النيران الحارقة التي أضْرمَها ولي العهد محمد بن سلمان في مطبخ السلطة بالسعودية، وصلت ألسنة لهيبِها إلى أقرب المقربين، وبتعبير دقيق إلى القريب والبعيد والصديق والغريب، بدءا بإعفاء ولي العهد محمد بن نايف الذي كان ابن سلمان بالأمس القريب يُقَبِّلُ يده عن ظهر كفٍّ، حين كان يحتلُّ المرتبة الثانية في ولاية العهد (ولي ولي العهد) وصولا إلى اعتقال العديد من الوزراء وكبار المسؤولين والأمراء ومن أبرزهم قيصر المال والأعمال الوليد بن طلال. غداة حصول محمد بن سلمان على "خاتم" ولاية العهد انكشفت بوضوح طموحاته الجارفة وتحول من أمير شاب خجول (عمره32 سنة ازداد يوم 31غشت1985م)، ومن أمير مغمور في عالم السياسة، إلى إسكندر يعشق الفتوحات والمغامرات والبطولات. هل فعلا سيصبح محمد بن سلمان إلى إسكندر العالم الإسلامي أم أنه مجرد دون كيشوت يحارب طواحين الهواء؟ وهل امتلك فعلا "خاتم الحكمة" الذي سيمنحه التدبير الحكيم للسلطة أم أنه "خاتم" الراعي گيگس الشرير؟ يخبرنا التاريخ عن الإسكندر الأكبر الذي تتلمذ فكريا على يد الفيلسوف اليوناني أرسطو (المعلم الأول).. وترعرع عسكريا على ذهاقنة القادة العسكريين، ليمتلك الإمبراطور الشاب الإسكندر من الدهاء والذكاء العسكري ما أهله للانتصارات الساحقة في كل الحروب التي خاضها، وأقواها حربه ضد الإمبراطورية الإيرانية، وتجدر الإشارة أنه وضع قبيل موته مخططا للتوسع التجاري والعسكري في شبه الجزيرة العربية. يتضح أن بين "الشابين" ابن سلمان والإسكندر بعض القواسم المشتركة، منها "حُبُّهُما اللامحدود" للسلطة، ورفضهما للهيمنة التوسعية الفارسية، ووجود "خطة" لشبه الجزيرة العربية، مع فارق مفصلي أن الإسكندر المقدوني حقق حلمه وأطاح بالإمبراطورية الفارسية، وهو حلم بعيد المنال عن الإسكندر ابن سلمان، نقطة فارِقة أخرى هي مداهمة الموت للإسكندر المقدوني دون تحقيق حلمه التوسعي في العالم العربي، مع تواجد ولي العهد ابن سلمان في قلب السلطة بشبه الجزيرة العربية، بعد الإطاحة المنتظمة الممنهجة بالأعداء والأصدقاء على حدٍّ سواء. بمجرد إزاحة ولي العهد محمد بن نايف، واستحواذ محمد بن سلمان على "خاتم" ولاية العهد، شرع في تنفيذ العديد من الإجراءات الإصلاحية ضمن المشروع التنموي الضخم "رؤية السعودية 2030"، ومن أهم هذه الخطوات على المستوى الداخلي، تمكين المرأة السعودية من باقة حقوقية متنوعة، كالحق في الممارسة السياسية ضمن المجالس البلدية، الحق في الحصول على بطاقة الهوية، الحق في كوطا سوق الشغل دون ترخيص من ولي الأمر، الحق في قيادة السيارة، الحق في ولوج الملاعب والترفيه عن النفس، وهذه الحقوق النسوية تتسم بمبدأ القابلية للتطور وتغيير أسلوب العيش في مملكة السعودية كالمرونة في قواعد اللباس وغيرها من وسائل الإلهاء عن الإصلاح الحقيقي المتمثل في إنجاز المشروع الديمقراطي وبناء دولة القانون