شَكَّل الاختراق الإسرائيليّ للقارة الإفريقية جزءا من إستراتيجية كبرى أَطَّرت تفكير المشروع الصهيوني منذ مرحلة ما قبل إقامة كيانه الاستيطاني في فلسطينالمحتلة سنة 1948، حيث كانت مستعمرة بريطانية في إفريقيا اسمها أوغندا واحدة من المقترحات التي تمّ تقديمها لإقامة كيان يحمل اسم "إسرائيل" عليها من لدن أبي الحركة الصهيونية تيودور هيرتزل، حين توجه إلى بريطانيا واقترح على جوزيف تشامبرلين، وزير المستعمرات فيها، إقامة كيان لليهود في شرق إفريقيا، وبالضبط في أوغندا كخيار من الخيارات المطروحة (إلى جانب فلسطين، والأرجنتين...)، وهو الخيار الذي فشل بسبب الانقسام الكبير داخل الحركة الصهيونية حول هذا الموضوع. هذا الاقتراح كان يستلهم ما كان يعتبره نجاحا للتجارب الاستيطانية التي كانت تعرفها إفريقيا حينئذ (في شمال القارة مع الاستعمار الاستيطاني الفرنسي للجزائر، وفي جنوب القارة الإفريقية خاصة: في جنوب إفريقيا، روديسيا وناميبيا..). لذا، فتحت حركة التحرر العربي والإفريقي والثالثي عيونها على خطورة هذا الاختراق واندماجه في بنية حركة الاستعمار الغربي للقارة والقيام بأدوار وظيفية لتبادل المصالح مع مراكز القرار الرأسمالي الدولي أحيانا، ولعب دور الأداة لها في غالب الأحيان. الأمر الذي جعل واحدا من أهم رموز حركة التحرر الصاعدة حينها وهو الشهيد المهدي بنبركة يدق ناقوس الخطر في "ندوة فلسطين العالمية" المنعقدة بالقاهرة من 30 مارس إلى 6 أبريل 1965. أي قبل سبعة أشهر بالضبط من اختطافه واغتياله في باريس يوم 29 أكتوبر من السنة ذاتها. وهو الاغتيال الذي نجد لإفريقيا علاقة وطيدة به، حيث كانت حركة بنبركة بين عواصمها المستقلة حديثا؛ الجزائر التي تحولت بعد انتصار ثورتها التحريرية إلى قاعدة انطلاق وتلاقٍ لرموز وحركات التحرر، وقبلها القاهرة بعد ثورة 1952 التي لعبت أدوارا أساسية في دعم حركات التحرر في مواجهة الاستعمار في القارات الثلاث. وقد كان لحصول بنبركة، بوسائله الخاصة، على وثائق للمخابرات الأمريكية تتعلق باستهداف استقلال تلك الدول واستهداف قادة حركة التحرر الإفريقية (مثل الشهيد باتريس لومومبا، قائد حركة استقلال الكونغو؛ وكوامي نكروما، قائد استقلال غانا...)، وتحذيرهم من ذلك، وتنسيقه مع رموز حركة التحرر في إفريقيا مثل أحمد بنبلة وجمال عبد الناصر ولومومبا ومانديلا ونيكروما وموديبوكيتا وسيكوتوري… إضافة إلى تحضيره لمؤتمر القارات الثلاث (المنعقد في هافانا بين 03 و13 يناير 1966)، الذي كان من بنات أفكار الشهيد المهدي بعد تأسيس "منظمة التضامن بين شعوب إفريقيا وآسيا" التي عقدت اجتماعها الأول في العاصمة الغانية "أكرا" برئاسة كوامي نيكروما، مع ثلاثة نواب كان بنبركة أبرزهم على الإطلاق، حيث تم قبول اقتراحه بتوسيع المنظمة لتشمل كوبا وجزر الكاريبي ومجمل أمريكاالجنوبية، ليتمّ تشكيل لجنة جديدة سُميت باسم "لجنة الاستعمار الجديد" التي ترأسها بنبركة (كان مقررا أن يطلق مجلة ناطقة بها لمواكبة هذا النقاش تحت اسم "المجلة الإفريقية")، حيث تمت المصادقة رسميا على قرار ضم أمريكا اللاتينية الذي اقترحه بنبركة سابقا، في المؤتمر الرابع لمنظمة التضامن بين إفريقيا وآسيا المنعقد في أكرا بين 6 و9 مايو 1965. وفي أثناء زيارة تشي غيفارا للجزائر في طريقه إلى الكونغو لمساعدة الثوار هناك كان لقاؤه مع بنبركة، قبل أن يُعلَن عن ترؤس بنبركة للجنة التحضيرية لمؤتمر القارات الثلاث المقرر انعقاده في هافانا في يناير 1966، مؤتمر كان هدفه الرئيس دعم حركات التحرر الوطني في القارات الثلاث وفي مقدمتها مسألة تحرير فلسطين (كان مبدأ مواجهة الاستعمار والعنصرية مبدأ مركزيا في استراتيجيته، خاصة في تجارب فلسطينوالجزائروجنوب إفريقيا)، مساندة كوبا، تصفية القواعد العسكرية الأجنبية من القارات الثلاث ومعارضة أسلحة الدمار الشامل... عوامل متضافرة جعلت قرار اغتيال بنبركة جاهزا في مطابخ عواصم القرار الاستعماري، قبل تنفيذه في باريس ذات ليلة خريفية باردة. في سياق هذه الحركية المثيرة للشهيد المهدي بنبركة، كانت محاضرته في "ندوة فلسطين العالمية" جزءا من رؤيته التي تتضمن إستراتيجية عملية لمواجهة الاختراق الإسرائيلي للقارة السمراء، بعد تشخيص هذا الاختراق ورصد مظاهره وسرد مخاطره على عموم الشعوب الإفريقية ومستقبلها؛ وهو ما جعل منها وثيقة تأسيسية اعتمدتها حركات التحرر العربي والإفريقي والعالمي كواحدة من أدبياتها الأساسية، في سياق "وحدة المعركة" في مواجهة الاستعمار والامبريالية، سواء تعلق الأمر بمراكز القرار الاستعماري الدولي في أوروبا وأمريكا، أو بأدواتها في المنطقة التي كانت تمثلها بعض الكيانات الوظيفية، مثل الكيان الصهيوني في فلسطينالمحتلة الذي كان يقوم بأداء دور وظيفي للاستعمار داخل الوطن العربي وإفريقيا وآسيا، أو نظام جنوب إفريقيا الذي كان يقوم بالدور الوظيفي ذاته في إفريقيا. بنبركة، الذي كان مؤمنا بشكل مطلق بمبدإ نهاية الكيان الصهيوني باعتباره جزءا من الظاهرة الاستعمارية الغربية، تَحقّق جزء كبير من توقعاته حيث تحررت غالبية المناطق المستعمَرة، ولم يبق لاكتمال رؤيته إلا تحرير فلسطين (وبعض من المدن والجزر هنا وهناك، مثل سبتة ومليلية والجزر المغربية المتوسطية التي تحتلها إسبانيا، وجزيرة مايوت التابعة لجزر القَمر وكذا جزيرة لاريونيون اللتان تحتلهما فرنسا في إفريقيا...) وفي علاقة بالذكرى المائوية لصدور وعد بلفور الاستعماري والذكرى السبعين لإعلان كيان الاحتلال في فلسطينالمحتلة، صادف شهر أكتوبر الماضي حديثا لرئيس حكومة الكيان العنصري بنيامين نتنياهو، الذي تساءل في احتفال أقامه في بيته بمناسبة حرب أكتوبر 1973، عن "ما إذا كانت إسرائيل ستحتفل بذكرى تأسيسها المائة بعد 30 سنة من الآن؟!" مما يعكس قلقا وجوديا لدى نخبة هذا الكيان، يزداد حدة حين نستحضر تاريخ نماذج استيطانية شبيهة لتجربة الصهاينة استمرت أكثر من قرن من الزمان، لكنها انتهت إلى الأبد مثل الاستعمار الاستيطاني للجزائر الذي استمر 132 عاما وأسقطته ثورة الأول من نونبر 1954 التي كان المهدي بنبركة أحد المساهمين في دعمها، أو تجربة الاستعمار الاستيطاني الأبيض لجنوب إفريقيا التي استمرت أكثر من أربعة قرون قبل انهيارها. تأتي أهمية محاضرة بنبركة تلك التي حملت عنوان "دور إسرائيل في إفريقيا"؛ أولا في التوقيت والسياق الذي جاءت فيه، وبالضبط ثلاثة أشهر بعد انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة التي أعلنتها حركة فتح بإطلاق الرصاصة الأولى مطلع يناير 1965، حيث كانت جزءا من معركة فكرية ونضالية لإسناد هذه التجربة الثورية الوليدة ومحاولة وضعها في سياق عربي وعالم ثالثي يوفر لها الدعم والمساندة ويجعل منها رافدا من روافد معركة التحرر العالمي في القارات الثلاث، باعتبارها معركة مركزية في مواجهة حركة الاستعمار الرأسمالي الغربي التي بدأت تترنح أمام الضربات القاصمة التي كانت تتلقاها حينها في أكثر من منطقة من العالم. وثانيا، فيما تقدمه من تحليل عميق للأوضاع في إفريقيا حينها، بعدما تبين للشهيد بنبركة أن الاستقلال الوطني للأقطار العربية بالمفرد ليس كافيا لبناء تجربة مستقلة للدولة الوليدة في مرحلة ما بعد الاستعمار العسكري، ما دام أن القواعد العسكرية للمستعمِر لا تزال موجودة، وما دام أن أيادي الاستعمار واستراتيجياته تتطور وتتبادل المصالح بين القوى الاستعمارية المختلفة وأدواتها التي زرعتها في أكثر من منطقة في أركان الكرة الأرضية، لذا انتبه إلى ضرورة وضع استراتيجية تتكامل فيها جهود حركات التحرر الوطني في القارات الثلاث. وبعد مضي أكثر من نصف قرن على هذه المحاضرة يتلقى الصهاينة ضربة موجعة، حين تقرر إلغاء أول قمة إفريقية –إسرائيلية في تاريخ العلاقات بين الطرفين التي كان من المقرر انعقادها بمدينة "لومي" عاصمة التوغو (الشهر الماضي)، بعد اعتراض عدد من الدول الإفريقية والعربية على انعقادها، في استلهام لروح هذه المحاضرة. ومن المفارقات أن الشهيد المهدي بنبركة يحذر فيها من صناعة نخبة إفريقية في إسرائيل سيكون لها دور بارز في تسهيل الاختراق، وكانت دولة التوغو من الدول التي يذكرها في محاضرته تلك، حيث إن رئيسها الحالي فور غناسينغبي الذي زار الكيان الصهيوني ثلاث مرات، ورث الحكم عن أبيه سنة 2005 بعد أن حكمها بيدٍ من حديد منذ 1967 (كان الأب جنديا في الجيش الاستعماري الفرنسي في الجزائر أيام الاستعمار). وبدل استجابته لمطالب شعبه في الديمقراطية والعدالة الاجتماعية آثر الهروب من استحقاقاتها بالارتماء في أحضان علاقات مشبوهة مع الكيان الصهيوني، حيث كانت التوغو من الدول التي صوتت لصالح إسرائيل على قرار "اليونسكو" المعارض لفرض السيادة الإسرائيلية على مدينة القدسالمحتلة شهر ماي الماضي، (مقابل امتناع الكاميرون وساحل العاج وغانا وغينيا عن التصويت). إضافة إلى الكثير من الدول الإفريقية، خاصة تلك التي تعاني هشاشة في التكوين والبناء؛ وهو ما يجعل الاختراق سهلا وسريعا. وبالرغم من نجاح بعض الاختراقات هنا وهناك (خاصة في دول تعاني هشاشة كبيرة أو حروبا أهلية: مثل إريتريا ورواندا وليبيريا وأنغولا وتوغو ومالي وجنوب السودان...)، فإن الكيان الإسرائيلي ما زال يشعر بصعوبات جمّة أمام تنزيل مخططاته في القارة الإفريقية، والدليل على ذلك هو رفض منظمة الاتحاد الإفريقي في اجتماع لها قبل شهر، لطلب إسرائيلي للحصول على صفة عضو مراقب في هذه المنظمة الإفريقية المهمة (55 عضوا)، وهي الصفة التي حصلت عليها 82 دولة من خارج إفريقيا، مقابل مُمانعتها في منحها للكيان الصهيوني. كل ذلك بعد أن كان العرب قد أضاعوا فرصة تاريخية حين قامت 31 دولة إفريقية بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع كيان الاحتلال بعد حرب أكتوبر 1973 في التزام جماعي واضح بقرار منظمة الوحدة الإفريقية سرعان ما ضاعت مفاعيله بعد توقيع نظام السادات اتفاقية كامب ديفيد سيئة الذكر، حيث بادرت الكثير من الدول الإفريقية إلى إعادة تلك العلاقات إلى سابق عهدها. في وقت نجح فيه الكيان الإسرائيلي في أن يكون تعامله مع الدول الإفريقية من خلال مؤسسات إسرائيلية قوية، حيث تقوم المؤسسة الدولية للتعاون والتنمية MASHAV (الماشاف) التابعة لوزارة الخارجية الصهيونية بجهد كبير في دعم الحضور الإسرائيلي على مستوى القارة الإفريقية ولاسيما في المجال الزراعي والتعليمي والطبي والماء والكهرباء، ناهيك عن اهتمامها بالنفط والألماس وتجارة الأسلحة، وخاصة في ظل أجواء تراجع الحضور العربي في هذه القارة التي تشكل عمقا استراتيجيا وحضاريا لنا. واستحضار رؤية الشهيد المهدي بنبركة هنا هو استحضار للمساهمة المغربية في حركة واسعة لتحرير إفريقيا والقارات الثلاث من أبشع ظاهرة عرفتها الإنسانية هي الظاهرة الاستعمارية بما رافقها من مآس وجرائم وتضحيات كذلك، وهي الروح التي ينبغي استلهامها والبناء عليها في انتماء المغرب الإفريقي، وليس معاكستها عبر أي نهج آخر قد يصبح فيه المغرب أداة لخدمة مراكز القرار الرأسمالي الدولية التي كانت ولا تزال سببا في نكبة هذه القارة ومآسيها التي لا تنتهي. * كاتب وباحث مغربي