بعد الاعتراف المُجحف، والقرار الأرعن من طرف الدّولة التي تُنعتُ بالعظمى، لا يهمّ فلكلِّ شيء إذا ما تمّ نقصانُ.. فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسانُ! أنظارنا بعد الفاجعة ما انفكت تتّجه في هلعٍ بدون انقطاع نحو مدينة السّلام التي طُعن فيها السّلام، حاضرة القدس الشريف الفيحاء.. هذا ليس بالأمر الغريب إنّه يتراءى نصب أعيننا على امتداد عقود بعيدة خلت عشناها على مضض، اعتدنا خلالها على مشاهدة كلّ أصناف المآسي الفظيعة، والأحداث البَشِعَة، والجرائم الوحشيّة النّكراء، والمظالم اللاّإنسانية المُزْرية، وكلّ أشكال التقتيل، والتنكيل، والتطاول، والتجاوز، والتظلّم، والهدم والرّدم، والأعمال الإجرامية الآثمة، والاعتداءات الظالمة، التي عاشتها وما بَرِحَتْ تعيشها فلسطين الجريحة.. تراجيديات مُؤسفة، ومآسٍ مؤلمة ما فتئنا نتفرّج عليها من بعيد، ويتفرّج معنا العالم عليها في ذهول، وتوتّر، وارتباك، والتي يُنْدَى لها جبين البشرية جمعاء.. بعد الذي حدث لم يعد لدينا ما نكتبه، لم يعد لدينا ما نقوله، لم يعد لدينا ما ننظمه، كلٌّ منّا ينظر، ويحدّق في الآخر في شدوه واندهاش، وتراخٍ وخمولٍ، وفى غصّةٍ، وحُرقة، وحَسرة، وأمسى يعلو محيّانا السؤال تلو السؤال: ما الذي حَدَث؟ ما الذي يَحْدُث؟ ماذا أصَابنا؟ ماذا دهانا؟ تبعثرتْ أوراقنا، وتعثّرتْ خُطانا، وتلعثمتْ ألسنتنا، وزاغتْ أعيننا، وتاهتْ عقولنا، وزلّتْ أقدامنا، وضاعتْ بَوْصَلتنا، وهبّتْ الرياحُ العاتية، وجاءتْ بما لا تشتهيه سفننا المشروخة، فأمْسَيْنَا نبحر ضدّ التيّار، تُلاطمنا الأمواجُ العالية، وتهدّنا اللّججُ المُزْبدة، ضللنا مسالكَ الطريق، وخَبَا في أحداق أعيننا شعاعُ البَرِيق، وشبّت في سويداء قلوبنا نار الحَرِيق، تلو الحريق، وجفّ اليراع بين أناملنا، وانكسر الجَلَمُ بين أصابعنا، استنفدنا الكلمات، ونضبتْ في مآقينا كلّ العَبَرَات، بُحّتْ حَنَاجِرُنا، وذَبُلتْ محاجرُنا، وقُضّتْ مَضَاجِعُنا، واحتدت مواجعنا، وتفاقمتْ آلامُنا، وتَضَاعَفَتْ مُعَاناتُنا. أعداؤنا يعملون في صَمْت رهيب، بلا صياح، بلا نواح، بلا بهرجة، بدون تهديد، أو تنديد، أو وعيد، يوجّهون لنا الضّربات، ويسدّدون لنا أشدّ اللطمات، ويكيلون لنا اللّكمات الواحدة تِلْوَ الأخرى، فنرفع أكفّنا للسّماء ضارعين، قانتين، راجين الانتقام من القَوْم الظالمين . لقد أصَابَ مَنطِقَنا البِلىَ، كَمْ بكينَا، وانتحبنا، وشكّل ذلك فرصاً سانحة لإثراء أغراض الرِّثاء، والزهو، والفخار، بالأبطال الأشاوس الأبرار الذين سقطوا، والشّهداء الصّناديد الأخيار الذين أسلموا الروّح لباريها في ساحة الوَغَى، وفي الخَنْادِق، والأُخاديد، وفي البيوت، والمداشر، والمشافي، والحقول، والأكواخ، والمَصانَع، والمَعامل، والمدارس، والدكاكين، وفي قمم الجبال، وفي سُفوح الهِضاب، وفي منخفضات السّهول، وفي عَرْض البحار، شهداء أبرار من شيوخ، وأطفال وبنات، وصبايا وصبيان، ورجال ونساء، وآباء وأمّهات، وثكالى، ويتامى، كلّهم أعطوا النفسَ والنفيسَ، وسقطوا تحت رُصَاصَات الغدر، ومدافع الخيانة، وأنفاط الدّمار، وسموم الغازات، والأسلحة الخَرْدَليّة، والغازات السامّة، داخل الأراضي الطاهرة المنكوبة ها هم ما فتئوا يسقطون إلى اليوم من جديد، والصّمت مُشَاع، والسّكوت مُطبِق في الشقيقات، وفي الجارات المرعوبات، وما انفكت ألسنةُ اللّهب تتصاعد، وأعمدةُ الدّخان تتعالىَ، وأخرى تتهاوى بفعل التقادم، والتشرذم، وعوامل التعرية، والتَحَاتّ في التضاريس البشريّة، تآكلاً، وتواكلاً، وتخاذلاً، وانبهارا. إننا لم نشأ أن نقتنع بأنّ المسألة مسألة بقاء أو لا بقاء، ليس غير، فلا أحدَ فينا أو مناّ أو بيننا يحرّك ساكناً، إنهم فقط يذرفون الدموعَ حَرّى ساخنة، وينزوُون بأنفسهم "الشاعرة" الملتاعة ليَنْظِمُوا لنا كلماتٍ، وعباراتٍ، وآهاتٍ مشحونةً بالحِقد، والكراهية، والغضب، والمَقت، والانتقام، والوَعْد والوعيد، والتنديد، والتهديد.. وتمرّ الأيام، وتنقضي الليالي وفي رحمها، وفي خِضَمّها تتولّد، وتستجدّ الأحداث، وننسى، أو نتناسى ما فات. الأبطال يستشهدون الواحد تِلْوَ الآخر، زرافاتٍ ووحداناً، فيشاطرنا العالم طوراً أحزاننا، وأطواراً يجافينا. وتنثال، بل تنهال علينا سيلٌ من برقيات ورسائل التهديد، والوعيد، والشّجب، والاحتجاج، والمواساة، والعزاء، والأسى، والسّلوان.. وهذا حَسْبُنَا. ما أكثرَ لوحات الشّرف التي نزهو بها، ونتملّى بريقها، وتَغُصّ بها دورُنا وقصورُنا وبيوتاتُنا، وما أكثرَ النياشين، والأوسمة، والميداليات التي تعلو صدورنا، وما أكثر ما نعود إلى تاريخنا التليد لنخبّئ في طيّاته وثناياه رؤوسنا كالنّعامات، وما زلنا نستلهم منه الدروسَ، والعِبَر، والحِكَمَ، ونَستشفّ منه معنويات جديدة لاستئناف مسيرتنا. إننا قومٌ رحماءُ بغيرنا، وإن كانت بنا غِلْظَةٌ وفَظاظة، مشهودٌ لنا، ومشهورون بالصَّفْح والتّسَامح، وإن كانت بنا أَثَرَةُ وكبرياء، مع ذلك، إننا قَوْمٌ رؤفاء، ورحماء بالصّغار والكبار، معروفون بهذه الثنائية المُرَكّبة، فقد تغنّى بها شعراؤُنا ونبغاؤُنا: "فَنَحْنُ قَوْمٌ تُذِيبُنَا الأَعْيُنُ النّجْلُ/ عَلَى أنّا نذيبُ الحَدِيدَا..طَوْعُ أَيْدِى الغَرَامِ تَقْتادُنَا الغِيدُ/ وَنَقتادُ في الطّعانِ الأُسُودَا.. وَتَرَانَا يَوْمَ الكَرِيهَةِ أَحْرَاراً/ وَفِي السِّلْمِ للغَوَانِي عَبِيدَا..."