01 ماي, 2016 - 10:40:00 كان ترددي في محله عندما فاتحني الأستاذ عبد الصمد بلكبير في المساهمة في تقديم هذا الاصدار حول 23 مارس. فعلى فرض تجاوز كل الصعوبات المرتبطة بالموضوع، ما العمل مع إكراهات الذاكرة وألاعيبها؟.. وهل ينسى المرء مشيته؟! بهذه البساطة والعفوية يحل عبد الصمد الاشكالية. وقَطَعَ الشك باليقين عندما أتانا بالبينة: إحضار أعداد 23 مارس مصورة في «الملتقى»، وهو عمل مشكور وجدير بالتنويه به؛ بعد أن اعتُبر هذا التراث في حكم الضائع، فأنا شخصيا لا أتوفر الا على بضعة أعداد لست أدري كيف «علقت» بأغراضي عند نقلها إلى المغرب أوائل الثمانينات، وإلا كيف تعبر الحدود بمادة محرمة حتى ولو أقسمت بأغلظ الأيمان أنها «للاستهلاك الشخصي» فقط؟! لنحاول إذن نفض الغبار عن ذكريات عمرها أربعون سنة أو أكثر، وليتحمل معنا القارئ عناء السفر في الدروب المعتمة لشذرات تاريخ كاد يطويه النسيان؛ علّنا في معركة الذاكرة هاته نحقق بعض الانتصار نغالب به انكساراتنا في ما عداها من المعارك، سيما وأن 23 مارس تضررت أكثر من غيرها على مستوى ما اعترى ذاكرتها من نزيف وغبن؛ بسبب القمع طبعا لكن ليس دائما بسبب القمع. (الجزء الثاني). الهروب الكبير ستعلن حالة طوارئ في التنظيم لايقاف النزيف وإنقاذ المنظمة. أتهيأ في الجزائر لاستقبال الرفاق المتابعين بمساعدة رشيد فكاك الذي حضر من الداخل لتنسيق العملية. وفي عطلة الربيع سيجتاز الطالبي والمريني ومسداد الحدود في ظروف أقل ما يقال عنها أنها كانت محفوفة بالمخاطر واستعملت فيها وسائل بدائية جدا ولعب الحظ دورا وأي دور في وصولهم الى بر الأمان. وفي الرسالة التالية التي بعثها «الشريف» من مليلية بتاريخ 5 ماي 1972 خير تعبير: «.. أطلب منك أن تخبر الاخوان أن المغامرة التي دخلنا فيها، والتي ولا شك أنكم على بينة من جميع تفاصيلها، قد مرت بسلام لحد الآن. والذي أريد من الاخوان أن يعترفوا به هو أن أخطاء فادحة قد ارتكبت كادت أن تعصف بما تبقى من خيرة المناضلين. المهم أنني سوف أحكي تفاصيل القضية عند قدومي لنلقي بعض الأضواء...». "23 مارس".. معركة الذاكرة: تفاصيل مقتطفة من تاريخ لم يكتب بعد (الجزء الأول) سيتم مباشرة بعد ذلك إخراج «ادريس» (المحجوبي) و«الخطابي» (حمامة) وينتظر الجميع قدوم «الشريف» (الكرفاتي) الذي سيحل بالجزائر بالطريق العادي لتبدأ الاجتماعات الماراتونية لأعضاء المكتب السياسي: مصطفى مسداد، محمد الحبيب طالب، محمد المريني، محمد الكرفاتي، محمد المحجوبي، بحضور حمامة وفكاك والحجامي، والتي ستدوم عدة أيام بلياليها بمكتب الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج في النصف الأول من شهر يونيو 1972. اجتماع يونيو بالجزائر يعتبر محطة أساسية سيتم فيها تقييم التجربة السابقة بكل تفاصيلها والخروج برؤية جديدة لمستقبل التنظيم واليسار، على أساسها سيتم تطوير العمل بالخارج بانتقال الرفاق الأربعة (مسداد، الطالبي، المريني، المحجوبي) الى فرنسا، وستتم إعادة بناء المنظمة بالداخل بعد رجوع الكرفاتي وفكاك الى المغرب بإنشاء المجلس الاستشاري لمساعدة من تبقى من المكتب السياسي بالداخل، بعد تطعيمه بعدد من الرفاق، في انجاز هذه المهمة. بعد فترة قصيرة من التردد والاضطراب كما يستخلص من تقرير الرفيق «خالد» (السمهاري) المؤرخ ب26 أبريل 1972 إذ يقول فيه: «... أما بالنسبة للحالة العامة في «م» (المنظمة) فهي الآن تسير في تحسن إلى حد كبير رغم الصعوبات.. وقد ظهر جليا بعد ذهابكم أننا تسرعنا في ذلك.. لما خلق فيما بعد من مشاكل وعدم القدرة على التقرير.. مثلا: (...)»