلى أن هذه المحاولة تندرج ضمن مخطط دبر بليل، أداة تنفيذه "الحشد الشعبي" وما يشبهه، كما تم توضيحه أعلاه. ومن مؤشرات ذلك، أن مروجي هذا العبث، يرضونه فقط لبنات وأخوات ونساء الآخرين، ويغضبون حين يسألون عما إن كانوا يرضونه لبناتهم وأخواتهم وعموم قريباتهم. - أن سكوت المؤسسة العلمائية الرسمية على ما يجري، وإن كان مبرره الترفع وعدم الانسياق وراء الغوغائية التي يجتهد البعض في ترويجها، إلا أنه يفتح الباب أمام "الحشد الشعبي" للاستفراد بالساحة، أو إلى تطوع جهات لا تتوفر لا على المؤهلات العلمية ولا على القدرات التواصلية المناسبة، لخوض معركة، الخاسر الأكبر فيها هو الوطن ووحدته المذهبية. - لابد لهذه المؤسسة أيضا من تسجيل حضورها بقوة على مواقع التواصل الاجتماعي، لأن الاكتفاء بالبلاغات الرسمية لن يكون له أثر فعلي وفعال، بل لابد من مواجهة الخطاب الدخيل في الساحات التي يصول فيها ويجول. - ضرورة الانتباه إلى خطورة استغلال بعض المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، للتسلل ونشر أفكار خبيثة وهدامة، سيكون لها أثرها المدمر في مستقبل منظور. - في ما يخص "المتعة" تحديدا، فهي لن تكون فقط مدخلا لشرعنة الزنى، وتشجيع الدعارة، بل ستكون بابا لشر مستطير، ضحيته الأولى المرأة، وما قد ينتج عن هذه العلاقة من أطفال. https://www.facebook.com/my.bahtat