المؤبد والسجن النافذ لمرتكبي جريمة قتل شاب في حي المطار بالجديدة    حيازة حيوانات مهددة بالانقراض والاتجار فيها يجر شخصين للاعتقال بالناظور    بايدن: إسرائيل ولبنان وافقتا على اتفاق وقف إطلاق النار في الساعة 4 صباحا من يوم الأربعاء بتوقيت البلدين    وفد عسكري مغربي يزور حاملة الطائرات الأمريكية 'هاري ترومان' في عرض ساحل الحسيمة    تراجع مفرغات الصيد بميناء طنجة بنسبة 29% وانخفاض القيمة التجارية إلى 134 مليون درهم    الملك محمد السادس يدعو إلى حلول عملية لوقف النار ودعم الفلسطينيين إنسانياً وسياسياً    نقص حاد في دواء السل بمدينة طنجة يثير قلق المرضى والأطر الصحية    اتحاد طنجة لكرة القدم الشاطئية يتأهل إلى مرحلة البلاي أوف من البطولة الوطنية    فتح تحقيق في محاولة تصفية مدير مستشفى سانية الرمل تطوان    سبتة ترفض مقترحا لحزب "فوكس" يستهدف المهاجرين والقاصرين    الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل سيدخل حيز التنفيذ فجر الأربعاء    العلمانية والإسلام.. هل ضرب وزير الأوقاف التوازن الذي لطالما كان ميزة استثنائية للمغرب    عصبة الأبطال.. الجيش الملكي يهزم الرجاء بعقر داره في افتتاح مباريات دور المجموعات    لجنة الحماية الاجتماعية تجتمع بالرباط    المغرب يستعد لإطلاق عملة رقمية وطنية لتعزيز الابتكار المالي وضمان الاستقرار الاقتصادي        بنسعيد: "تيك توك" توافق على فتح حوار بخصوص المحتوى مع المغرب        "نعطيو الكلمة للطفل" شعار احتفالية بوزان باليوم العالمي للطفل    وفاة أكبر رجل معمر في العالم عن 112 عاما    لحظة ملكية دافئة في شوارع باريس    سعد لمجرد يصدر أغنيته الهندية الجديدة «هوما دول»    الجنائية الدولية :نعم ثم نعم … ولكن! 1 القرار تتويج تاريخي ل15 سنة من الترافع القانوني الفلسطيني        دين الخزينة يبلغ 1.071,5 مليار درهم بارتفاع 7,2 في المائة    معاملات "الفوسفاط" 69 مليار درهم    المغرب جزء منها.. زعيم المعارضة بإسرائيل يعرض خطته لإنهاء الحرب في غزة ولبنان    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    في حلقة اليوم من برنامج "مدارات" : عبد المجيد بن جلون : رائد الأدب القصصي والسيرة الروائية في الثقافة المغربية الحديثة    الجزائر و "الريف المغربي" خطوة استفزازية أم تكتيك دفاعي؟    نزاع بالمحطة الطرقية بابن جرير ينتهي باعتقال 6 أشخاص بينهم قاصر    الجديدة مهرجان دكالة في دورته 16 يحتفي بالثقافة الفرنسية    التوفيق: قلت لوزير الداخلية الفرنسي إننا "علمانيون" والمغرب دائما مع الاعتدال والحرية    اللحوم المستوردة تُحدث تراجعا طفيفا على الأسعار    مسرح البدوي يواصل جولته بمسرحية "في انتظار القطار"    شيرين اللجمي تطلق أولى أغانيها باللهجة المغربية    توهج مغربي في منافسة كأس محمد السادس الدولية للجيت سكي بأكادير    الأمم المتحدة.. انتخاب هلال رئيسا للمؤتمر السادس لإنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط    برقية شكر من الملك محمد السادس إلى رئيس بنما على إثر قرار بلاده بخصوص القضية الوطنية الأولى للمملكة    القنيطرة.. تعزيز الخدمات الشرطية بإحداث قاعة للقيادة والتنسيق من الجيل الجديد (صور)    توقيف فرنسي من أصول جزائرية بمراكش لهذا السبب    اتحاد طنجة يكشف عن مداخيل مباراة "ديربي الشمال"        مواجهة مغربية بين الرجاء والجيش الملكي في دور مجموعات دوري أبطال أفريقيا    حوار مع جني : لقاء !    غوارديولا قبل مواجهة فينورد: "أنا لا أستسلم ولدي شعور أننا سنحقق نتيجة إيجابية"    الدولار يرتفع بعد تعهد ترامب بفرض رسوم جمركية على المكسيك وكندا والصين    المناظرة الوطنية الثانية للفنون التشكيلية والبصرية تبلور أهدافها    تزايد معدلات اكتئاب ما بعد الولادة بالولايات المتحدة خلال العقد الماضي    إطلاق شراكة استراتيجية بين البريد بنك وGuichet.com    الرباط.. انطلاق الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية    منظمة الصحة: التعرض للضوضاء يصيب الإنسان بأمراض مزمنة    تدابير للتخلص من الرطوبة في السيارة خلال فصل الشتاء        لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هذه عناصر لفهم سلبية الأداء الحزبي والبرلماني الجديد بالمملكة
نشر في هسبريس يوم 02 - 01 - 2018

من أجل إعادة طرح سؤال البرلمانية المغربية في سياق دستور 2011 المرتهن بدوره إلى سياقات فورة اجتماعية ذات عمق سياسي حقوقي، عاشتها المنطقة العربية بشكل "مسرحي ميمي"، بدون أوراق إخراج صريحة أو سيناريوهات بناء واضحة، حيث غابت فيها الرؤية المحددة للإجابة على أسئلة ومفاهيم الدولة والمجتمع والسلطة والوسائط، وطغت فيها نبرة الغبن و"التغابن الجماعي" على ظلم بعضهم البعض وعلى "تفرعن" حاكم الماضي، بدون تقديم بديل آمن ومؤمن للمستقبل من مخاطر سياسات الماضي.
داخل هكذا سياق للتظلمات والمظالم، وعلى "خشبة الشوارع الكبيرة"، للتعبير الشعبي المتفجر عن مشاعر الغبن السياسي وما رافقه من غبن "خبزي" معيشي في المنطقة، كان الرد والمخرج في المغرب هو تقديم كمية جديدة من التدابير لإدارة إصلاح الدولة، من منظور الإبقاء على هرم المؤسسات في أساسه القديم، تهدف في مجملها إلى إعادة ترميم وصياغة المؤسسات الدنيا داخل هرمية الدولة، من خلال إنتاج روابط وجسور جديدة فيما بينها، تروم توسيع قواعد العلاقات التفاعلية فيما بينها بشكل قد يعطي الدينامية المطلوبة من أجل التطور المنشود في بناء صرح دولة تحترم القانون وتقف على حقوق الجميع.
من بين أهم ما ميز الإنتاج المعياري الجديد تبني شكل النظام البرلماني في شقه المرتبط بإعادة تأسيس شرعية ومشروعية رئاسة الحكومة، في ارتباطها بالبرلمان وتمكينها من آليات قانونية جديدة لممارسة السياسة وإنتاج السلطة. تميز أيضا المنتوج الدستوري الجديد بمنح مساحة حركة جديدة للبرلمان بتوسيع مجاله المحفظ دستوريا في إطار ثلاث وظائف رئيسة ومحورية؛ المساهمة في إنتاج السياسة الوطنية العامة من خلال التشريع والاقتراح في فروعها الكبرى، ثم ممارسة نوع من المحاسبة الضبطية للمخالفات والاختلالات التنفيذية، وأخيرا وظيفة التواصل والوساطة المجتمعية على أمل الإصرار على نشر ثقافة القانون داخل الدولة وانبثاقاتها داخل المجتمع من جهة، ومن جهة أخرى وضع الدولة أمام الصورة الحقيقية للمجتمع وتطلعاته من خلال الحوار المؤسساتي العام.
غداة تبني دستور 2011، أقر الجميع بأن البلاد تعيش وضعا استثنائيا، فتبنت دستورا اعتبر وقتها استثنائيا سواء في سياقه أو في خطاطته المؤسساتية والقيمية؛ وبذلك كان يتعين على أول حكومة وأول برلمان في زمنه أن يشتغلا أيضا بالروح الاستثنائية نفسها للبناء وألا يتم طي صفحة السياق العام والخاص بمجرد ظهور نتائج انتخابات نونبر 2011، لتعود الأحزاب التي تحمل جينات ولادة إدارية سياسية لما قبل الزمن الدستوري الجديد إلى ممارسة ثقافة تدبير علاقاتها على إيقاع قواعد الزمن السابق، وتعود للتنافس الحاد والاصطفاف الحزبي وإلى منطق أغلبية معارضة بحجة أن الديمقراطية تقتضي ذلك، في الوقت الذي مرت فيه كل تلك الأحزاب من زمن ما قبل 2011 المشوب بعيوب "الرضى والتعاقد السياسي"، إلى زمن الدستور الجديد بالقيادات والنخب والبروفايلات والعقليات نفسها بدون عقد مؤتمرات مواكبة للعهد الدستوري الجديد وللسياق المنفجر، لإنتاج قيادات جديدة تتماشى مع زمن الربيع.
فكان أن فشلت الحكومة الأولى في الولاية التشريعية الأولى لما بعد دستور الربيع في تنزيله كما ينبغي، وفي خلق الإجماع والتوافق، فعاشت البلاد فترات تعطل للمؤسسات وللإنتاج التشريعي والتنظيمي، من خلال رفض متبادل بين المؤسسات، والمبادرات والمبادرات المضادة، بل وتوقفات طويلة الأمد بسبب اصطفافات داخل الدولة لم يستطع الحزب الأغلبي آنذاك أن يخترقها ويتبنى منطق التوافق والتشارك الحقيقي، لسبب شخصي بسيط، هو الخوف على صورته من التلطخ بسبب الصورة الأخلاقية والرمزية التي قدمها للمجتمع، وبالتالي الخوف من فقدان المساحات الانتخابية؛
وبذلك جسد أنانية سياسية استغلها خصومه جيدا، فبدل الانكباب على معالجة وإصلاح الدولة من خلال مبادرات جديدة وأفكار مبدعة، أصبحت البلاد تعيش معارك الوجود السياسي والاعتراف، وغيرها من معارك تواصلية إعلامية استهلكت زمن الدولة التشريعي لفائدة زمن الفرجة السياسية، كل هذا جعلها ولاية تشريعية سلبية جدا وانطلاقة غير سليمة لما بعد دستور 2011.
الأداء البرلماني، التقاعس وانعدام الفعالية.. الأسباب العميقة
مؤكد أن الأسباب الكامنة وراء الأداء البرلماني المغربي غير المقنع وغير المواكب عميقة جدا ومتعددة وليست مرتبطة فقط بمزاج المنتخبين أو ضعف بروفايلاتهم، بل تتعداه إلى أبعد من ذلك لتلامس طبيعة النظام السياسي، منطق اشتغال الأحزاب السياسية، إلى منظومة القيم المجتمعية ككل.
هذه العناصر الثلاث تساعد على فهم وإدراك الواقع البرلماني والمؤسساتي، ووصفه بشكل سليم إلى حد بعيد.
حول النظام السياسي
يبدو أن طبيعة اشتغال المؤسسات وسمو بعضها على البعض في إنتاج الحلول وتدبير الدولة وإدارة الأزمات، يخلق نوعا من السلبية والتقاعس لدى مؤسسات أخرى. معروف أن السياسي أو السياسة من خلال الممارسة الانتخابية والتمثيلية يفترض فيه أن ينتج السلطة وأن يمارسها، بعد تصدره المشهد عن طريق الاستحقاق العام، يمارسها عن طريق إحكام السيطرة السياسية على مراكز إنتاج القانون والتنظيم لتنفيذ تصوراته ورؤاه في بناء هياكل الدولة والمجتمع، طبقا للخطاطة الديمقراطية.