، سرعان ما سيتم التحكم في الوضع كما يظهر من مراسلة للكرفاتي أواخر غشت 72: «.. رغم الصعوبات والعراقيل التي تعرفونها جيدا واستفادة من دروس التجربة وما خلفته من مضاعفات فإن حركتنا قد انطلقت من جديد وعلى أسس جديدة نعمل فيها على تقوية روح المبادرة والتضحية والجدية والتفاني في العمل والانضباط لدى الرفاق. وكل الدلائل تشير على أننا مقبلون على مرحلة من التطور والتلاحم جد رائعة.. سيكون شهر سبتمبر 72 بالنسبة لمنظمتنا شهرا تاريخيا حقا حيث سيشهد تحت إشراف م.س أربع ندوات مطولة وجد هامة ستكون بمثابة الانطلاقة الحقيقية في عملنا الجماهيري..». «مجموعة الجبلي وبنسعيد»: من حلقة المهدي بنبركة إلى 23 مارس في باريس سيتابع الرفاق سيرورة بناء التنظيم مع الرفاق المتواجدين بفرنسا وبالخارج عموما في القطاعين الطلابي والعمالي. وسيباشرون التنسيق مع (أ) و (ج). سيتوج هذا التنسيق بإصدار مجلتي أنفاس (غشت 1972) و Souffles (يناير 1973) حيث ستصبح هذه المجلة واجهة إعلامية هامة تنشر أخبار القمع والنضالات بالداخل وتصدر دراسات وتقارير وتحليلات هامة عن المغرب تضافرت فيها جهود التنظيمات الثلاثة بشكل رائع. رافق صدور أنفاس حماس كبير وكانت مناسبة لنا في الجزائر لتوزيعها على نطاق واسع بين المغاربة وفي أوساط المثقفين الجزائريين التقدميين واليساريين منهم بشكل خاص. كما قمت بإيصال كمية منها إلى المغرب عبر الحدود عن طريق الرفيق «الوجدي» (شيشاح ميمون) الذي كان في هذه المرحلة صلة الوصل بيني وبين التنظيم في الداخل حيث كنا نلتقي في سيدي بلعباس أو عين تاموشنت. ستتوقف أنفاس بطبعتيها العربية والفرنسية سنة 1974 بتوقف التنسيق مع إلى الأمام على إثر هبوب ريح غير وحدوية قضت على الأمل الكبير بعد زيارة السرفاتي وتبني التوجهات الجديدة حول «الظرف الثوري» وحول الصحراء. وبالنسبة للنقاش مع (ج) اتخذ في البداية طابعا ثلاثيا ووضعت قيادة (ج) أمام اختيار الالتحاق بأحد التنظيمين (أ) أو (ب) كجماعة أو كأفراد. بعد سنة تقريبا من التنسيق والنقاش المعمق، حسم الموقف في ربيع 1973 لصالح انضمامهم جميعا (عبد السلام الجبلي، محمد بنسعيد، حميد برادة ورشيد سكيرج) إلى منظمة 23 مارس. وستبدأ معهم ومع رفاقهم الآخرين السيرورة المعتادة بتراتبيتها المعروفة عندنا إذاك: الالتحاق بالخلايا وباللجان الأساسية.. الخ. ولكم أن تتصوروا المناضل الكبير مولاي عبد السلام الجبلي بكل تاريخه الطويل والعريض يعود الى مقاعد الدراسة ليتعلم مبادئ الماركسية اللينينية..! فانسحب بشرف تاركا لصفيه و«كاتم سره» محمد بنسعيد، الذي لا يأنف من المهمات مهما صغرت، مهمة متاتبعة المسلسل. انسحب أيضا حميد برادة مكتفيا برصيده النضالي السابق وبعلو كعبه في مجال الصحافة بدل الانسياق في سيرورة غير مضمونة النتائج. تصفية استعمار أم تصفية حساب؟ في شتنبر 1970 ستنعقد أول لجنة مركزية لمنظمة 23 مارس وذلك في بيتي الكائن بزنقة عبد الكريم الديوري رقم 5 بالدار البيضاء، بعد أن أخليته بالمناسبة وذهبت بأسرتي في عطلة «مدبرة» الى تطوان رفقة المرحوم محمد صبري وأسرته. وإضافة الى القضايا التنظيمية والسياسية المستجدة بعد توحيد الحلقات وتأسيس الكتلة وانتخاب أول برلمان منذ اعلان حالة الاستثناء... ستثار مشكلة الصحراء. وقبل أن تثار قضية الصحراء رسميا لأول مرة في هذا الاجتماع، كان الموقف المبدئي منها متضمنا في المطالبة باستكمال البلاد لاستقلالها الناقص وفي الموقف من جيش تحرير الجنوب إذ الكل كان يتذكر الظروف التي حل فيها جيش التحرير بالشمال وانتقال جزء كبير منه الى الجنوب لمتابعة الكفاح ضد المستعمر الاسباني والفرنسي لتحرير الأراضي التي ما تزال محتلة في ارتباط مع الثورة الجزائرية وفي أفق استرجاع موريطانيا والصحراء وكل ذلك كان في إطار المغرب الرسمي؛ إذ لا ننسى أن المغرب لم يعترف بموريطانيا الا في فبراير 1970 وكانت هناك وزارة تسمى وزارة موريطانيا والصحراء لم يصدر الحسن الثاني أوامره بحلها الا في أكتوبر 1969، أي سنة فقط من اجتماع اللجنة المركزية