! نُحافظ على سُمعتنا حُيَال التاريخ، أمّا هُمْ فقد شُفطتْ واقتُدّت الرّحمةُ من قلوبهم، وكأنّها قلوب صِيغَتْ من فولاذ، لا يَفْرِقون بين الصّغير والكبير، إنّهم يَقتُلون، ويُقتّلُون، وينكّلون دون تمييز، وعزاؤنا الوحيد أنّ التاريخ يسجّل لنا هالاتٍ من "المفاخر"، ويسجّل لهم وعليهم قرابين المذابح و"المجازر" والجرائم الدنيئة، ويصوّر أيديهم المخضّبة، وأناملهم الملطخة بدماء الأبرياء من شعب أعزل، بريء، طريد. إنّنا ما زِلنا نَستدرّ عطفَ العالم ونَستجدي رحمتَه وتضامنَه، ونصف له المآسيَ، والفظائعَ، والأهوالَ التي يرتكبونها في حقّنا.. كسباً للقضيّة، أيّ أننا ما زلنا حالمين في تفكيرنا، بينما هم تجاوزوا هذه المرحلة، فآمنوا بالقوّة، والعُنْوَة، والتنكيل، والتقتيل، منذ أنْ وطئتْ أقدامُهم الدنيئةُ مدينة السّلام، ولطّخت أرجلهم أرضَ التعايش، والتسامح، والتساكن، والأمان. كان التاريخ "الغالب" في خدمة مصالحهم، فاستعملوا الدهاءَ والحيلَ، والدسائسَ والخسائسَ، والمكرَ والمكايدَ، وجعلوا باقي القوى في العالم لصالحهم. إنهم يفتكون بنا فتكاً في سرعة خاطفة مُذهلة، ويحققون انتصارات موقوتة، ولكنها ذات أثر بليغ، أمّا نحن ..! الاستعداد للمعركة الحاسمة، تَسخير كلّ قوى الشّعب العاملة لصالح المعركة، استغلال كلّ الطاقات، والخبرات، والمؤهّلات من أجل المعركة، خلق أدب مُلتزم جديد يعبّر عن واقعنا المرير استعدادا للمعركة، النّبش في التُراب، والثّرَى، والتراث خدمةً للمعركة، ترجمة روائع الآداب العالمية مِمّا يتوافق مع الاتجاه الأدبي الرّاهن الذي جعل كلّ همّه مُنصَبّا على المعركة، الأديب والمعركة، الشاعر والمعركة، العامل والمعركة، الفلاّح والمعركة، السياحة والمعركة، الصناعة والمعركة، البضائع الاستهلاكية والمعركة، الموادّ الغذائية والمعركة... وما زلنا مع بيكيت في انتظار الذي يأتي ولا يأتي!.. أبناءُ فلسطين يموتون من أجل بلادهم، إنّهم صادقون في حبّهم لها، لذا فهم لا يبخلون بكلّ غالٍ ونفيس من أجل أرضهم الطيبة السليبة، والأشقّاء يكتفون بالتفرّج، والتّحديق، والتصفيق، وكتابة المرثيات، وتتويج فرسان الشّعر، والبيان والتبيين بلغة مؤثّرة، باكية، شاكية، كئيبة، حزينة، مخزية ومذلّة، وأصبح همّهم الآن هو مَسْح العار، فَفَوْقَ أراضيهم ما فتئت تَجْثُمُ قوّاتٌ أجنبيةٌ آثمة.. "المطلوب الرّجوع إلى خطّ وقف إطلاق النار السّابق ليونيو (حُزَيْرَان)" من مخلّفات النكسة. ولكنهم لا يريدون، يتعنّتون، ويتمنّعون، ويتمسّكون بكلّ شبر غنموه، بل يزيدون في نشر نفوذهم، وبسط أخطبوطهم ليس على الأرض وحدها، بل على العقول والنفوس كذلك. إنّ هدفَهم أكبر ممّا نتصوّر، ولكنّنا نستصغره، ونقلّل من شأنه حتى نبثّ فيهم الغرور فيزدادون غطرسةً وكبرياءَ.. كلّ عربيّ أمْسَى مرسوماً على مُحيّاه وَجْهَ مُوناليزَا الجْيُوكَانْدَا هذه الأيام، فلا هو بالحزين ولا بالجَذِل، ولا بالباسِم ولا البَاكي، ربيعه مُزهر ومُزدهر، وصيفُه قائظٌ مُستعر.. كلٌ يحملُ همومَه، وثِقْله، وقلقَه، وهواجسَه، وتوجّسَه فوق ظهره ويمضي، سيزيفيّاً أمسى، ولا أحدَ يشعر به وبآلامه ومعاناته إلاّ هو، ولكنّه أقْسَمَ يميناً مغلّظة ألاّ يتخلّى عن المعركة، لذا فلا تُبَالُوا، ولا تُشْغِلْكم همومُه وأحزانُه!.. إنّنا قومٌ كُثُر، والكَثْرةُ قوّة، قال فارس منهم: لا يسألون أخاهم حين يندبهم/ في النّائبات إذا قال برهانا. وقال آخر: حُشْدٌ على الحقِّ عَيّافُو الخَنَا أُنُفٌ/ إذَا أَلَمَّتْ بِهِم مَكْرُوهَةٌ صَبَرُوا. وقال آخر: وَأَقْسَمَ المَجْدُ حَقّاً أَلاَّ يُحَالِفُهُم/ حَتَّى يُحَالِفَ بَطْنَ الرَّاحَةِ الشَّعَرُ. وقال آخر: تُعيّرنَا أَنَّا قَلِيلٌ عَدِيدُنَا/ فَقُلْتُ لَهَا إنَّ الكِرَامَ قَلِيلُ. وبالإضافة إلى هذه الذخائر والمفاخر لدينا كذلك الملايين، المالُ والجمال، والأبراجُ الشّاهقة، ولدينا تاريخٌ حافلٌ، وماضٍ تليد، ومَجْدٌ ضَائع و...ولكنَّ أعوادَنا هَشّة واهية، لأنّ كلاًّ منها، أو منّا يعمل بمفرده، على الرّغم من أنّ أحدَ حُكمائنا أوْصَانا وَنَصَحَنَا بأنْ لا نُؤتي هذا الصّنيع، ولكنّا ولّينا لقولته ظهورَنا، وانطلقنا نتوق نحو بطولات فرديةً، وتمرديةً، دونكشوتيّة وهمية، الله وحده يعرف مُنتهاها وعَوَاقبَها، اِعرف عَدُوَّك، تَعلّم لغتَه، اقرأ أدبَه، تَحَرّ تاريخَه، تَمَعَّن في غدره ومكره، راجِعْ بروتوكولاته، تَخرّجَ مِنَّا أساتذة ودكاترة وخبراء، وأصَدرنا مجلات ومنشورات ودوريات وكتباً ومطبوعات في التّعريف بكافّة مظاهر وخبايا وخفايا هذا العدوّ.. والطاقات العِلْمِيّة والعَمَليّة التي يتوفر عليها.. ولكننا لَمْ نَفِدْ شيئاً يُذكر منها البتّة.. جعجعة لا تُحدث طحينا..! لقد دخلنا حروباً، ومواجهات، فتورّطنا، كشفنا عن عوْراتنا، وعن مَدَى ضَعْفنا وَوَهَنِنَا وَخِذْلاننا، وَلَزِمَتِ الكآبةُ أَوْجُهَنَا، وَسَكَنَتِ الحَسْرَةُ قلوبَنا، وقهقه الأعداء، وللنّاس فيما يَفتكون طرائقُ!.. أيُّهَا النَّاس اسمعوا وَعُوا، العَدُوّ أمامكم، والعدوّ خلفكم، والعدوّ عن يمينكم وعن يساركمْ، ومن فَوْقِكُمْ ومن تحتكمْ، فأفيقوا من سُبَاتِكُمْ الطّويل، ولا تقبعوا في دُوركم، فَالحَرْب سِجَالُ، والأيّام دُوَلٌ، وَيَوْمٌ لَكُمْ، وَيَوَمٌ عَلَيْكُمْ، فلاَ تَجْزَعُوا مِمَّا أَصَابَكُمْ مِنْ رَوْع، وجزع، وهلع، وَقُرُوح، وَإنِّكُمْ لَمُنْتَصِرُونَ لاَ مَحَالَة بِإِذْنِ الله . *عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا