أنيناً وشَكْوَى طوَالَ الحَوْلِ كَثيرةً عَلَينا وما يأتي به العامُ القادمُ أَبْرَحُ حال الحَوْل..والحال لم يعد هو الحال..وانصرمت الشّهور، ومرّت الأيّام، ودارت السّاعات التي لا سلطة ولا سطوة ولا هيمنة لنا عليها..غيرُ مأسوفٍ على زمنٍ ينقضي بالهمِّ والحَزَن..وتبقى لنا ومضات الذكريات التي تدغدغ خلايا ذاكرتنا الوَهِنة، وتلامس شِغاف وأعطافَ قلوبنا المكلومة، وتناغي ثنايا أفئدتنا المهمومة، وتلتئم بها ولها ومعها جوارحُنا المُعنّاة..لم يعد لنا من بقايا وشظايا الزّمن الذي فات، ومات، ومضىَ وانقضىَ سوىَ قبضٍ من ريح، أو حصادٍ من هشيم...هذه الهنيهات السّعيدة والعنيدة، واللحظات الرّغيدة والوئيدة، التي تبعث بداخلنا شعاعَ الأمل، وتوقد فينا جذوة العيش، وتوقظ في أعماقنا نعمة المحبّة، وتُحيي في أحشائنا إشعاعَ الرّجاء، والتّوق نحو البقاء رغم المكابدة والعناء، والإحساس العارم، والداهم، والصّارم، والغاشم بمأساة الفناء..! وقديماً قيل: ما أضيقَ العيش لولا فسحة الأمل..وقيل: "الماضي فات والمُؤمّل غيبٌ / ولك السّاعة التي أنت فيها". ها قد غشيتهم ساعةُ الصّفر وجاءت إليهم تُجَرْجِرُ أذيالها، ومعها تدنو وتقتربُ لحظةُ الهَوَس، والنَّزَق، والفرح والمرح، وها قد أزفتْ هنيهةُ (توديع عامٍ - واستقبال آخر) ..فإذا بالكلّ يصيح بصوتٍ جهوري: أطفئوا المصابيحَ بُرهة...ثمّ أوقدوا الشّموعَ، والقناديل، وانشروا الأنوارَ، وانثروا الضّياء..فإذا الوجوهَ باشّةً هاشّة ضاحكة، وإذا القلوبَ تخفق سعادةً وهناءةً وحبوراً، وتلمح الأيدي وهي تمتدّ في جَذلٍ نحو أخرى لتُصافحَهَا مهنّئةً إيّاها بانسياب حِقبةٍ من الزّمان وانقضائها، وبزوغ أخرى. كلّ المدن والحواضر الكبرى تسبحُ في ثبجِ فضاءٍ أثيريٍّ بهيج، وأضواءُ النيّون ملأت الدّنيا، انتشرت، وسطعت في أماكن بعينها، واستمرّ الظلامُ الدامسُ مُطبِقاً في أماكن أخرى، كثيرون منّا يجهلونها، قليلون منّا يعرفونها..عاقرت الكؤوسُ بعضَها بعضاً، وانفرجت الأشداقُ من فرط القهقهات، وزاغت العيونُ من فرط النظرات، وانتفخت الأوداج، وتاهت العقول. ويظلّ آخرون ..المنسيّون، المُهمّشون، يلفّهم البردُ القارس الزّمهرير الذي يَصْلىِ المَقْرورَ، ويُبيحُ كلّ محظور، ويُجمّد الثلج الصقيع المتكاثف الجسومَ الهزيلة، وأبدانَ عاصبي البطون النحيلة المُرمّلة، الذين يمزّقُ أوصالَهم الطّوىَ، ويُغلفهم البؤسُ والتعاسةُ، ويسكنهم الضنكُ، وتسربلهم الكآبة.. هناك دائماً وفرة، وزيادة، وغزارة، وهناك تضخّم فائض، أو فيضٌ متضخّم، ولكن بالمقابل دائماً ثَمَّةَ عَوَزٌ، وخصَاصَةٌ، وفاقةٌ، وفقرٌ، واحتياج، وقبضٌ من ريح، وحصادٌ من هشيم، ولفحات لاسعة من برد قارس. حال الحَولُ، ودار الزّمانُ، وتوارىَ العام، وتوارت معه أحزانُنا، وأتراحُنا، وبعضُ أفراحِنا، وجذلنا، ومآسِينا، واستقبلنا في ذاتِ الوقتِ عاماً جديداً لا زالت أيامُه ولياليه في طيّ المجهول، وخبايا الكِتمان، وعِلم الغيْب. ها هو ذا عامٌ آخر من أعوام البشرية قد هَوَى، وانْزَوَى، وَمَضَي إلى حالِ سبيله، لينسابَ كالسّيلِ العارمِ العَرَمْرَم، أو الأتيِّ المنهمِر الضّائع بين أخاديد أيّامنا المنهوكة، وفي يذوي بين طيّات الزّمن، وثنايا النّسيان، وثبج السّنين، ويتبخّر في معارج طِباق السّماوات، ومدارج سديم الفضاءات السّرمديّة الأثيريّة، اللاّنهائية، واللاّمنتهية، لينضمّ إلى سلسلةِ عقودِ الأعوام المنصرمة التي ولّتْ، ومضتْ، وانقضتْ، وتوالتْ، وذهبتْ لحال سبيلها بدون رجعة..! البشريةُ غزَا الشيبُ مَفرقَها، أضاعت أيّامَها، ولياليها في ويلات الحروب، والتقاتل، والتطاحن، والتنابذ، والتباعد، والمواجهة، والمشاكسة، والمعاناة، والمعاداة، والبغضاء. نأسىَ، ونتأسّى، ونلتاع حزناً وضنكاً..الباذخون المُتخمُون اللاّمبالون متمادُون في غيّكم ..بلغ السّيلُ الزُّبىَ، وسالَ الكأسُ، وفاضَ الجَامُ، وطفحَ الكيْلُ، ورُبَّ عظيمةٍ دافعتْ عنهم...وقد بلغتْ نفوسُهم التّراقي... ! لم تعد الأمورُ اليوم كما كانت عليه بالأمس القريب، فقد أصابَ صرحَ الصِّدق، والنّبل، والوفاء، والشّرف، والكرامة بين الإخوة شرخ عميق. هؤلاء الأقصوْن الأبعدُون، ذوو السِّحن الغريبة، والشّعور الناعمة المنسدلة، مافتئوا يُغيرون على أراضينا وشطآننا، ودورنا، ومقدّساتنا، ينهبون ممتلكاتنا، ويسرقون مزارعَنا، ويُسطون على غلاّتنا، فيما مضىَ من الأزمان لم نكن نتوانى أو نتردّد قيدَ أنملةٍ في دحرهم، وصدّهم، وردّهم على أعقابهم فيعودون من حيث أتوا مخذولين، منكفئين يجرّون أذيالَ الخيبة، والمهانة، والهزيمة، والمذلّة، فارّين كالأرانب من أينما جاءوا أو قدِموا، من داخل البَرِّ القريبِ، أو من وراء البَّحر البعيد. لقد أصبحوا اليوم يُفتُون، ولا يفتَوْن، وأضحى التنائي بيننا وبينهم بديلاً عن تدانينا، وناب عن طيب لقيانا بهم تجافينا.. ! الألم يَعصُرُنا، والمعاناة تَهدّنا، والحَنقُ يَخنقنا، والمرارة تَعتصرُنا، نتنفّس الصّعداء، وننظر إلى السّماء، ونُجيل بأبصارنا في فضاءاتها الواسعة الفسيحة المترامية الأطراف، ونُحدّق في سديمها السّرمدي، وبقدَرٍ مُشْعَلٍ على شفاهنا نرجوها أمراً في أنفسِنا، ونستعطفها سرّاً في قلوبنا، بلسماً شافياً لجروحٍ عميقة لا تلتئم، ولقروحٍ غائرة لا تندمل.! نعاتب الأيّامَ الحالكات، ونلوم الليالي المدلهمّات التي لا تُؤمَن بوائقها، عسىَ هذا الكرْب يكون وراءه فرَج قريب، وعسىَ هذا اليأسُ يتلوه أملٌ ورجاء، ولعلّ بعد هذا الليل المدلهمّ البهيم الطويل ينبلج فجر باسم مُشرق، نشكو الدّهرَ القاهر، ونناغي الزّمنَ الغادر...ولسان حالنا جهاراً يقول: يَا دَهرُ ويحكَ مَاذا الغلَط / وَضيعٌ علاَ ورفيعٌ هبَط.. ..! عندما وقع "يوليوس قيصر" في الأسر لم يكن نظرُه يحيد عن عجلة عربة أعدائه التي كانت تقلّه، وهي تعلو وتنزل خلال دورانها في ذبذبة، وتوتّر، وارتطام، ثم لا تلبث أن تعيد الكرّة تلو الأخرى من أعلى إلى أسفل، ومن أسفل إلى أعلى، وعندما سأله سجّانوه: لماذا لم يحد نظرُه قطّ عنها طوال الطريق..؟!، قال لهم: لأنّها كانت تذكّره بحال الدّنيا، تارةً فوق، وطوراً تحت... أنظروا إلى حالي أين كنت بالأمس القريب، وأين أصبحت اليوم.. ! المالُ يا صاحِ يسترُ كلَّ عيبٍ في الفتىَ....والمالُ يا صاحِ يرفع كلَّ نذلٍ ساقطٍ حقير، المالُ يا صاح أضحىَ في أيامنا اللعينة زينة الدّنيا وعزّ النفوس.. ها هو ذا يُبهي وجوهاً ليس هيَ بَاهيَا..فهَا كلُّ مَنْ هو كثيرُ الفلوس..ولَّوْهُ الكلامَ والرّتبةَ العاليا..والدراهم يا صاح كثيرة وافرة هي في الأماكن كلّها، تكسو الناسَ والرّجالَ والنساءَ مهابةً وجمالاَ..وها قد أضحت لساناً طليقاً صريحاً، سليطا، صادحاً لمن أراد فصاحةً..كما أصبحت سمّاً ناقعاً، وعلقماً مُرّاً، وسلاحاً فاتكاً لمن أراد مواجهةً أو رامَ قِتالاَ..!. أجل..ما أكثرَ هؤلاء الذين ولّوهمُ الكلامَ، والرّتبة العاليَا، من ذوي القربىَ والأصهار، وأنصار العصر، أنصار صناديق الاقتراع، والمحاباة، والمُداهنة، والمُصانعة، في زمننا هذا العربي الرّديء الشاحب المُثقل بالهموم والرّزايا، والملطّخ بالدمّ القاني المحمَّل بالخطايا، وليس من أجل المُعوزين، الكادحين المَحرومين، العسفاء.. هؤلاء الأقصون، الأباعد، المُهمّشون الذين يعضّون على الحديد أو على الحَجَر الصّلد عضّاً مؤلماً حنقاً، وغيضاً، وكرْباً، وكبرياء، وكآبة، وضيمَا. ما انفكّت الحاضرة العامرة الغرّاء في حفلٍ بهيج، أقيمت المواكبُ، وانتصبت الكواعبُ، ونُثرت الأزهار، والورود، والياسمين والرّياحين، ورُشقت ثمرات الكرَز الرّطبة والمُحمَرّة كالعُنّاب، في كلّ مكان، صَدحتِ الموسيقىَ، وتعالت الأنغام، البياض الناصع يملأ الأجواءَ والأرجاءَ، فالخَطْب ليس بالهيّن اليسير، إنّه إيذان ببزوغ وانبثاق إشعاع حضارة متطوّرة، وانتشار بريق مدنية متقدّمة، و"التبشير" بمبادئ الحريّة، والمساواة، والإخاء، بلغة عريقة راقية رقيقة لثغاء.. لقد أوعزوا حتّى للعلماء وللفقهاء الأجلاّء في منابر معاهدهم، ومصاطب كُتّابهم، وفى مُدرّجات جامعاتهم، بأن ينظِمُوا على شاكلة الآجرومية أو منظومة بن عاشر قصائدَ عصماء لتسريع، وتسهيل، وتيسير تعليم هذه اللغة ونشرها وتعميمها على أوسع نطاق، هذه اللغة السّاحرة الآسرة الموسيقية الرّخيمة التي يخرّ لها الجُلمودُ، والصّخرُ يسجد لطلاوتها، ونعومتها، ورقّتها...! الأعمدة الرّاسيات، والسّواري الرّاسخات ذات الأسماء الرنّانة، والجرْس الموسيقي المُميّز ما فتئت تعمل على تمرير الإرث السّاطع، والتراث النّاصع، حِكَماً وعِلْما، وأدباً، وشعراً، وفقهاً، ولغةً، وتاريخاً، وفلسفةً، وحساباً، وفَلَكاً، وتوقيتاً، وصرفاً، ونحواً، وعروضاً، وغناءً، وطرباً، وطبخاً، ونفخاً، وسياسةً، وكياسةً، وذكاءً، ودهاءً، وفخّاراً، ودثاراً، وصناعةً، وإبداعاً، وعِطراً، وزهراً، وبناءً، وعُمراناً، ووضعاً، وتأليفاً، وقزّاً، وحريراً، وطرْزاً، ونحناً، ونسْجاً، وذهباً، وفضّةً، ولُجيْناً، وعَسْجداً، وزمرّداً وديباجَا...! إنّها مازالت تُدني وتُقصي، ما فتئت تنهال وتنثال بالجحود المُجحف، بينها وبين الآخرين برْزخٌ واسع، ويمٌّ شاسع، وبحر زاخر، متلاطم، لا قعرَ ولا قرارَ له، إنّها ما برِحت تؤجِّجُ المّوقد، فالصّقيع زمهرير، وما انفكّت تلقي الحَطبَ في أتون الكنّ والكانون، من حيث تدري ولا تدري..! القويّ السّمين يزداد قوّة وسمنة، والضعيف الهزيل يزداد ضعفاً وهزالاً، الأمرُ مازال مثلما كان عليه الحال في الماضي السّحيق في "جاهلية" القوم مع واحدٍ من عليّتهم، كان يُدعىَ "هبنّقة" هذا الأحمقُ المعتوهُ الذي كان يُضرَب به المثل في الحُمق، والخبّل، والخلَل، والجُنون، والمُجون، والفنون، فكانوا يقولون في أمثالهم السّائرة، وفى أقوالهم المأثورة "أحمقُ من هبنّقة"!، والذي تحكي لنا كتب السّير، والروايات، والعنعنة، والتاريخ أنّه من حمقه عندما كان يعمل راعياً لقطيع من البقر عند أحد الميسورين من قومِه، كان من عادته أن يأخذ البقرَ السِّمان إلى المَراعي الخِصبة، حيث وفرة الأعشاب، وكثرة الكلأ لترعى جيّداً كما يحلو لها، وكان بالمقابل يأخذ البقرَ الهُزال إلى السّهوب القاحلة الجرداء من الأرض الكُلام ( بضمّ الكاف) التي لا تنبت شيئاً ويسرحها هناك، وعندما يأتي صاحب قطيع البقر لمعاينته، فيبدأ في معاتبته، وتوبيخه، وتأنيبه، ويسأله لماذا يفعل ذلك.. فكان يجيب: أتريدني أن أصْلِحَ ما أفسده الله، أو أن أفسِدَ ما أصلحه الله، فقطيع البقر السّمان يستطيع أن يأكل، وهو دائماً ذو شهيّة متفتّحة طيّبة، لهذا أذهبُ به حيث وفرة المراعي، وكثرة الكلأ ليرعىَ، وأمّا قطيع البقر الهزال فلا شهيّة له، وليس في مقدوره أن يأكل لضعفه، ووهنه، وهزاله، ولهذا أذهب به إلى القِفار القاحلة، والأراضي الصّلبة التي لا زرعَ، ولا ذرعَ ولا كلأ، ولا نبتَ فيها...وما فتئت هذه الحِكمة سائرة قائمة مأثورة بيننا إلى اليوم، فالسّمين يزداد سمنة، والضعيف يزداد ضعفاً... ! كان هبنّقة من حمقه وجنونه كثيراً ما يَنْسىَ نفسَه، وللتغلّب على هذه الآفة توصّل إلى حلٍّ ناجع على طريقته حتى يتعرّفَ على نفسِه بسهولة ويُسر، ولا ينسىَ نفسَه مرّةً أخرى، فوضعَ خيطاً رفيعاً من قنّبٍ على عنقه، وعلّق فيه عظمة صغيرة كان قد وجدها في أحد المهامه، والمفاوز، والقفار، وكان كلما استيقظَ من النّوم في الصّباح يبحثُ عن العظمة المعلقة في عنقه ويمسكها بيده ويتحسّسها، وبها يُدرك ويتأكّد أنّه هو، إلاّ أنه حدث ذات يوم أن نام عند أخيه، فقام أخوه في جُنح الليل ونزعَ عنه العظمة وعلّقها حول عنقه، وفي الصّباح عندما استيقظ هبنّقة ولم يجد العظمة معلّقة عليه ذهب عند أخيه ليسأله، فلمّا رأى العظمة معلقةً حول عنق أخيه أمسك بها وقال له مشدوهاً: يا أخي...