يُعد عمر الزيدي واحدا من مؤسسي اليسار الجديد بالمغرب، هذا المكون السياسي الذي ظهر بالمغرب بُعيد الاستقلال مباشرة، لأسباب مرتبطة بالتحولات الإقليمية والدولية التي شهدها العالم آنئذ. كما أن عمر الزيدي يعدّ من مؤسسي حركة "لنخدم الشعب" ذات النزوع الماركسي اللينيني، حيث تأسست هذه الحركة داخل بيته رفقة بعض الأسماء التي لا تزال على قيد الحياة؛ منها من تنكر "لنخدم الشعب" وارتمى في أحضان "عدو الأمس"، بينما ظل الزيدي يشتغل في أحضان المجتمع، من العمل السياسي والأفكار الحالمة في التغيير، إلى العمل من خلال المجتمع المدني. في هذا الحوار، الذي ستنشره هسبريس منجما، سنحاول أن نرصد من خلاله التاريخ الثقافي لمدينة سلا، وهي المدينة التي نشأ فيها صاحبنا/ الزيدي، وكذا التوقف عند التنشئة الثقافية والسياسية لجيل اليسار الجديد، وكذا معرفة جزء من الذاكرة/ التاريخ الراهن للمغرب من خلال جيل آمن بالتغيير عن طريق الثورة فتحول إلى الإيمان بالتغيير المدني.. كيف حدث ذلك؟؟! هذا ما سوف نعرفه من خلال هذه السلسلة من الحوارات!! -9- تعدّ حملة الاعتقالات في نونبر 1974، ربما، أكبر حملة يتعرض لها اليسار الجديد، هل طالت حركة "لنخدم الشعب" كذلك؟ ربما من حيث الأهمية وليس العدد، لأن الاعتقالات ستستمر منذ سنة 1972 طيلة سنوات السبعينيات. بعدها، جاءت اعتقالات سنة 1973 (مجموعة 36) ما سمي آنذاك بملف "النقابة الوطنية للتلاميذ"، من بين المناضلين المتابعين في هذا الملف الفقيدان "تيريدا" وهو من مؤسسي تنظيم 23 مارس، وعبد الرؤوف فلاح وهو من مناضلي إلى الأمام في سلا. ثم جاءت اعتقالات نونبر 1974، 1975، 1976، 1977، 1979، واستؤنفت في الثمانينيات. وهنا أتكلم عن الاعتقالات التي طالت الفصائل الثلاث للحركة الماركسية – اللينينية المغربية. كانت هناك اعتقالات أخرى طالت المناضلين الاتحاديين بعد أحداث "3 مارس" في مولاي بوعزة وغيرها، حيث كان إعلان الثورة المسلحة. أهمية اعتقالات نونبر 1974 تكمن في كونها طالت 26 إطارا قياديا في 23 مارس وإلى الأمام، في مرحلة كانا على أهبة تطوير التنسيق بينهما، خاصة أن قيادة الداخل ل23 مارس استطاعت توفير شروط تقدم التنسيق، إضافة إلى الدور الذي استطاع الشهيد عبد اللطيف زروال (قيادي من إلى الأمام) لعبه في التفاهم مع قيادة 23 مارس. وأعتقد أن أحد تعبيرات هذا التنسيق هو صدور البيان المشترك حول الصحراء بعد خطاب المرحوم الحسن الثاني حول الصحراء في 10 يوليوز 1974 بمناسبة عيد الشباب. عبر هذا البيان عن موقف مركب من قضية الصحراء، بتنصيصه على أن "الصحراء تاريخيا مغربية وحق الجماهير الصحراوية في تقرير مصيرها". في هذه الظروف، فتح معنا رفاق إلى الأمام النقاش للمشاركة في التنسيق، وبالتأكيد كانت هذه الخطوة ستخلق ديناميكية جديدة في العمل أمام ما تتعرض له حركة "اليسار الجديد" من قمع ومحاولات الاجتثاث. كانت هذه الاعتقالات ضربة قاسمة للجهود التي كان يمكن أن توفر شروط التطور النضالي. لم تطل هذه الاعتقالات أي من مناضلي "لنخدم الشعب". بعد اعتقالات 1972 لمناضلي تيار "الخط الجماهيري"، أول ضربة يتلقاها تنظيم "لنخدم الشعب" كانت في قرية "با محمد" بإقليم تاونات سنة 1975 ، حيث اعتقل 5 مناضلين على رأسهم أحمد شرفي. انقطع الاتصال بهؤلاء المناضلين لبضعة شهور، فاعتقدوا أن لجنة التنسيق الوطني اعتقلت في حملة نونبر 1974(لم تكن وسائل التواصل ميسرة كما هو عليه الحال الآن. حتى الهاتف في المنازل كان باهض الثمن وغير ميسر للجميع بحيث يتطلب "ما هي وما لونها")، فقاموا بطبع نشرة جديدة، أسموها "لنستمر في خدمة الشعب" إضافة إلى منشورات. اهتدى إليهم الدرك في المنطقة واعتقلهم، من نتائج اعتقالهم كانت محاولة اعتقال محمد شركو الذي كان على اتصال بأحمد شرفي، غادر محمد شركو سلا آنذاك والتحق بالدار البيضاء حيث احتضنه الرفاق هناك. حسب علمي، أنك اعتقلت كذلك في سنة 1974.. نعم اعتقلت في ماي 1974، صحبة طالبين، ومكثنا في مخفر الشرطة حوالي شهرين. يبدو أن البوليس لم يكن يعلم عنا أي شيء، وأعتقد أن هذا الاعتقال جاء نتيجة لحركيتنا في المنطقة بحيث استطعنا في "لنخدم الشعب" أن نفجر معركة عمالية في الرباطوسلا وتمارة، حيث فرض على الكتابة الجهوية للاتحاد المغربي للشغل أن تعلن إضرابا عاما في معامل الجهة لمدة 24 ساعة مع جمع التضامن للعمال المعتقلين، لأنها لاحظت أن المبادرة سحبت منها في النقابة. جاء ذلك للدينامية التي أبرزناها بمناسبة إضراب عمال وعاملات النسيج "صوف المغرب" بسلا. كانت العمال حين يضربون ينصبون عادة خيمة أمام المعمل حتى يكونون يقظين لمنع الباطرون من تشغيل عمال آخرين لتكسير الإضراب، وكانت عادتنا في "لنخدم الشعب" كتوجيه لكل المناضلين والمناضلات أن نشتري السكر والشاي والنعناع وندخل إلى خيمة العمال وننسج معهم صداقة تضامن. ما وقع هو أن القوة العمومية هجمت على الخيمة واعتقلت حوالي 11 عاملا وعاملة، ونقل العديد منهم إلى المستشفى، فنقلوا اعتصامهم إلى مقر نقابة الاتحاد المغربي للشغل، فاستطعنا عن طريق خلية عمال النسيج أن نتدبر وصولات من النقابة دون علم الكتابة الجهوية ووزعناها على مناضلينا في الطلبة والتلاميذ لجمع الدعم، وزرنا في تلك الحملة كل المعامل؛ وهو ما مكننا من قدر مالي لتغطية مصاريف التغذية للعمال يوميا الذين يقضون النهار في الاعتصام، وكذلك مصاريف القفة اليومية لعائلات المعتقلين، حيث نوصلها إلى منازل المعتقلين دون أن يعرفوا من أوصلها. كماكنا نصدر منشورا إخباريا يوميا عن سير المعركة؛ وهو ما جعل الكتابة الاقليمية للاتحاد المغربي للشغل ترتاب من هذه التحركات وتدعو إلى جمع عام للعمال في المنطقة وتدعو إلى إضراب 24 ساعة مع وضع صندوق للتضامن في المقر لجمع التبرعات. وبالتأكيد أن المخابرات هي الأخرى ستبحث عن من وراء هذا التضامن الذي وصل إلى تنصيبنا محاميا للمعتقلين. إبان الاعتقال من حسن حظنا أننا كنا في مكتب واحد لدى الشرطة القضائية، وبالرغم من العصابات على العينين، إضافة إلى أن الحراس في معظمهم متراخين، فنستطيع التحدث بيننا، ومنذ اليوم الأول قلت للطالبين: أنتما لا تعرفان أي شيء، أنا الذي أتصل بكم. تطلب مني الأمر أكثر من 15 يوما من الصمود للتعذيب حتى يتم تصديق كلامي وكأنني منهار وأعترف. فقلت لهم أريد تكوين منظمة ثورية للإطاحة بالنظام وهؤلاء الطلبة هم بدايتي. عرض علي البوليس نشرات 23 مارس وإلى الأمام فنكرت معرفتهم، سألوني هل أزور سفارات فنكرت ذلك. وبالرغم من الاستمرار في التعذيب تشبثت بكلامي. بعد قضائنا حوالي شهر وقعنا المحاضر وبقينا ننتظر تسليمنا إلى النيابة فإذا بهم يفرجون عنا بعد 54 من الاعتقال، اعتقلت ولم يمر على عقيقة ابنتي "فدوى" أسبوع؛ وهي أولى أبنائي.. أشرت إلى موقف 23 مارس وإلى الأمام في قضية الصحراء من خلال إصدارهم بيان مشترك، وما هو موقف لنخدم الشعب؟ جاء هذا البيان المشترك في سياق جهود مبذولة لتطوير التنسيق في اتجاه وحدة الحركة الماركسية – اللينينية المغربية، بعد إصدار إلى الأمام وثيقة "لنبني الحزب الثوري تحت نيران العدو"، الخطوة ذاتها فعلتها 23 مارس قيادة الداخل بإصدارها وثيقة "الوضع الراهن ومهام الحركة الماركسية – اللينينية"، وهي وإن اتفقت مع وثيقة إلى الأمام في بعض النقط فقد سلطت النقد لعدة نقط أخرى؛ من ضمنها بالأساس أطروحة "القواعد الحمراء المتحركة". ومن جهتنا في لنخدم الشعب، كانت لنا قراءة نقدية للوثيقتين. فإن كانت لنا اتفاقات مع رأي 23 مارس في بعض قضايا الوضع العام فإننا انتقدنا موقف التنظيمين من "حركة 3 مارس"، حيث اعتبروها حركة "بلانكية" معزولة عن الشعب ومآلها الطبيعي هو الفشل، عوض تحمل المسؤولية ومعالجة الثغرات للتنفيس على الثورة، واعتبرنا خطاب الوثيقتين مثقفيا متعاليا تبشيريا بعيدا عن الجماهير ولا يمكنه إملاء أساليب تطوير نضال الجماهير في اتجاه تحقيق الثورة بوصفات من قبيل "القواعد الحمراء المتحركة" أو "الانتفاضة" أو غيرها؛ بل إن إبداع أشكال النضال الجماهيري والعنيف لتحقيق الثورة لن يأتي إلا بالعمل مع هذه الجماهير في الميدان، تفعيلا لمقولة ماوتسي تونغ "إننا لا نستطيع أن نعلم الجماهير إلا ما سبق وتعلمناه منها"، في السياق نفسه انتقدنا مفهوم "الطليعة" عند التنظيمين، وبضرورة اعتماد "الخط الجماهيري، وأن ما نحتاجه هو كتاب "حرب التحرير الشعبية في ألبانيا" لمحمد شيخو وليس "ما العمل" للينين. وماذا عن موضوع الصحراء؟ اسمح لي، إنني متشعب في الحكي والقضايا متداخلة، إضافة إلى كوني أحكي من الذاكرة حسب ما عشته، وبالتأكيد أنه سيكون للرفاق والرفيقات الذين عاشوا التجربة الكثير مما يمكن أن يحكوه في الموضوع حسب موقع كل واحد في ظروف العمل السري والملاحقات المتتالية. نعم.. لقد عرف النقاش حول الصحراء مراحل متعددة منذ البدايات الأولى للحركة في وقت كانت فيه الصحراء خاضعة للاستعمار الإسباني واللقاءات الثلاثية بين الحسن الثاني وبومدين والمختار ولد دادة متواترة، وكان الشباب الصحراوي الذي سيؤسس جبهة "البوليزاريو" في ماي 1973 موجودا في الرباط يائسا من اللقاءات مع قادة الأحزاب الوطنية (المرحومان علال الفاسي وعلي يعته والشهيد عمر بنجلون)، وكان الفضاء الطلابي يحتضن نقاشات حول الصحراء داخل المجالس الطلابية "لجبهة الطلبة التقدميين". وكان يحضر هذه النقاشات الوالي مصطفي السيد والركيبي وعدد من الطلبة الموريطانيين ينتمون إلى تنظيم سري يساري يطلق عليه "حزب الكادحين"، وكان النقاش يتمخض على فكرة "ضرورة انطلاق الثورة في الصحراء ضد المستعمر الإسباني، وكذلك في المغرب وموريطانيا لتغيير الحكم في كل من المغرب وموريطانيا وتوحيد هذه الثورات من أجل بناء غرب عربي موحد".. هذه الأجواء من النقاش هي التي جعلت مجلة أنفاس تنشر ملف "فلسطين جديدة في أرض الصحراء" (العدد المزدوج 7/8 وهو آخر عدد من أنفاس قبل اعتقالات فبراير 1972)، هذه الأجواء العامة هي التي حكمت مواقف اليسار الماركسي في تحديد مواقفه بعد انطلاق جبهة البوليزاريو في 20 ماي 1973. فبرزت ثلاثة مواقف: موقف لنخدم الشعب: الشعب في الصحراء والمغرب شعب واحد، ولم يقسمه سوى الاستعمار وعملائه المحليين.. وبالتالي، فإن الكفاح المسلح ضد الإسبان في الصحراء ليستدعي مشاركة الثوريين والشعب في المغرب، ليس لدعم ذلك الكفاح فحسب، ولكن كذلك للعمل على إعطائه بعده الكامل، بتحويله إلى كفاح ضد الاستعمار والاستعمار الجديد وضد حماته المحليين على صعيد المغرب، كطريق نحو بناء دولة موحدة وطنية وديمقراطية وشعبية. موقف 23 مارس: إن الصحراء جزء من التراب المغربي، وإن سكانها جزء من الشعب المغربي، ويؤكد أن السبيل إلى تحريرها هو خوض الشعب المغربي لحرب تحرير شعبية. موقف إلى الأمام: إن الصحراء أرض عربية، وإن الشعب فيها متميز عن الشعب المغربي، وله الحق بالتالي في تقرير مصيره وبناء دولته المستقلة على أن يتحد إن أراد، بشكل فيدرالي أو بأي شكل آخر مع المغرب أو موريطانيا أو معهما معا، بعد حصوله على استقلاله، شريطة أن يكون المرشح للاتحاد معه قد تحرر بدوره من سيطرة الرجعية. هذه المواقف كانت في شروط قبل إعلان الخطاب الملكي في 10 يوليوز 1974، وقبل اعتقالات نونبر 1974. أما بعد المسيرة الخضراء وأوفاق مدريد التي بمقتضاها دخل المغرب إلى الصحراء فقد عرفت المواقف تغيرات كبيرة. فإذا كانت "إلى الأمام" استمرت في تشبثها بموقفها الذي عبرت عنه بشكل واضح في تصريحات الفقيد أبراهام السرفاتي في محاكمة يناير 1977، بإعلانه مساندة "حق تقرير مصير الشعب الصحراوي" ورفعه شعار "عاشت الجمهورية الصحراوية" . وهو الشيء الذي لم يوافقه عليه كل المناضلين والمناضلات في إلى الأمام الماثلين في المحاكمة. فإن قيادة 23 مارس الموجودة في فرنسا عقدت ندوتها الوطنية (أعتقد سنة 1976) واتخذت مواقف غيرت من توجهاتها جذريا، بحيث التحقت بالإجماع الوطني حول الصحراء المغربي، وعبرت عن مساندتها "للمسلسل الديمقراطي" الموعود به من لدن النظام. في حين أن جزءا من المناضلين المنتمين إلى 23 مارس الموجودين في المغرب (من بينهم العديد من المعتقلين)، ومنظمة "لنخدم الشعب" استمروا في تعاطفهم مع البوليزاريو مع دفاعهم عن الوحدة ورفضوا إعلان الجمهورية الصحراوية، كما رفضوا احتكار الحكم لملف الصحراء واستثماره لصالحه.