ما إن أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل حتى كثُر الهرج والمرج بالقبائل العربية، واختلط عندها الحابل بالنابل، وتناسلت مقالات الهجاء وقصائد الرثاء والخطب العصماء تشتم ترامب ومن في فلكه من يهود وأمريكان وقادة العُربان؛ لكن هل إعلان ترامب حدث مفاجئ أم أن نومنا وسباتنا هو الذي طال؟ في الحقيقة، الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل هو تحصيل حاصل تاريخي في الأبجديات السياسية الأمريكية؛ فكل من الرئيسين بوش الأب والابن وبعدهما كلينتون وأوباما، وغيرهم كثير من الرؤساء الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء كانوا يعتمدون في حملاتهم الانتخابية على إنجاز هذا الوعد؛ لكن الظروف السياسية العالمية كانت تحول دون تنزيله واقعيا. تزامن وصول ترامب إلى السلطة مع وصول الدول العربية إلى منحدر الضعف والهوان والانحطاط والانبطاح، أصبح العرب أكثر تشرذما وانشطارا وتفتّتا، سوريا في خبر كان، وكذا ليبيا واليمن والسودان... العالم العربي جثة هامدة بل مومياء محنط، وليس ثمة فرصة خير من انتهاز موت العرب لإعلان حياة إسرائيل. عقود من الزمن والصهاينة يقتلون الشعب الفلسطيني الأعزل، ينكلون بالشيب والشباب، يغتصبون الصبايا ويقتلون الأطفال الأبرياء، والعرب يتفرجون، وأقصى ما يقومون به لنصرة الأقصى هو ارتداء الكوفيات الأنيقة، والاحتجاج في ساحات عواصم القبائل العربية في أقل من دقيقة، والافتخار بالصراخ في سوق عكاظ بقصائد كسيحة ممسوخة مشوهة كالمسخ الذي بات يسكن أفكار القبائل العربية، والوهم الكبير بأننا سننتصر كلما صرخنا أكثر، حتى أصبح الصراخ رمز ثقافتنا وحديثنا وتواصلنا، نسأل بصراخ ونجيب بصراخ أكثر ونتناقش بصراخ وينتهي النقاش بصفع الفرزدق لجرير وغرس جرير الخنجر في ظهر الفرزدق، أصبحنا إخوة أعداء؛ وهذه علامة تجارية تميز القبائل العربية عن سواها من الأمم المتحضرة. تسكننا اليقينيات بأننا خير أمة أخرجت للناس، وبأننا أخرجنا العالم من الشقاء إلى الضياء، وأن تاريخنا الذي لا نسأم من اجتراره كما تجتر البقرة العشب في آخر المساء، وندعي كذبا وافتراء وبهتانا أننا قدمنا للإنسانية السلم والسلام، ونظرة كرونولوجية خاطفة على دروب تاريخنا الدموي تكشف أن أفضل هواياتنا هي العنف، قتل عمر وهو يصلي، وعثمان وهو يقرأ القرآن، وعلي وهو ساجد، والحسن والحسين، وقتل عبد الله بن المقفع وتقطيعه إربا، وقتل الشاعر لسان الدين بن الخطيب وإخراجه من قبره وحرقه...، ومسلسل القتل العربي لا يميز بين المعارضين والمفكرين والصامتين والمتكلمين، القتل العشوائي لإشباع شهوة القتل، ثم نقول إننا حمائم سلام وسفراء الوئام، آه من خطاب اللئام. الرئيس الأمريكي ترامب أعلن حقيقة واقعية، وهي أن فلسطين وما فوقها من قدس ومقدسات وما في أحشائها من حضارات وتراث هي كنز فرط فيه العرب، وهو كنز يعرف قيمته خبراء الصفقات... وبما أنه رجل أعمال، ومهندس الكثير من الصفقات فهو يسير أمريكا بمنطق التاجر المحنك، أخذ ملايير الدولارات من دول الخليج، وفرض عليها الكثير من الاستثمارات والإملاءات، وعمق خلافاتها وجعل أفراد القبيلة الواحدة يقتلون بعضهم بعضا وهم يتلذذون باغتيال أخ وقتل شقيق. وحين تيقن أن القبيلة أصبحت منهكة ودماء أبنائها أضحت أنهارا متدفقة، أعلن أن القدس هدية أمريكية لأبناء عمومته وأصهاره اليهود.. وبما أن العرب كما يقول المفكر عبد الله القاسمي في كتابه "العرب ظاهرة صوتية" فما كان منا إلا أن نرفع أصواتنا منددين شاجبين متباكين مهددين متوعدين، وألقينا القبض كعادتنا على المجرمين الخطيرين: المجرم الأول العلم الإسرائيلي، والمجرم الثاني العلم الأمريكي، وأحكمنا قبضتنا على المجرمين كي لا يفرا أو يهربا، ودلفنا في ضربهما ونتفهما وصفعهما وشتمهما والصراخ في وجهييهما، ثم أصدرنا حكما بإعدامهما حرقا في أكبر ساحات قبيلتنا.