هذا الوضع الكارثي هو الذي أفضى إلى حشر المثقف في زاوية ضيقة.... الشاعر المغربي صلاح بوسريف مبدع إشكالي ، يمتلك حسا دقيقا بالمرحلة الراهنة المتسارعة التحولات ودون " سكة " حقيقية في العالم العربي . لذا فشاعرنا لا يراكم الأغلفة والمقالات كغاية في حد ذاتها ، بل هو صاحب مشروع وأفق في حاجة إلى نقاش حقيقي ، لتبادل الحرقة أولا ، والتأسيس لمساحات فكرية على أساس عقلاني وحداثي ما أحوجنا إليها في ثقافتنا العربية المعطوبة . بهذا ، وإنصافا لهذا الرجل الذي لايهدأ له بال في صميم الحدث العربي المركب ، آثرنا أن نفتح معه سلسلة حوارات منتجة ومولدة ، الأول منها يتعلق بالمثقف العربي وعلائقه ضمن مشهدية الوضع وتراجيديته التي تجعل المسألة الثقافية موضع تساؤل دائم ؛ نظرا للهيمنات ذات الترسانات والتأجيلات ذات التركات العقيمة والأصول المحنطة . على أمل التأسيس لحوارات معرفية ، تقتضي ذهابا جماعيا عوض الانكفاء على الذات ورعاية إمبراطوريات الوهم . فتبقى الطريق في الطريق دون حضور ورجات حقيقية. أدعوكم لنقرأ أولا، وننخرط في هذه المساحات التي ليست ملكية خاصة، بل مفتوحة على الطرح، وتبادل الأفكار، في اتجاه أفق ينتظر منا الكثير. نص الحوار ضمن التحولات المتسارعة للمرحلة والتراجيديات التي ترخي بظلالها على الجميع ، تتعدد صور المثقف العربي ، وتتعدد في المقابل الأسئلة حول موقعه وأدواره..أي صورة تحددها أولا لهذا المثقف ؟ لايمكن بآي حال أن نتكلم بعبارة إدوارد سعيد عن صورة المثقف، هكذا بالمفرد، فنحن، دائماً كُنَّا بإزاء صُوَرٍ للمثقف، أو مثقفين بصور، وبوجوه، وبأقنعة مختلفة، في ما يمكن أن نعتبره مواقف، ووجهات نظر، تختلف، بحسب اختلاف المرجعيات، ومصادر التكوين، والمعرفة التي خرج منها هؤلاء، أو كانت مصدر فكرهم. فكما كتبتُ، في أكثر من مقال، في هذا الموضوع، فأنا تَحّدثْتُ عن هذه الصُّوَر، أو حاولتُ تشخيصها، باعتبارها من بين الصور التي باتت اليوم، في هذا الوضع التراجيدي ، كما تسميه ، الأكثر حضوراً. أعني المثقف المُتَحَلِّل من كل الالتزامات، بما فيها التزامات المثقف، أمام نفسه، باعتباره صاحب أفكار، ومُشاركاً في الشأن العام، في ما يقوله ويكتبه. فهو يتأمَّل، ويُحلِّل، و ينتقد، ويقترح أفكاراً، وحين يعتبر نفسه غير معني بما يجري في الواقع، فهو يكون مثقفاً مُسْتَقِيلاً، وليس مُسْتَقِلاًّ، فالمسافة بين الاثنين كبيرة، وفارقة. وهناك المثقف الدَّاعية، الذي أفرزته هذه السلفيات التي أصبحت اليوم بين ما يجب أخذه بعين الاعتبار. أعني هذا الذي يتخذ من الدِّين، في تأويلاته الخاصة، مرجعه الوحيد، والدين، هنا، ليس سوى الإسلام، وليس اليهودية أو المسيحية، أو غيرهما من المعتقدات التي لا يُفَكِّر فيها بتاتاً، أو يتَّخِذ منها موقفاً حاسماً، دون أن يعرفها. المثقف الملتزم، هذا المفهوم بدروه أصبح غير ذي معنى، لأن مفهوم الالتزام يحتاج لمراجعة، وفحص، واختبار، وربما إلى تفكيك، لمعرفة ما نريده، وما نقصده بهذا المفهوم. أما المثقف الليبرالي، واليساري، أو الماركسي، سابقاً، فهؤلاء اليوم لا يفكرون في تجديد أفكارهم، والخروج بها من تاريخها الذي انتهت صلاحيته، لأن ثمة معطيات جديدة، وكثيرة، وشركاء آخرين دخلوا على خط الثقافة، أو أصبحوا فاعلين اجتماعيين وثقافيين، من الصعب تجاهلهم، أو التغاضي عنهم. المثقف، اليوم، في صورته العامة، يعيش خارج ما يجري، ثمة أفراد قلائل، هم من لا زالوا يكتبون، ويواكبون ما يجري، دون التنازل عن أسئلتهم، واختياراتهم، وهؤلاء هم من اختاروا منذ البداية البقاء خارج المؤسسات، بكل ألوانها. وهذا ما يجعل من أصواتهم غير مسموعة، لأنها شاذة، عن العام، المُبْتَذَل، وتصدر عن فكرٍ نقدي، تحرُّريّ، ينتصر ل الحقيقة ، أو لِما يصل له من حقائق. نحن، في ما يتعلق بالمثقف، أمام مرآة مشروخة، حين تنظر فيها تجد الصورة الواحدة، مُمَزَّقَةً ، ومُوَزَّعَةً، في نفس الفضاء، على أكثر من شَرْخ. وما يجري. في الواقع العربي الراهن، من انقلاب على الأنظمة القائمة، والثورة عليها، زاد من فضح هذه الصورة المشروخة، الممزقة، وكشف تهافت الكثير من المثقفين، ممن كانوا بالأمس من أنصار النُّظُم العسكرية، ممن انقلبوا عليها، وأصبحوا يتكلمون باسم الثورة، التي هم يرفضونها، أساساً، لأنها عصفت بمصالحهم، ولا تدخل، أساساً في فكرهم. بكل تأكيد، كما أشَرْتَ، تتعدد صور هذا المثقف : مثقف الدولة ، مثقف الحزب ، مثقف المؤسسات الثقافية المعطوبة ...وكلها صور تشوش على المثقف الحر الذي يسعى إلى خلق مساحات رأي معرضة للصد . تعليقك الأستاذ بوسريف . هذا هو التَّمَزُّق الذي أشرتُ إليه. فالمرآة متعددة الجروح، ولا تُتِيح لنا رؤية الوجه في صورته الحقيقية، أو كما ينبغي أن نراه. ثم إن هذا التشتت داخل مساحة المثقفين أنفسهم، كان دائماً موجوداً، وكانت الدولة، تعمل على استدراج المثقفين لتبرير سياساتها، ولاستعمالهم كدروع لتحتمي بهم من «العَوامّ». الفقهاء، كانوا يقومون بهذا الدور، كما قام به الشُّعراء، في مراحل نشوء الصراع السياسي، في حكم الأمويين، فكلما كانت الدولة في حاجة لشرعية ما، فهي تستعمل «رجال الدين»، وأعني هنا الفقهاء، والمثقفين، بالمعنى الذي يجعل من المثقف يصدر عن غير مرجع الفقيه، الذي يحشر نفسه في الفتوى، وفي الوعظ والنصيحة. المثقف، بهذا المعنى، موظف، يَتِمّ استعماله، وتوظيفه للدفاع عن عقيدة الدولة، واختياراتها، وعن عقيدة الحزب واختياراته، ولا يصدر هذا المثقف عن اختياراته هو، وعن رؤيته الخاصة، بل إنَّ السياسة، هي التي تستعمل المثقف، وتُوَجِّهُه، في حين أن العكس هو ما ينبغى أن يكون. وهذه هي حالة العطب التي أدَّت إلى تفاقُم انهيارات المثقفين، وتفاقم انهيار اختياراتهم. في مصر الناصرية، وفي سوريا، والعراق، وحتى في ليبا القذافي، انكشف هذا التهافُت، وهذه الانتهازية، التي دفعت المثقفين للانجرار وراء ديكتاتوريات، لم يتوانوْا في الدفاع عنها، واعتبارها ثورية، وكتابات هؤلاء، وما شاركوا فيه من مهرجانات، وحصلوا عليه من أموال، يشهد بهذه الانتهازية، وهذا التهافُت الذي ليس من سلوك المثقفين المُسْتَقِلِّين، أصحاب الفكر الحداثي التنويري، الذي يقوم على النقد، واجتراح الأفكار، لا اجترارها. وهذا ما حدث عندنا في المغرب، إبَّان ما سُمِّيَ بحكومة التناوب، التي دخل فيها اليسار، إلى السلطة، المثقف اليساري، لم يُراع المسافة اللازمة، ولم ينْأَ بنفسه عن السياسي، ليبقى الضمير المراقب لِما يجري، وللتذكير بالمباديء، ويُنَبِّه للانحرافات. المثقف بالعكس، وخصوصاً مثقفو الاتحاد الاشتراكي، انساقوا دفعة واحدةً نحو غنائم السلطة، ما سيُفضي لموت الحزب في ما بعد، نتيجة فشله الذريع في حل المشاكل المطروحة، بل إنه كان فرصةً، استغلها الإسلامويون للوصول إلى الحكم، لأن الاتحاد بقدر ما كان حزباً قوياً، راهَن عليه الجميع، بقدر ما كان لحظة الحسم، في كشف انتهازية السياسي، والمثقف معاً. هذه بعض أوجه الجروح، أو الشروخ التي نراها على المرآة، وهي مرآة مشروخة، مُشَوَّشَة، لا يمكن استشفاف الرؤية، فيها بوضوح. يفضي بنا هذا النقاش إلى علاقة الثقافي بالسياسي في وجهه الحزبي أو الرسمي ، كما أشرتَ،. كيف تشخصون هذه العلاقة المحكمة بالهيمنة والتأجيل ؟ يبدو أنَّ السياسة، من خلال المعطيات التاريخية لهذه العلاقة، هي المستفيد الأول من الثقافة، أي من المثقف الذي، بدل أن يدخل السياسةَ من باب الثقافة، فهو، دائماً، يختار العكس، فتبقى الثقافة. عنده، تالية على السياسة، أو تابعةً لها. هذا يَتِمّ، في مستوى التبعية للدولة، أو السلطة، بالأحرى، كما يتم في مستوى التبعية للحزب. الثقافة هي ما يقود السياسة، ويُوَجِّهها، أو يفتح أمامها الطُّرُق، وهذا هو ما لا يحدث في الواقع، كون المثقف، لا سلطةَ له، سوى سلطته الرمزية، التي لا تجد لها، في الغالب قاعدةً، فالأمية منتشرة في مجتمعاتنا بشكل واسع، ناهيك عن الجهل، وغياب قاعدة واسعة من القُرَّاء، والكِتاب، أو القراءة عموماً ليس عليها إقبال، وهذا، طبعاً يعود لطبيعة السياسات التعليمية التي اتبعتْها الدول العربية، وهي سياسات أدَّت إلى إفراغ المتعلمين من الحس النقدي والمعرفي، ما جعل مجتمعاتنا تنتقل للتقنية، والحِرفِيَة، في مجال العلوم، دون تكوين معرفي، مبني على المعرفة بمفهومها العام. هذا الوضع الكارثي، هو ما أفضى لحشر المثقف في زاوية ضيقة، واليوم، حتى مع وجود القنوات الفضائية، وشبكة النيت، ظهر نوع من المثقفين الخُبراء!» في كل شيء، وهؤلاء يستعملهم الإعلام للترويج للأحداث الطارئة، أما المثقف الحقيقي، فهو لا يمكن أن يكون تابعاً لآلة الإعلام، لأنه صاحب فكر ونظر، وهو لا يملك أجوبة جاهزةً. ومثقف السلطة والحزب، هو أيضاً، مثقف عند الحاجة، وليس مثقفاً له أفكار، وله مشروع يدافع عنه، ويعمل على تكريسه. هذا النوع من المثقفين، هم من يعملون على تأجيل الأفكار الأساسية، والأسئلة الكبرى، وهم من يهيمنون على المؤسسات، ووسائل الإعلام، ويعطون صورة سيئة عن مفهوم الثقافة والمثقفين.