تنزل الشاعر والناقد صلاح بوسريف منزلة رفيعة ومرموقة داخل الثقافة المغربية المعاصرة، فهو يعد في نظر الكثير من النقاد العرب قطبا من أقطاب الشعر المغربي، وعمودا من الأعمدة التي تنبني وتشيد عليها القصيدة المغربية المعاصرة، الى جانب ثلة من الشعراء العرب كمحمود درويش وأدونيس ويوسف الخال وأمجد ناصر وقاسم حداد وعبد المنعم رمضان وعبد الله زريقة وغيرهم من الشعراء والنقاد الذين ارتبط لديهم الشعر والثقافة والفكر بالنضال الديمقراطي اليومي، بغية التحرر و تحديث العقل العربي من سطوة الديني والسياسي على الثقافي، من أجل تحقيق نهضة معرفية عربية تتأسس على قيم الحداثة والديمقراطية والفن والجمال. غير أن الملفت هنا، هو أن الشاعر صلاح بوسريف، لم يبق حبيس كتابة الشعر والتنظير لبعض مفاهيمه، كما هو الشأن عند رهط من الشعراء المجايلين له، وأعني جيل الثمانينيات، أي الجيل الثالث في المشهد الشعري المغربي المعاصر، بل إن صلاح بوسريف يطالعنا هذه المرة بقبعة الناقد/ المفكر/ الطبيب، الذي يقيم ويشرح بعض الأعطاب، التي ألمت بجسد المثقف المغربي المنخور من فرط تبعية الثقافي للسياسي، وذلك في كتاب بهي له بعنوان "المثقف المغربي : بين رهان المعرفة ورهانات السلطة"، وفيه حاول ملامسة ومقارعة بعض القضايا الشائكة الحساسة، التي تؤسس وتمثل جوهر الثقافة المغربية "المعطوبة" كالنخبة المثقفة، الثقافي والسياسي، المثقف العضوي، المثقف والاعلام، اتحاد كتاب المغرب، مأزق التعليم والعربية وغيرها من الموضوعات، التي باتت تشكل العائق الأساس أمام تقدم وتحديث الثقافة المغربية الغارقة في ثقافة السياسة على حساب سياسة الثقافة. وتأتي أهمية هذا الكتاب في قدرته على نقد الأزعومات والأغاليط، التي أصبحت تروج وتسوق لها بعض المؤسسات الثقافية كاتحاد كتاب المغرب وبيت الشعر، وذلك عبر جهاز الاعلام، الذي أصبح هو الاخر متواطئا مع هذه المؤسسات، فضلا عن تشريحه الدقيق لتلك الازدواجية الفظيعة والمفزعة، التي بات يعيشها المثقف المغربي المتأرجح بين المنزلتين، أي بين أن يكون مثقفا صاحب مشروع ثقافي وفكري حداثي نقدي يقظ، مع الحفاظ على رصيده المعرفي، وتعاقده الرمزي مع ذاته أولا، ثم مع القارئ، وبين أن يكون مثقفا ذا لسان أخرس، حال جماعة أو عشيرة أو قبيلة سياسية مهما كان انتماءها، يبرر لها أخطاءها و أفعالها، ويصنع لها خطابا دوغمائيا واهيا، وهو الأمر الذي أفضى الى ما نعيشه اليوم من خروقات وانتكاسات داخل مشهدنا الثقافي المغربي المعطوب، الذي أصبح فيه السياسي بتفاهته المعهودة يلعب دور الصدارة و البطولة. ونتيجة لهذا التفتت والتشردم والضياع، الذي يعيشه المثقف المغربي اليوم. خرجت بعض الأقلام الشابة الجديدة من أبناء جيلي الى المطالبة بالثورة على المثقف المغربي أو فيما أسمته "بقتل الأب"، وذلك بدعوى عدم قدرته على الوقوف في وجه السلطة والاستبداد والجهر بالحقائق، التي هي من مهامه كمثقف، إضافة الى التعبير عن رأيه فيما تعرفه الساحة المغربية من حراك ثقافي وسياسي واجتماعي. شخصيا لست من حفدة هذا الطرح، لأني لا أومن بمسألة “قتل الأب"، علما أن قتل الأب، هو جريمة وجناية في حق الفكر والمعرفة، التي أنتجت من قبل هذا الأب، ثم أن مسألة القتل لها اطارها المفاهيمي الغربي، الذي ظهرت وتبلورت فيه، وهو مرتبط أساسا بالمشروع الفلسفي والنفسي عند فرويد، ثم اننا لا نثور على الأشخاص بقدر ما ننتقد ونثور على الأفكار و الأنساق، وحين نريد أن نجب أو نفند فكرة أو مشروعا أو نظرية ما، علينا أن نتسلح بالمعرفة وبامتلاك اللغات والفنون والآداب بشتى ألوانها، أما أن نبخس من قيمة مثقف من حجم عبد الله العروي، لأنه لم يخرج بكلمة أو مقال، تجاه ما شهدته مدينة الحسيمة من غضب جماهيري، أو اعتبار هذا النوع من المثقف غير ذي جدوى، فهذا ما لا أقبله ولا يمكن أن أستسيغه أبدا. يستند الشاعر والناقد صلاح بوسريف في طروحاته الفكرية حول المثقف، على المشروع الفكري والنقدي عند أنطونيو غرامشي، فيما عرف بالمثقف العضوي، وهو ذلك المثقف "الإيجابي" الذي يملك ثقافة متنوعة وواسعة يسعى الى تبادلها ونشرها بين أفراد المجتمع الذي يعيش فيه، بغية النهوض والخروج بهم من السراديب المظلمة الباردة الى فضاءات أرقى يتجاوزون فيها تخلفهم المعرفي، انه مثقف يعمل على إنجاح المشروع السياسي والمجتمعي، الذي يعنى بضمان حاجات الطبقة الكادحة ويلبي احتياجاتهم اليومية. فمفهوم المثقف الذي يستشفه ويستله صلاح بوسريف من مشروع أنطونيو غرامشي، هو المثقف الحر صاحب الوعي النقدي اليقظ، الذي لا ينساق وراء البديهيات واليقينيات السطحية المميتة ووراء الفكر العقائدي الأعمى، وهو ما عبر عنه غرامشي بقوله "أن يعرف المرء ذاته يعني أن يكون ذاته، يعني أن يكون سيد ذاته، أن يتميز، أن يخرج من السديم... وهو لا يستطيع ذلك إذا كان لا يعرف أيضا الاخرين، وتاريخهم، تعاقب الجهود التي بذلوها كي يكونوا ما هم عليه". كثيرة ومتنوعة اذن، هي الوجوه والأقنعة، التي باتت تطبع المثقف المغربي بالكثير من التشظي والانفلات بعد تجربة التناوب التوافقي، وما ترتب عن ذلك من ويلات جسيمة داخل منظومة الثقافة المغربية. من “المثقف التبريري الذي لا ينتج أفكارا، بقدر ما يعمل على تسويغ أفكار الاخرين"، وهو نموذج الأستاذ الجامعي أو فيما أسميه شخصيا بالمثقف الببغاء، الذي يعيد انتاج واجترار نفس الأفكار والمناهج والنظريات منذ تعيينه في الجامعة قبل 20سنة الى اليوم، هذا النوع في مغربنا الراهن ما زال يعيش في كهف أفلاطون (الأكاديمية)، فالجامعة أصبحت بسببه اليوم تعيش خارج الفكر والثقافة( بمفهومها الأنثروبولوجي عند ادوارد تايلر)، لأنها أصبحت تقتات وتعيش على ماضي هذه الثقافة، التي ليست هي نفسها الموجودة اليوم في واقعنا الثقافي العربي. الى "المثقف التبشيري أو الداعية، الذي يحتكم في أفكاره للمرجعية الدينية"، وهذا النموذج تقوى فكره ومده منذ تسعينيات القرن الماضي، ابان الأزمة والنكسة الفكرية التي شهدها اليسار المغربي، بالرغم من الدور الطلائعي، الذي لعبته الأحزاب اليسارية، حين كان مثقفوها هم أصحاب الكلمة بما يمتازون به من سلط رمزية في انتاج الأفكار والدلالات والقيم، وأيضا في تسيير شؤون الحزب وتنظيم اللقاءات والندوات الفكرية، التي شهدتها كل من مدينة الدارالبيضاء والرباط وفاس. آنذاك تأتى لهذا المد الدعوي أن يزدهر، ويصبح الداعية في الحياة العامة أميرا ينعقد له المبايعون. وما زاد الطين بلة كما يقال، هو ما سمي بحكومة التناوب التي شهدها المغرب سنة 1998، والتي دخل فيها اليسار المغربي الى السلطة "فهو لم يراع المسافة اللازمة، ولم ينأ بنفسه عن السياسي، ليبقى الضمير المراقب لما يجري، وللتذكير بالمبادئ، وينبه الى الانحرافات.... مثقفوا الاتحاد الاشتراكي انساقوا دفعة واحدة نحو غنائم السلطة، ما سيفضي الى موت الحزب فيما بعد". (1)، ليستغل بذلك الاسلامويون فراغ الساحة للوصول الى الحكومة. ثم نجد "المثقف الأصولي" الذي مازال نائما أو هو بالأحرى يعيش في غيبوبة الماضي(التراث)، نظرا لقراءته الهشة والمبتذلة له، فهو يقرأه بوعي مغلق وأعمى، وليس بوعي نقدي يقظ ومفتوح، يستطيع أن ينفض عن صفحاته الغبار ويخرجه من عدمه الى وجوده، ليدب فيه حياة أخرى غير تلك التي ألفها، وذلك عبر المساءلة والنقد والتفكيك، حتى يجترح لنفسه أفقا اخر فكري وجمالي كوني. الى "المثقف المستقيل" أو المثقف الأخرس، الذي لا صوت ولا رأي له، وصولا الى "مثقف السلطة" أو المثقف المخزني، ويعني به صلاح بوسريف "أولئك الذين انتقلوا من موقع اليسار الى موقع السلطة، ليسوا كممثلين لاتجاه فكري مقتنع بضرورة العمل الى جانب السلطان، كون الانتقال يجري في المغرب وفق ما كانوا يطمحون اليه، بل لكونهم حتى عندما استعاد السلطان، سلطاته ظلوا حريصين على مواقعهم وشرعوا في تبرير هذا الانقلاب، الذي جرى ابان استبدال وزير أول سياسي ذي أغلبية منتخبة آنذاك، بوزير أول، لا صوت له، الا صوت السلطان" (2). لكن صلاح بوسريف لم يقف عند هذا الحد، بل انتقل ببراعة الى تشريح جسد الثقافة المغربية ككل، من خلال نقد بعض المؤسسات الثقافية المعطوبة، كاتحاد كتاب المغرب وبيت الشعر ، وأيضا جملة الموضوعات المشكلة للمنظومة الثقافية المغربية كالإعلام، مجتمع المعرفة ومجتمع الفرجة، التعليم، القارئ المغربي، مأزق العربية، فضلا عن بؤس وأوهام المثقف المغربي، الذي أتبت عجزه تجاه ما تشهده الساحة المغربية ثقافيا وسياسيا واجتماعيا، اذ أن جل المشاريع الفكرية التي ظهرت في أوائل ستينيات القرن المنصرم استنفذت طاقتها وبريقها الفكري، ابان شمس الربيع العربي، لأنها كانت محكومة أساسا بسياق فكري اني وسياسي هو سياق الوحدة والقومية العربية، فحكمت بالتالي على نفسها بالإجهاض، نتيجة عدم نجاعتها وقدرتها على تجديد نفسها والياتها وأدوات مقاربتها. أكتب في هذا الهزيع الأخير من الليل، وأنا أعي جيدا، أن كتاب صلاح بوسريف هذا، يشكل لبنة مهمة وأساسية في تاريخ نقدنا المغربي، نظرا لمحاولته الجمع بين خطاب الناقد وخطاب المفكر المحلل للمفاهيم والأفكار، التي شهدتها المنظومة الثقافية العربية، منذ الربيع العربي الى اليوم، وذلك بغرض توضيح وإبراز تبعية الثقافي للسياسي في بلداننا العربية، وما ترتب عنه من ويلات على صعيد الثقافة، وتناسل للأيديولوجيات وانفراط لمفهومي المثقف والهوية، واختلاط للأفكار والمفاهيم... من ثم تأتي قيمة هذا الكتاب المتميز، في الطموح الى تشييد مفهوم جديد للمثقف. لذلك فان الجري وراء أطروحات صلاح بوسريف حول المثقف في كتابه هذا، من شأنها أن تنير لنا طريق البحث والاجتهاد، أمام هذا المد الدعوي المرضي، الذي اجتاح واستبد بواقعنا الثقافي العربي فابتذله أسوأ ابتذال. الهوامش: 1- صلاح بوسريف، قلق الحافة: حوار في الشعر والمعرفة، حاوره عبد الغني فوزي، منشورات ملتقى الثقافات والفنون بالمحمدية، ص: 16-17. 2- صلاح بوسريف، المثقف المغربي: بين رهان المعرفة ورهانات السلطة، منشورات دفاتر وجهة نظر، ص: 9.