غير أن الوضع في المغرب مختلف؛ ذلك أن المؤسسة الملكية، التي تمتلك جوهر السلطة الحقيقية، غير خاضعة للمزاج الانتخابي، وغير مصنفة ضمن هرمية مؤسسات التدبير العادي، بل هي مؤسسة عليا، منتوج حصري للتاريخ ولصراعاته الطويلة، تشتغل ضمن كثافة أعرافها التأسيسية الممزوجة بالقاعدة القانونية العصرية في ما يتعلق بإدارة مرؤوسين كبار موكول إليهم مهام تصريف شؤون الرعية، بعد رضى الرعية عنهم عبر الانتخاب، ومنهم من هو غير خاضع لهذا الرضى باعتبار الملك هو أيضا ممثلا أسمى للأمة وللشعب ومعبرا عن إرادته ومجال تدخله غير محصور في سلطة واحدة، بل يتعداه إلى الممارسة، طبقا للقانون وحسب الحالات والظروف، إلى كل جسد الدولة من خلال توجيه "رؤوسها" المعروفة، القضائي، التشريعي والتنفيذي، وقد تجلى هذا بشكل واضح في تدبير احتجاجات الريف للسنة الماضية.
من هذا المنظور، تولدت لدينا تنفيذية سلبية، تنتظر التوجيه وتخشى المبادرة، برلمانية سلبية تمارس ردود الفعل ولا تقوى على المبادرة الحقيقية، تحت حجة دفينة وغير معلنة هي أن الملك الوحيد من يمكنه سبر أغوار كل المشاكل لحلحلتها، وأنه سيتدخل في الوقت المناسب لممارسة السلطة الحقيقية لقيادة الدولة، هذه الذهنية وهذه الثقافة خلقت نوعا من عدم الإحساس بالمسؤولية، ونوعا من "الفزع" والتردد على الإقبال على المبادرة، مخافة معاكسة توجهات الملك ومخافة "غضبه وعدم رضاه".
هناك أيضا أمور أخرى تجعل من مؤسسة البرلمان مؤسسة غير محددة الهوية، هل وجودها مرتبط بإتمام عمل السلطة العليا للبلاد، باعتبارها أيضا تمارس مهمة تمثيل كتلة من الناخبين وباعتبارها تتلقى توجيهات عند بداية كل سنة تشريعية؟ هل موقعها هو من أجل مساعدة الحكومة نظرا لكون الحكومة صاحبة اليد العليا في تقديم مبادرات التشريع محصنة بعدة نصوص تحد من تدخل البرلمان في عملها أم من أجل مراقبتها ومحاسبتها ومجازاتها إن اقتضى الحال؛ الشيء الذي يحتاج إلى توافر شروط صارمة لذلك؟
الأحزاب السياسية أي علاقة بهذه الأزمة؟
سؤال الحزبية المغربية ليس ببعيد عن أزمة العمل البرلماني وتكريس الفشل والضعف. وكما يرى عدد كبير من المختصين في الشأن السياسي المغربي، تكمن أهم الاختلالات في المشهد السياسي المغربي، في ضعف وفتور القوى الحزبية، سواء من منظور تنظيمي أو خطابي أو تأطيري.
نحن أمام ظاهرة حزبية غريبة تكاد تكون هجينة وغير قابلة للتصنيف في إطار التصنيفات السياسية المقارنة؛ ذلك أننا إزاء أحزاب سياسية فقدت القدرة الفكرية والنظرية على التعرف على ذاتها، أحزاب لا تملك القدرة على تحديد هويتها النظرية والسياسية بين التصنيفات الكبرى؛ الليبرالية، الديمقراطية الاجتماعية، الإسلامية، إلى غير ذلك.
أمامنا أحزاب تؤمن بالليبرالية وتتبنى قاموس الاشتراكية والأحزاب الاجتماعية، أو العكس، أحزاب ذات عمق تأسيسي اشتراكي يساري وتتبنى خطاب الليبرالية، وأحزاب أخرى لا تتبنى أي توجه وليس لها أي أفكار واقعية عن مرجعيتها النظرية والسياسية، وهكذا تتوفر لدينا جملة من التناقضات الهوياتية الحزبية في المشهد.
ما يميز الحزب السياسي هو تملكه للأدوات الفكرية والسياسية لإنتاج نفسه، لإنتاج خطابه المتميز، لإنتاج نموذج المناضل المتوغل في المجتمع ثم قدرته على صناعة الأطر المأمول فيها تدبير الشيء العمومي عن طريق التكوين والتدريب والتأطير السياسي والحقوقي القوي.
أحزاب سياسية لم يعد لها ذلك الدور الإنساني الفلسفي الاجتماعي الوجودي، لم تعد تهتم لبناء تصورات نظرية بمساعدة المثقفين بقدر ما ترى في ذواتها مجرد موجودات سياسية استسلمت لفكرة أنها صنعت لأداء مهمة داخل الزمان والمكان ولمطابقة خطاب الدولة، تهدف إلى محاصرة أي تيار غير منصاع للتوجهات التقليدية للدولة أو للذي يسعى إلى بناء محاولات لتغيير قيم تداول السلطة.
أحزاب المهام les partis missionnaires هاته ليس لها مرجعيات دقيقة وواضحة وليس لها خطاب متميز ملاءم للعهد الجديد وللتحديات المطروحة في زمن العولمة وفي زمن ما بعد ما سمي بالربيع الديمقراطي أو العربي، أحزاب لا يهمها صناعة مناضل متشبع بالثقافة الحقوقية ومكون نظريا على المحاججة والمرافعة من أجل القضايا المجتمعية، أحزاب ليس لها أي تصور عن المجتمع الذي تريد وعن المدرسة والمقاولة والمحكمة وغيرها، اللهم إلا تبني بعض العناوين الفضفاضة، مستعملة ثقافة الجينيريك بدون عمق نظري وفلسفي، أحزاب تواصلها الوحيد هو خلال فترة الانتخابات، برامجها مجرد إعلان نوايا ومبادئ عامة، أحزاب هدفها هو التضخم العددي الانتخابي بدون تأطير وتكوين وإعادة تربية على مفهوم الدولة والمواطنة، أحزاب تبحث عن زبائن انتخابية في عملية شبيهة بالمعاملات التجارية، تضم في صفوف قيادييها بورجوازية غير مواطنة، تبحث عن الزبائن الكبار من رجال الأعمال والمال بدون أي تكوين على مفاهيم العمل السياسي من داخل مؤسسات عمومية لا تتوخى الربح المادي في فلسفتها.
أمام هكذا أحزاب، عن أي برلماني يمكن الحديث؟ الجواب واضح. برلماني غير مكون، غير مدرب على المبادرة والتفاعل وتقبل النقد وتدبير الاختلافات، غير واع بأولويات بلاده، مهتم فقط بمصلحته الشخصية التي ينصرف إليها مع أي احتكاك مع مصلحة حزبه وبلده.
إذن نحن إزاء بناءات غير سليمة من وجهة نظر فكرية وفلسفية وسياسية، نحن أمام أحزاب غير قادرة على إنتاج خطابها وذاتها، وبالتالي لن تكون قادرة على إنتاج وقود بشري يبني المؤسسات ويطور الأداء.
منظومة القيم.. الغائب الأكبر في تحليل أزمة الذهنيات السياسية والمؤسساتية
تلك مسألة أعمق تشمل المجتمع والدولة ككل. منظومة القيم مرتبطة أساسا بمنظومة التربية والتكوين وبالقيم الاجتماعية التداولية داخل بنيات الدولة. فبعدما كان المجتمع متميزا بقيم العمل الجماعي والتفاني والتطوع بشكل كبير غداة الاستقلال، وقع عبث بالمنظومة بفعل السياسة وبفعل عدة عوامل متداخلة، خصوصا منذ الثمانينات وبداية العمل بالتقويم الهيكلي، وما تلاه من إصلاحات اقتصادية سريعة، أهمها خوصصة المرافق العمومية وبداية تخفيف تدخل الدولة في تدعيم الحاجات الأساسية.
لم تكن تلك الإصلاحات ذات بعد اقتصادي وحسب، بل حملت في طياتها برمجة جديدة لإعادة صياغة المنظومة التربوية والقيمية وأنتجت هوية فردية وجماعية ملتبسة، وثقافة فردانية قوية، ثقافة البحث عن الربح السريع وعن "الهمزة"، ومن بين نتائجها أيضا ارتفاع العنف بسبب فقدان الأفراد القدرة على التعرف على بعضهم البعض هوياتيا، وكأن الجماعة المغربية هي جماعة بشرية ولدت اليوم فقط، لا يتقاسم أفرادها هوية ثقافية وقيمية جامعة، ولم تعد القيم السابقة مؤطرة للسلوك وأصبح الهم اليومي للأفراد هو صيانة المصالح الخاصة حتى وإن كانت مضرة بالجماعة المغربية ككل.
لا شك أن هذه التحولات الثقافية الكبرى وتغير منظومة القيم من "المعمم" إلى المخصخص"، من الجماعي إلى الفردي، من التطوعي إلى العمل بمقابل، من النضالي إلى الزبوني، لا شك أنها عوامل أثرت على السياسي وجعلت منه أحد التعبيرات الواضحة عن خلل منظومة القيم، الشيء الذي ساهمت فيه الأحزاب بشكل كبير باعتبارها أهم قنوات لتصريف النخب نحو المسؤولية وتطعيمها فكريا وثقافيا وأحد أهم بنيات التنشئة السياسية.
من هذا المنطلق، يعد البرلماني منتوجا لنظام اجتماعي وسياسي قائم، ولا يمكنه إلا أن يكون صورة نموذجية "مخلصة ووفية" للمجتمع ككل. انشاغله الرئيسي هو معالجة سؤال التواصل من منظور تلميع صورته أمام كثرة الانتقادات، سؤال تتم الإجابة عليه تقنيا في أغلب الحالات بدون روح، بحيث يتم اللجوء إلى وسائل التواصل وأدوات الإعلام والاشهار لحجب صورته الحقيقية السلبية وتقديم صورة سكيزوفرينية، افتراضية، خيالية، غير مستقيمة مع أدائه الحقيقي داخل المؤسسة النيابية.
ومهما حاول تغطية الحقيقة باللجوء إلى أدوات "التبييض الإعلامي والاشهاري"، فإن ذلك لن يغير من حقيقة ضعفه الملموس في الأداء، وفشله في تقوية النقاش العمومي حول القضايا الأساسية للبلاد وللمواطن، إضافة إلى كسله الشديد أمام تفعيل القاعدة القانونية وأجرأتها، وقبل ذلك إعطاء المثال باحترامها.
معظم مقترحات القوانين الصادرة عن البرلمانيين، خصوصا في المعارضة، هي فقط لتضخيم كمية المنتوجات والافرازات أمام الرأي العام، ومعظمها للمزايدة السياسية على الحكومة وأغلبها غير مقبولة من الناحية العلمية الليجيستية legistique أي من وجهة نظر الصناعة التقنية التشريعية للقاعدة القانونية، بمعنى أنها لا تعدو أن تكون مجرد مجموعة جمل إنشائية تعبر عن مجموعة من المبادئ لا تحترم نظام الجملة القانونية ولا تعتمد على دراسات متنوعة قبل إعدادها، ولا تحترم باقي المنظومة القانونية الموازية أو العليا، كما تخرج في كثير من الأحيان عن القيم الجماعية.
فمثلا، تقدم الاستقلاليون في عهد شباط بمقترح قانون يجيز الترخيص لزراعة "الكيف"، بدون أي دراسة مالية أو اجتماعية ثقافية أو ديمغرافية، بحيث اقترحوا إجازة هذه الزراعة في شمال المغرب فقط، الشيء الذي قد يحدث نزوحا وهجرة كبيرين نحو هذه المناطق، وما قد ينتج عن ذلك من تحولات وصدامات ثقافية ومشاكل ديمغرافية وسكنية وغيرها. ثم إن المقترح استعمل كلمة "الكيف" ذات الدلالة غير العلمية وذات البعد الأخلاقي الرمزي في المخيال الشعبي المرتبط بالحلال والحرام، في حين إن المصطلح العلمي المتعارف عليه دوليا هو القنب الهندي. كان هذا فقط من أجل إحراج حزب العدالة والتنمية ذي "المرجعية الإسلامية"؛ مما يجسد استعمالا شعبويا للمؤسسات الدستورية.
وهناك أمثلة كثيرة جدا منذ أول ولاية تشريعية في المغرب. فمثلا، تقدم نواب عن حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ذي المرجعية اليسارية التقدمية، حسب تصنيفهم لأنفسهم حينها، بمقترح قانون يروم منع الاتجار واستهلاك المشروبات الكحولية من أجل إحراج حكومة لفديك المقربة من الملك أمير المؤمنين.
والخلاصة أن عددا كبيرا من التشريع المقترح غير جدي وغير مدروس وضعيف البناء الليجيستي، وغير ملائم لحاجات المجتمع ذات الأولوية في الزمن الاجتماعي الراهن.
العمل البرلماني هو عمل لا ينظمه القانون البرلماني فقط لكون هذا القانون هو تقني بشكل كبير، بل أيضا تؤطره مجموع القواعد الدستورية التي تعترضها دائما معضلة عدم التطبيق أو عدم التطبيق السليم. العمل البرلماني يقتضي ضرورة التوافق حول تصورات حزبية أساسية جماعية للعمل من داخل البرلمان، تعتمد على قراءات للوضع العام وعلى دراسات للحاجيات التشريعية ذات الأولوية وعلى بلورة مساهمات في صناعة السياسة الوطنية العامة.
فالبلاد عاشت السنة الماضية على وقع احتجاجات اجتماعية أهمها في الريف، من هنا نتساءل هل يضع النواب عند كل دخول تشريعي أفكارا جديدة في محفظاتهم من أجل عرضها على المناقشة وعلى الحكومة قصد تفادي هكذا أزمات في مناطق أخرى في المستقبل؟ كيف يفكر البرلماني في أن يكون فعلا ممثلا ووسيطا اجتماعيا بالتشارك مع الحكومة لتدبير الملفات الكبرى بدون مزايدات سياسية أو نظرة حزبية ضيقة؟ هل أعدت الفرق النيابية استراتيجيات للتشريع وللتواصل مع مختلف الشركاء في السياسات القطاعية ومع المجتمع بالاستفادة من خطاطات وتراكمات التجارب المقارنة؟ هل تشتغل المؤسسة الحزبية على تغيير ثقافة وذهنيات نوابها أم تساهم معهم في تنمية ثقافة الريع وحس تحصين المصلحة الشخصية؟ ماهي خططه لفك الاشتباكات المتكررة بين الدولة والمجتمع في قضايا حساسة كثيرة؟
هذه أسئلة ليست على سبيل الحصر، بل هناك أخرى كثيرة ومتنوعة إذا ما تمت الإجابة عنها بصدق وبحس وطني وإنساني حقيقي وعميق، ربما عندها قد يترقى لدينا هذا "المجمع البشري" المنقسم والمرتبك والفاقد للبوصلة إلى صفة برلمان جدير بهذه الصفة التي صنعها التاريخ بتضحياته وصراعاته المريرة، جدير بحمل اسم مؤسسة نبيلة وعريقة خدمت أجيالا من التطور والرقي، وبنت أمما وقوى عظمى وصلت عنان السماء.
*باحث في العلوم السياسية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.