والمؤسسات والكفاءات، وليس دولة الهيمنة والأشخاص والولاءات. من الحقائق البديهية استفحال الفساد في العالم العربي، ومحاربة الفساد لن تنجح بأدوات فاسدة، وهذا ينطبق على لجنة مكافحة الفساد التي ترأسها ولي العهد ابن سلمان، والتي تحولت إلى هولوكست لتصفية الحسابات مع الخصوم. محاربة الفساد تكتسي مصداقيتها من مبدأ الحياد، وتشكيل لجنة من خيرة القضاة ومحامين وحقوقيين وخبراء في القانون والمحاسبة والاقتصاد وغيرهم من النخب النزيهة، ومنح اللجنة ضمانات دولية لإنجاز مهامها باستقلالية تامة، دون وصاية أو تهديدات. الآن اتضحت الصورة بجلاء ولي العهد ابن سلمان بمجرد ما وضع "خاتم گيگس" في أصبعه، تحول على غرار الراعي گيگس الذي كان خجولا متواضعا، قبل حصوله على "خاتم السلطة" إلى شخص أرعن لا يستمع إلا لصوته فقط، وانجلت طبيعته الحقيقية في التسلط. محمد بن سلمان يستخدم "خاتم السلطة" بارتجالية واندفاع غير محسوب العواقب بطريقة لا تخطئها العين سيما في السياسة الخارجية، التي تنبني على قواعد الديبلوماسية وقاعدة صفر مشاكل مع دول الجوار وتمتين الروابط مع الاصدقاء لا الأعداء، وهي ركائز السياسة الخارجية الحكيمة التي أخفاها دخان الحرائق المجانية التي أضرمها ولي العهد في الجارة الفقيرة اليمن، وفرض الحصار الفاشل على دولة قطر وما أفرزه من تدمير لمجلس التعاون الخليجي، أيضا ممارسة الوصاية على السيادة اللبنانية، وهنا يحضرني تصريح المدير المساعد للمعهد الفرنسي للعلاقات الخارجية والإستراتيجية "ديديي بيليون" الذي قال: "إن إرغام رئيس وزراء دولة ذات سيادة على الاستقالة يظهر محدودية تفكير ابن سلمان الإستراتيجي" مضيفا "أن أمريكا لا تتماهى مع مواقف رئيسها دونالد ترامب، لذلك فحسابات وتقديرات ابن سلمان خاطئة حين ظن أن أمريكا ستؤيد خطواته"، والخطير أن المنطقة تتقاذفها حمم بركانية دمرت سوريا وأصابت اليمن في مقتل، ناهيك عن الزلازل التي تعيشها العراق ولبنان، وتجذر نفوذ أمريكا وروسيا وفرنسا وإيران. لقد أساء ولي العهد استخدام "خاتم السلطة" وهو ما فعله الراعي گيگس كما أشار إليه الفيلسوف أفلاطون في كتابه "الجمهورية"، غير مدْرك لعواقب أوهام المجد الدونكيشوتي، وشن الحروب على طواحين الهواء والغرق في النزيف والجراحات التي لن تندمل مع الأشقاء وأبناء العمومة ودول الجوار.. المشهد أشبه بأهم عمل روائي للروائي الإسباني الكبير ميخائيل دي سرفانتس، إنها رواية "دون كيشوت" حيث يعزم بطل الرواية "ألونسو كيخانو\دون كيشوت" القضاء على الأشرار وتنامت أوهامه وأقنعته بضرورة خوض معركة حقيقية مقدسة، وملء الأرض عدلا ونورا بعدما ملئت جورا وظلما، والعودة الارتدادية بالزمن لأيام الفروسية، هكذا يشرع دون كيشوت في مبارزة طواحين الهواء، التي رفعته عاليا وألقت به على الأرض مهشما محطما، ليستفيق من هوسه "الفارسي البطولي" بعد فوات الأوان.