ومناقشتها لقضية الصحراء. لذلك عندما طلبت المنظمة من الرفاق مناقشة القضية كانت هذه الخلفية واضحة أمام أعينهم وضوح الشمس. وعندما ناقشتُ الموضوع مع مسؤول الخلية الرفيق «امبارك» (المرحوم عبد العزيز موريد) اقترح نفسه - باعتباره من الجنوب - لمهمة استطلاعية في المنطقة باعتبارها جزءا من الرقعة الجغرافية التي ينحدر منها. كانت الأمور بهذه البساطة والعفوية بالنسبة لرفاق منظمة 23 مارس. (وفي «ملحوظة لها بعض العلاقة بما سبق»، مباشرة بعد عملية توحيد الحلقات وتأسيس 23 مارس، شُرع في تكوين الخلايا لدمج أعضاء الحلقات في التنظيم الجديد. أسندت إلي مسؤولية ثلاث خلايا. حددت المواعد مع مسؤول كل خلية على حدة. أعطيت لي العلامة وكلمة السر للقاء ب«امبارك» في بين المدن بين القريعة وعين الشق قرب سينما حديثة البناء. قبل أن يشهر كل منا علامته (جريدة ما) إذا الرفيق «مبارك» تلميذ عندي بالقسم: عبد العزيز موريد. عقب توزيع بيان «مقاطعة برلمان المعمرين الجدد» سيعتقل الرفيق «سليمان». يخبرني موريد أن سليمان هو الغازي الادريسي تلميذ آخر في القسم. وعند اعتقال موريد وصلاح الوديع في 1974.. سيتبين أن كل ثانوية مولاي عبد الله أصبحت يسارية بل ومعظم ثانويات المغرب وجامعاته...). مصطفى الوالي نحروه أم انتحر؟! عندما نشرت أنفاس أوائل 1972مقال مصطفى الوالي بعنوان «فلسطين جديدة في الصحراء» فهم ذلك بكونه من باب حرية التعبير عن الرأي؛ إذ كانت أنفاس مجلة اليسار بكل تلاوينه. وكان هناك من الرفاق من انتقد نشر هذا المقال لأنه يمكن أن يتخذه حجة من طرف الحكم لضرب اليسار. وقد كتب لي أبو العزم في 9 مارس 1972 يقول: «إن ما نشر حول قضية الصحراء بأنفاس يعتبر متسرعا وعملا طفوليا يساريا لم يأخذ بعين الاعتبار الظرف الذاتي والموضوعي الذي نعيشه...». حوالي سنة 1973 بدأ الوالي وجماعة من الشباب الصحراويين الذي كانو يدرسون بالجامعة المغربية يتحركون على الساحة الجزائرية بشكل محتشم وبإمكانيات جد متواضعة. ففي أحد الأيام أخبرني مسؤول مكتب جبهة تحرير عمان والخليج أن جماعة من «المعارضين المغاربة» يعلنون أنهم يناضلون ضد النظام المغربي وضد الاستعمار الاسباني في «الصحراء المغربية» وأعطاني نسخة من البيان الذي وزعوه بنسخ قليلة جدا لأنه مستنسخ على الكاربون وطلب مني توضيحا في الموضوع. وكان المسؤول الخليجي يعرف أن المغرب ما زال لم يسترجع كامل أجزائه المغتصبة ففهم تحركهم على هذا الأساس. ثم ربط لي الاتصال بهم. عقدت معهم عدة اجتماعات بحضور لحسن زغلول والمرحوم أحمد تفاسكا. وكان النقاش يدور حول النضال السياسي والمسلح ضد الاستعمار الاسباني في الصحراء وإمكانية التعاون بيننا وبينهم. لم يقل الوالي وصحبه قط إنهم يريدون إقامة دولة مستقلة في الصحراء ولم ينقل عنهم أحد من الذين كانوا يلتقونهم من حركات التحرر أن ذلك كان من بين أهدافهم حتى ذلك الحين. ألححت على الوالي في معرفة رأيه في إمكانية إدراج النضال الذي يخوضونه ضمن النضال العام للشعب المغربي، فأجابني حرفيا، بين الجد والهزل، «أنتم ياأخي شعب كثير.. وستأكلوننا». وكان اللقاء حميميا لدرجة أن الوالي - أمام إلحاح رفاقه بالمغادرة لأن هناك مهاما في النتظارهم - كان ميالا إلى إطالة اللقاء قائلا لأصدقائه : «إنني هنا بين أهلي».. اتصلوا كذلك بمناضلين من تنظيم الفقيه البصري الذي ربط لهم الاتصال مع الليبيين.. ثم دخل الجزائريون على الخط وأخذت المخابرات العسكرية تهتم بالشباب الصحراويين وسرعان ما ظهرت علامات هذا الاستقطاب في حياة البذخ التي بدأ الوالي يعيشها في فنادق الجزائر وأبرزها نقل هؤلاء الشباب من فندق آخر درجة بزنقة طنجة (فندق بروكسيل) الى فندق سان جورج الأعلى تصنيفا في مرتفعات العاصمة. تفوق الايديولوجيا على التاريخ والجغرافيا في ندوة أكتوبر 1974 بفرنسا (عقدت إذا لم تخني الذاكرة بمدينة أورليان عند محمد غلام)، ستحسم المنظمة الموقف من قضية الصحراء المغربية تأكيدا للموقف المبدئي للمنظمة في شتنبر 1970 واعتمادا على خلفية التراث النضالي لجيش التحرير مجسدا في أحد قادته التاريخيين محمد بنسعيد وتأسيسا على أرضية تفكير المنظمة السابق ورصيدها القومي الوحدوي المعادي لمزيد من التجزئة في الوطن العربي، قاطعة بذلك مع اللبس الذي اكتنف تصريف شعار «إعادة بناء وحدة نضال الجماهير الصحراوية مع الشعب المغربي في الشمال على أساس ديمقراطي»، تصريف حضر فيه التكتيك وغابت الاستراتيجية، نتيجة تفوقنا إذاك في الاديولوجيا على حساب التاريخ والجغرافيا، وذلك اعتمادا على مقال أنفاس، وفي غمرة انخداع بعض رفاق المنظمة في الداخل - ضمن أفق توحيد طرفي اليسار - بخط السرفاتي وشعاره البراق: «لنبن الحزب تحت نيران العدو» ضدا على «خطة التراجع المنظم» الذي سبق ل23 مارس أن تبنتها.. علما أن رفاق 23 مارس في الداخل الذين كان لهم ذلك الموقف الملتبس قد انحازوا تباعا الى موقف مغربية الصحراء سواء منهم الذين كانوا في السجن أو الذين التحقوا بالخارج دون أن يعيروا اهتماما لصحة أو عدم صحة موقفهم السابق باستثناء رفيق واحد مسؤول في اللجنة الوطنية تحلى بالشجاعة اللازمة وقام بتقديم نقد ذاتي علني نشر في النشرة الداخلية مباشرة بعد انعقاد الندوة الوطنية بالخارج في صيف 1975. خطوة «إلى الأمام» خطوتان الى الوراء سيتخذ إذن موقف مغربية الصحراء بتبني الأرضية المستمدة من الدراسة الهامة التي أنجزها محمد بنسعيد كخلاصة لتجربة جيش التحرير في الصحراء بأغلبية الأصوات مع بعض الامتناعات ومعارضة صوت واحد هو صوت محمد المحجوبي الذي تبنى موقف تقرير المصير للشعب الصحراوي (مع اعترافه بمبدأ مغربية الصحراء تاريخيا..!) ودعا إلى تجميد نشاط للمنظمة بالخارج باستثناء مناهضة القمع في انتظار انتقال الرفاق المعتقلين من درب مولاي الشريف الى السجن المركزي وفتح نقاش موسع في جميع القضايا بما فيها قضية الصحراء. وسنرى كيف رفع الرفاق عاليا راية الصحراء المغربية في محاكمة 1977. انسحب المحجوبي مباشرة بعد ندوة باريس من المنظمة والتحق بإلى الأمام التي أصبح قائدها الأول في الخارج. تأسفت شخصيا غاية الأسف لهذا الشرخ لما يشكله من استنزاف وتبديد للطاقات سيما وأني أحتفظ بذكريات نضالية ممتازة مع المحجوبي منذ التحاقه بنا في اللجنة المحلية بالدار البيضاء (وكانت المنظمة في البداية ترصده لمهام أخرى) قبيل مغادرتي المغرب ثم زيارته لي بالجزائر موفدا من المنظمة خصيصا لوضعي في صورة التطورات بالداخل ومناقشة خطة عملي بالجزائر وتنسيق العمل مع الرفاق في فرنسا. كم تبدو بعض المواقف عبثية منظورا إليها بعد ثلاثين أو أربعين سنة؛ فالمحجوبي سيغادر سنة 1979 إلى الأمام التي أصبح على رأسها، بعد أن اكتشف أن «السرفاتي أصبح ينادي بحق الشعب الصحراوي في تكوين دولته» (حديثه لكنزة الصفريوي في كتاب la revue souffles الصادر سنة 2014. كما سيغادرها كل القادة التاريخيين المؤسسين لإلى الأمام في الخارج: حسن الحاج ناصر، ريمون بنعيم، زهور بنشمسي، حسن بناني... حاربت المنظمة ما استطاعت نزعة العدمية وقاومت بشدة مواقف التنظيمات اليسارية العربية المتهافتة على المال الجزائري والجارية وراء سراب دعم الجزائر للقضية الفلسطينية الذي لم يتجاوز التصريحات الديماغوجية. خاضت المنظمة من خلال جمعية المغاربة بفرنسا نضالا متميزا وسط الجالية المغربية عبر جريدة «الجالية» وبواسطة المظاهرات العمالية التي نظمتها ولا سيما مظاهرة 22 نوفمبر 1975 التي نظمتها الجمعية بباريس شارك فيها أزيد من 1000 مهاجر مغربي رفعت فيها شعارات مثل: «فلسطين عربية والصحراء مغربية»، «لا أطراف معنية والصحراء مغربية»، «ياعامل يافلاح حرر أرضك بالكفاح».. كما بذلت المنظمة جهودا إعلامية على الساحة الفرنسية بإصدارها لأعدد من 23 مارس بالفرنسية تترجم مواقفها من قضية الصحراء وقضية الديمقراطية. لكن اليسار الفرنسي كانت على أعينه غشاوة في قضية الصحراء سببها عقدة مركبه مترسبة في لاشعور قادة هذا اليسار تجاه مستعمرتها السابقة، عندما كان وزير داخلية يسمى François Mitterrand ذات زيارة إلى الجزائر والثورة على الأبواب يرى أن «الجزائر هي فرنسا» وأن «لا حل مع المتمردين الا الحرب». كانت هناك بالنسبة لليسار الفرنسي عقدة «عارنا في الجزائر» (كتاب لسارتر بنفس الاسم) وهو ما تكلفت مدام ميتران بمسحه على حساب المغرب الذي تابعت معه فرنسا سياستها التقليدية القائمة على معاكسة سلاطينه واقتطاع أجزاء من أراضيه من توات إلى تيندوف وضمها إلى المستعمرة التي سوف «تستقل» بها لاحقا. ما هموني غير الرجال إلى ضاعوا نهاية نوفمبر 1974، ستأوصل برسالة مؤرخة ب24 نوفمبر عرفت أنها من محمد السمهاري بسبب تذييلها بتوقيع لا يعرفه إلا هو وأنا وصديق فلسطيني وربما مصطفى مسداد، ومكتوبة بخط جميل بعيد الشبه بخط السمهاري عرفت منه فيما بعد أنه خط أحمد أبا زيد، تقول الرسالة: «... غير أن طقس الخريف في هذه الأيام رديء وغير ملائم للصحة وهذا ما اضطرني إلى أن أقبع في المنزل أغلب الوقت..». وللوصول الى الغرض من الرسالة يعرج على قصة مترجمة - قرأها أثناء لزومه المنزل - عنوانها «القيثارة» وتدور أحداثها حول «مجموعة من الموسيقيين المجددين ظهروا في مدينة يغلب على فنانيها التقليد.. ورغم الجهود التي بذلتها هذه المجموعة لشق الطريق الى المجد فقد فشلت وآل أمرها إلى التشتت الذي كان سببه المكائد التي دبرها خصومهم حتى لم يبق منهم في المدينة الا القليل هائمين يلتمسون طريقا للافلات من هذه المدينة التي تنكرت لهم». ترجمة ذلك أن المنظمة تعرضت لضربة خطيرة هي الثانية من نوعها منذ اعتقالات 1972. رسالة أخرى أكثر وضوحا مؤرخة ب5 يناير 1975 جاء فيها: «.. أنت تعرف أن مرض الزكام قد انتشر بسرعة والأغلبية طريحة الفراش في المستشفى أو في المنازل وعلى كل حال فالجو جامد والأمطار منعدمة والكل ينتظر... وأن هذه الأسرة الشقية تعاني من صعوبات لا حد لها فالشخص الذي تعرفه «الوجدي» (شيشاح ميمون، وقد كان صلة الوصل بيني وبين التنظيم بين 1973 و1974 يتسلم مني أنفاس وغيرها من المواد قرب الحدود لنقلها إلى الداخل كما سبقت الاشارة) كان من أوائل المرضى وهو في المستشفى منذ شهرين.. لهذا دبر أمرك وحدد موعدا وعلامات وتاريخ معين كاف بالقرب منك...». إنها اعتقالات نوفمبر 74 التي ستهدم ما بني طوال سنتين ونصف. سيمنى فيها اليسار بخسائر فادحة في الأرواح باستشهاد عبد اللطيف زروال وسعيدة المنبهي وجبيهة رحال. سيعتقل العشرات وستعلن حالة الطوارئ عندنا لاستقبال الناجين من الاعتقال عبر ثلاثة أفواج: الفوج الأول كان يتكون من عبد الله زنيبر، أحمد الهواري ومحمد العلوي الفاطمي، الفوج الثاني ضم كلا من ابراهيم ياسين وطه ملوك، الفوج الأخير كان كثير العدد بشكل ملفت وتطلب الأمر سيارة كبيرة estafette لنقلهم الى وهران. لفت نظري بينهم شاب بشعر كثيف وطويل اعتنى صاحبه بتصفيفه غاية العناية فهمت أن ذلك كان لابعاد «شبهات» الانتماء النضالي عنه أثناء المتابعة. في الطريق لفت نظري الرفيق «زايد» (أحمد الركيك) الذي دبر عملية الاستقبال إلى الشاب الصغير ذي الوجه الطفولي وقال لي بصوت خفيض: «وهذا الوليد الصغير علاش جابوه معاهم؟». وبمنزل الرفيق عبد النبي ذكير بوهران وأثناء تجاذب أطراف الحديث بين الرفاق، إذا بذلك الشاب «الصغير» ينبري في مداخلة رصينة موزونة الكلمات وبرنة صوت ليست من الصغر في شيء جعلت الرفيق زايد يعيد النظر في ملاحظته السابقة. علمت بعد سنوات وأنا في أنوال أن ذلك الشاب الصغير الهيئة الفصيح اللسان اسمه جليل طليمات. أما صاحب الشعر الكثيف الذي انحسر عن رأسه اليوم فهو العربي مفضال. لم يكن جليل طليمات ومحمد برادة حميمة ورفاق آخرون متابعين إذاك ولكنهم خرجوا للمشاركة في الندوة الوطنية التي أقرت الأرضية التوجيهية للمرحلة القادمة ثم عادوا أدراجهم الى المغرب لمتابعة الابحار بسفينة المنظمة الى.. بر أنوال. من مطار أورلي إلى.. 23 مارس عندما التحقت بالجريدة في بحر 1975، كان قد صدر منها بضعة أعداد لكني كنت أراسلها من الجزائر كما كنت أراسل «أنفاس» من قبل. كانت الكتابة في جرائد التنظيم واجبا نضاليا لمن استطاع الى ذلك سبيلا. في المرات القليلة التي زرت فيها بارس بين 1973 و1975، غالبا ما كنت أجد في انتظاري بالمطار الرفيق محمد بنسعيد. من جهة، لأن بنسعيد من الذين ينطبق عليهم القول: «خادم الناس سيدهم»، ومن جهة ثانية، لأن الرفاق الذين كانوا يتوفرون على سيارة - بل وعلى رخصة سياقة - قليل جدا؛ اثنان أو ثلاثة من محيطنا القريب. كان رشيد سكيرج واحدا منهم. لكني لم أكن أتوقع أنه هو من يستقبلني في المطار. سيظهر السبب بمجرد الصعود الى السيارة. لم يكن سكيرج من الذين يطيلون الكلام «على الفاضي». بعد سؤالين أو ثلاثة عن كيف مر السفر وعن الأحوال في الجزائر.. انتقل الى «جدول الأعمال». توزيع المواضيع في العدد قيد الانجاز: «فلان تكلف بكذا وفلان بكذا.. وأنا كنت تكلفت بالموضوع الفلاني وبما أنك حضرت فأنت الأولى بالكتابة في الموضوع..» ثم ناولني حزمة من الجرائد العربية والفرنسية المشتملة على مادة الموضوع وأظنه - اذا لم تخني الذاكرة - كان حول زيارة جيسكار ديستان للمغرب في ماي 1975. ونحن في الطريق الى منزل رشيد سكيرج داخل سيارة BMW طفقت أسترجع كل ما سمعته عن هذا المناضل الاستثنائي سواء في الجزائر أو في فرنسا فلم يكن بعدُ حبل الود موصولا بيننا كما كان مع رفاق التيار (تيار «ج») الآخرين: محمد بنسعيد، لحسن زغلول، أحمد تفاسكا، محمد موخليص.. مثلا. مسؤول سابق بجهاز «الكاب1» في خدمة 23 مارس في المرات المحدودة التي التقيته فيها بمناسبة بعض الاجتماعات أو الندوات التنظيمية ترك لدي انطباعا بأنه شخص «يصعب الاقتراب منه» وأكد لي ذلك في ما بعد أكثر من واحد. كان رشيد سكيرج صعب المراس. هذا ما كان يوحي به الظاهر. وتؤكد هذا الايحاء شهرته كأحد قدماء جهاز «الكاب1»؛ بل ثاني اثنين في قمة هرم الجهاز الأمني الأول في مغرب ما بعد الاستقلال، أولهما هو أحمد الدليمي طبعا. بل إن هذا الأخير كان يحتاج الى توقيع رشيد سكيرج لصرف بعض الأموال وعندما كان سكيرج يعترض على وجوه صرف تلك الأموال كان الدليمي يسطو على الأبناك لأخذ حاجته من المال.. هكذا بدأ نجمه بالصعود. أما رشيد سكيرج فقد كان مناضل الساعة الأولى في حزب الاستقلال والتحق بالادارة العامة للأمن الوطني في عهد أول مدير لها محمد الغزاوي، بإشارة ربما من مهندس التنظيم في الحزب: المهدي بنبركة. وعندما انشق الجناح اليساري في 1959 عن حزب الاستقلال أصبح رشيد سكيرج عين الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والمهدي بنبركة في جهاز الدولة الأول. كان هذا هو مغرب الاستقلال. لم يحسم شيء في aix les bains لا على مستوى الاختيارات ولا على مستوى شكل السلطة ولا على مستوى الفاعلين. كل شيء يحسم الآن على مراحل وفي عين المكان. فرنسا تركت المغرب حقل ألغام.. جهاز المخابرات كان إحدى ساحات الصراع.. أصبح الدليمي يراقب سكيرج ويتنصت على مكالماته. وعندما أحس باقتراب الخطر، وكما في أفلام الجاسوسية، وعلى متن سيارته ال BMW اتجه الى تطوان ومنها الى باب سبتة حيث ركن سيارته واجتاز الى الجهة الأخرى وهو يرد على السلام العسكري لمرؤوسيه من شرطة الحدود. اختفى عن الأنظار منذ 1963 حتى ظهر سنة 1966 في قصر العدالة بباريس كشاهد رئيسي في محاكمة مختطفي المهدي بنبركة. وصلنا إلى maison alfort جنوبي شرق باريس. وهكذا وجدتني، دون مقدمات، في «قلب» جريدة 23 مارس. من خطاط عراقي إلى آخر بعد رقن المقالات على الآلة الكاتبة من قبل محمد بنسعيد وتوضيبها من قبل رشيد سكيرج بالكيفية التي تحدث عنها محمد المريني، تأتي مرحلة تخطيط العناوين التي ترك رشيد أماكنها فارغة ومحسوبة مساحتها بالميلمتر. هيا بنا الى الخطاط، يقول لي رشيد. نقطع مسافة طويلة بالسيارة قبل أن نحل مساء ببيت الخطاط. ربما كان هناك أكثر من خطاط في باريس، لكن الخطاط الذي أوكل إليه رشيد الاعتناء ب 23 مارس كان فنانا من المستوى الرفيع بلا منازع. هو الذي صمم عنوان (ترويسة) الجريدة وخطط عناوين مقالاتها مجانا لمدة عامين على الأقل إنه الفنان العراقي حسن المسعود. وهو معارض يساري حل بباريس بداية السبعينات فرارا من القمع. متخرج من مدرسة الفنون الجميلة بباريس، مؤلف عدة كتب في الخط ولوحاته معروضة في عدة متاحف عالمية.. وخلال عملية التخطيط التي تتم على مهل وتستغرق الساعات يكون «حديث ومغزل». أخبار المغرب والمشرق وهموم المناضلين ما جَدَّ منها والقديم ونكت الخطاطين أيضا حينما أعاد علينا نكتة ذلك الخطاط العراقي المسكين الذي طُلب منه بعد «المصالحة» بين البعثيين والشيوعيين أن يخط اسم الحزب الشيوعي على جدار مقره الجديد فكتب: «الحزب الشيوعي العراقي» وهم بالنزول فإذا برجال المخابرات ينتظرونه في الأسفل فعاد أدراجه وكتب بخط سميك تحت العنوان الأول عبارة «لصاحبه حزب البعث العربي الاشتراكي» ونزل آمنا.. ثم عرجنا على الخط العربي وجماليته. ولتأثيث الحديث أعربت عن ميلي الى الخط ولكني لم أدرس قواعده، متذكرا أيام فاس عندما كنت «خطاط» الاتحاد الوطني لطلبة المغرب 1966 و 1967؛ أخط الاعلانات عن الاضرات أو الدعوة الى التجمعات بأقلام ال feutre الملونة على الأوراق الكبيرة التي كان يشتريها رئيس تعاضدية المدرسة العليا للأساتذة عبد الغني أبو العزم. ناولني حسن المسعود ورقة وقلما وطلب مني أن أخط بعض الحروف فلاحظ أن خطي لا بأس به ولكنه يحتاج الى الصقل.. ثم أهداني بعض أقلامه القصبية قال إنها من أفضل الأنواع المجلوبة من ايران ونصحني بطول التدريب والمثابرة وأنه رهن إشارتي. شكرته وأنا أعتبر المسألة كلها من باب الشيء بالشيء يذكر لا أقل ولا أكثر. لكن رشيد سيأخذ المسألة على محمل الجد ويلح علي في كل مرة جئنا بالجريدة عند خطاطنا الكبير ب«سرقة الصنعة». كان مقتنعا بأنني يمكن أن أصير خطاطا. بل الأرجح أنه كان يحس بنوع من الاحراج تجاه أريحية الخطاط حسن المسعود وخدماته التطوعية النصالية للجريدة، كان يبحث عن البديل ولو على حساب الجمالية وكذلك كان. وبدأ ذلك بشكل تدريجي. سافر الخطاط مرة في عطلة فقمت بتخطيط العدد بأقلام حسن المسعود التي أهداها الي. ثم فيما بعد كنا نذهب الى الخطاط بالصفحة الأولى والأخيرة وأخط أنا الصفحات الداخلية.. وهكذا الى أن جاءت المطبعة فأنقذت الجريدة من خطوطي البعيدة عن فن الخط بعد السماء عن الأرض.. بعد سنوات، وأنا في أنوال، سأتذكر خطاطنا حسن المسعود؛ ذكرني به الخطاط العراقي الآخر الذي خلد عنوان جريدة أنوال وكان خطاطها الأبرز، الفنان العراقي رعد. «مقرات» 23 مارس لم يكن للجريدة مقر بالمعنى المتعارف عليه. فمقرها وقت الانجاز النهائي كان هو بيت رشيد سكيرج. قبل هذا الوقت وبعده يكون مقرها بيت محمد بنسعيد قرب ميترو Abbesses. فيه تجتمع غالبا «هيئة التحرير»، وفيه تتم عملية الرقن على الآلة الكاتبة في الجو «الرومانسي» الذي تحدث عنه بنسعيد نفسه، منظورا اليه بعد أربعين سنة طبعا أما حينها فلم يكن من الرومانسية في شيء. يصبح بيت بنسعيد ورشة وخلية نحل. ورشة، قبيل صدور الجريدة عندما يتطوع عدد من الرفاق الطلبة للصحيح، وبعض الرفيقات لتخفيف عبء الرقن عن بنسعيد؛ أتذكر منهن عفيفة كديرة (صاحبة صيدلية عقبة بالرباط). ويصبح بيته ورشة أيضا عند صدور الجريدة، حيث يحضر عدد من الرفاق للمشاركة في عملية الطي ووضع لفافات عناوين الارسال المعدة سلفا ووضع طوابع البريد.. أما النسخ التي ترسل الى المغرب والموجهة للصحافة الوطنية وللشخصيات.. فتوضع في أظرفة مغلقة. يوضع الكل في أكياس يحملها بنسعيد بسيارته الى مكتب البريد. ويصبح بيته خلية نحل غالبا خلال العطل الدراسية أو بمناسبة انعقاد الندوات أو اجتماعات المجالس الفيدرالية حيث يحج الجميع الى باريس ويتحول بيت بنسعيد إلى «زاوية» لا بد من السعي اليها للتزود بالجريدة والوثائق والقرارات والمواقف والأخبار.. الرفيق «الشيخ» (أحمد بنعزوز رحمه الله)، الهيثم، محمد الاسماعيلي والمصطفي بوعزيز من Clermont Ferrand، «حيسان» (أحمد الشهبوني )من Toulouse، محمد غلام من Orleans، محمد الصافي من Rouans، «عدنان» (عادل الجزولي الشقيق الأكبر لعفاف وعدنان) من Nancy، حسن الباهي من Saint etienne، حسن (هوشي منه) من Nantes، محمد الحساوي من Aix-en-Provence، ادريس اليعقوبي من Bordeaux، جواد الديوري من Marseille والمرحوم سعيد المعزوزي من Montpellier، ورفيق Tours العتيد الذي ظل على مر السنين لا يخلف الميعاد. ومن المشرق العربي، سفراء المنظمة «المعتمدون»: ابراهيم السعدي، الحسين الحظيقي، محمد العلج، حسن وحاند، حسن الذهبي، عبد اللطيف عواد، عمر الشرقاوي والمرحوم محمد بيهية.. من كل الأصقاع يأتي الرفاق بأخبار ومشاكل فروعهم وللتزود بشيء ما.. هؤلاء وعشرات بل مئات غيرهم من الأطر التي صنعتها المنظمة واليسار والتي هي «مصابيح يستضاء بها» ورجال يعتمد عليهم في بناء مغرب كان الحسن الثاني يفضل فيه «تطويع dresser الرجال بدل تربيتهم» (والتعبير لعبد الله العروي). بيت بنسعيد كان بهذا المعنى مقرا للجريدة وللمنظمة منذ حل مسداد والطالبي والمريني والمحجوبي بباريس صيف 1972. فتقاسم معهم هذا البيت المكون من غرفتين لمدة سنة على الأقل بالنسبة لبعضهم وكان غالبا هو الذي يعد الأكل كما لاحظت ذلك عند زيارتي الأولى لباريس صيف 1973 حيث أكلت أحسن «أملو» على الاطلاق إذ كان بنسعيد هو الذي يخلط عناصره عند كل وجبة: الزميتة، العسل الحر، زيت أركان.. ولم أعرف أن مطبخه خلا من ذلك أبدا. في بيت بنسعيد تعرفت لأول مرة على عبد الفاضل الغوالي ذات سفر له إلى باريس وجرنا الحديث خلال سمر جميل الى صاحب «الإسلام أو الطوفان» وكان حديث المجالس وقتها فحدثنا الغوالي عن عبد السلام ياسين الرجل الطيب مفتش اللغة الفرنسية وعاشق الموسيقى الذي وقع له ما وقع بعد رحلة غامضة الى باكستان.. فذكرني ذلك بمفتش آخر للتعليم جالسته مرة أو مرتين صحبة صهره مصطفى القرشاوي بمقهى قرب نيابة التعليم بشارع الزرقطوني والذي وقع له ما وقع بعد ما زكى عمر بنجلون، ذات يوم، ترشيح أحمد الضمضومي لقيادة للنقابة الوطنية للتعليم في مؤتمرها التأسيسي سنة 1966 بدلا عنه مكررا نفس السيناريو مع توبير الأموي بداية السبعينات؛ واسم هذا المفتش عبد الكريم مطيع. وقد أعاد التذكير بهذا التاريخ الأستاذ عبد الجليل باحدو في سلسلة مقالاته بمجلة «الأيام» بين 14 فبراير و6 مارس 2013 . بيت بنسعيد المكون من طابقين والمبني على النمط القديم يمكن أن يشبه متحفا، وكان يجب أن يكون كذلك، بعد كل ما مر به من ذكريات 23 مارس وقبل 23 مارس. فقد كان يقع على مرمى حجر من Montmartre وساحة الفنانين الشهيرة لكنها بالنسبة لنا كأن لم تكن موجودة مثلها مثل سائر المآثر الأخرى. وأذكر أني لم أزر متحف Louvre إلا عندما أخذني إليه صديق قادم من المغرب هو المرحوم محمد ألوزاد. كانت باريس بالنسبة إلينا ولمدة طويلة وكأنها مجرد امتداد للدار البيضاء بها عناوين ومحطات ميترو وجرعة.. حرية. (يتبع.. غذا الجزء الثالث والأخير)