أنت أنا، فمن أنا...؟!...وما فتئنا نتساءل إلى اليوم...تُرىَ مَنْ نحنُ ومَنْ نكون...؟! هكذا حال الدّنيا يا صاحِ، هنيهاتٌ تمضي، وأيامٌ تمرُّ، وليالٍ تنقضي، إنّهم ما فتئوا ينظرون إلينا من علٍ شزراً، يحدّقون النّظرَ في هؤلاء الذين سحقهم القدَر، وهدّهم العوَز، وأنهكتهم الخصَاصَة، يمشون عاصبي البطون مُرملين من فرط حرقة الطّوىَ، الآخرون يناطحون عنانَ السّماء، يعانقون هيادبَ السّحاب، يلامسون أثباجَ الثريّات، ولا عجب.."إن كنتَ في شرفٍ مَرومِ / فلا تقنع بما دون النجومِ" !، و"إنْ كنتُ في عدد العبيد فهمّتي / فوق الثريّا والسِّماكِ الأعزلِ"، وبنو طينتهم، وأبناء جلدتهم ملتصقون بأمّهم الأرض على أديم الثّرى لا يحيدون عنها قيد أنملة (حَسْبُ الخليليْنِ نأيُ الأرضِ بينهمَا / هذا عليهَا وذاكَ تحتَها باليِ)، ولكن لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون، فسقطتهم بلا رضوض، وأمّا سقطة "الأعلوْن" فإنّها مُؤلمة، كاسرة قاصمة للظّهر، إنهم لن يخرقوا الأرض، ولن يبلغوا الجبالَ طولاَ، ففي الآكام الشّامخات، والأعالي السّامقات، وفي القمم الشّاهقات تشتدُّ هبوب الريّاح، إنها هناك أكثر عتوّاً وقوّةً، وضراوةً وعنادَا.. والزّوابع والتوابع بها لا تني ولا تنتهي، والعواصف الهوجاء لا تتوقّف، فليخفضُوا جناحَ الذلّ، ويطأطِئوا الرؤوس، وألاّ يشرئبّوا بالأعناق...قال قائلهم الحكيم فيلسوف الشعراء أو شاعر الفلاسفة فما أظن أديم الأرض إلاّ من هذه الأجساد، سيرُوا إن اسطعتمْ في الهواء رويداً...لا اختيالاً على رفات العِباد، فربَّ لحدٍ قد صار لحداً مراراً، ضاحكٍ لتزاحم الأضداد.....وكلُّ بيتٍ للهدم ما تبتني الورقاءُ والسيّدُ الرّفيعُ العِمَادِ... ! كلام يتناثر في الهواء، تماماً كما تناثر في القديم كلامُ، أو غثاءُ من شيّدوا في أخيلتهم مدناً فاضلة، وأقاموا فيها صروحاً وشيّدوا قصورا، وظلّت العدالة فيها طائراً كسيرَ الجناحيْن، يحلّق بالكاد حولها، لا يُشمُّ (بضمّ الياء) فيها سوى رائحة الظلم والعنَت في كلّ مكان. اليوم لم يعد ثمة أناس من هذا النّوع، لقد أصبحوا في عرف الآخرين شبيهين بالمجّانين الذين يُفنون أعمارَهم في الأوهام والخيالات، والآهات، والترّهات، والمهاترات التي لا طائلَ تحتها، ولا فائدة فوقها. هؤلاء هم الذين يعانون أكثرَ من غيرهم من مختلف ضروب البُؤس، واليأس، والشقاء، والتعاسة، والنكد، والغيض، والبّغض، والحِرمان. لقد كَسَدت أسواقُ الفِكر الخَلاّق، ونشطتْ حركاتُ التقاليع الرّخيصة في دنيا الفنون، والجُنون، والمُجون من كل ضرب. *عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا