أثارت إشكالية ظهور الدولة في المغرب اهتمام الباحثين المعاصرين بمختلف مشاربهم الفكرية وتخصصاتهم المختلفة. وقد كان القاسم المشترك بين هؤلاء هو اتفاقهم على أن الدولة المغربية دولة عريقة في القدم. فعلى سبيل المثال يرى جرمان عياش أن المغرب له تاريخ كدولة عريقة وموغلة في القدم، في حين يرى دومو أن الدولة المغربية تتمتع بعمق تاريخي وتجذر سياسي. غير أن الاتفاق حول عراقة الدولة المغربية لم يحسم الجدال حول تاريخ نشأتها. ويمكن أن نجسد هذا الجدال من خلال الأطروحات التالية: - الأطروحة الأولى تؤكد أن ظهور الدولة المغربية ارتبط بحكم الأدارسة. - الأطروحة الثانية تربط بين نشأة الدولة المغربية بقيام المرابطين. - الأطروحة الثالثة تؤكد على النشأة المزدوجة للدولة المغربية. 1 - نشأة الدولة مع الأدارسة إن أغلب المؤرخين يتبنون هذه الأطروحة؛ إذ يقرنون نشأة الدولة المغربية بقيام الأدارسة. وهكذا يرى شارل أندريه جوليان أن "إدريس الثاني لم يكن فقط مؤسسا للمدن؛ بل كان مؤسسا لأول دولة مغربية". أما تراس فيرى أن "الأدارسة في محاولتهم جمع البوادي حول المدن، اعتمدوا على تحالف بربري مكنهم من تأسيس مخزن مختلط متكون من البربر والعرب؛ ما سيكون أساسا للمخزن الذي سيتكون في ما بعد"؛ بينما يرى العروي أن "الدولة الإدريسية كانت جد بسيطة؛ إذ كانت تتجسد في جيش يؤخذ من المنطقة ويمول من غنيمة الحروب والجزية المفروضة على غير المسلمين". وإذا كانت هذه الأقوال قد تعكس بعض الاختلاف في مواقف المؤرخين حول طبيعة حكم الأدارسة، فإنها تتفق مع ذلك على أن الأدارسة هم أول من أسس أول حكم مركزي في المغرب. وتستند هذه الأطروحة إلى الأسس التالية: أولا: الكتابات الإخبارية المغربية التي كرست دائما المسلمة التاريخية التي تؤكد أن الدولة المغربية تبتدئ مع قيام الأدارسة. ويتجلى ذلك في أغلب مضامين هذه الإخباريات، ابتداء من روض القرطاس لابن زرع مرورا بتاريخ ابن خلدون وانتهاء باستقصا الناصري. ثانيا: ربط ظهور الدولة المغربية بتأسيس مدينة فاس، العاصمة السياسية للبلاد. ومادام التركيز على أن بناء فاس كان من طرف إدريس الثاني، المؤسس الرئيسي لحكم الأدارسة، يتم الخلوص بداهة إلى أن نشأة الدولة المغربية يرتبط بظهور هؤلاء. ثالثا: ترسيخ الجذور الإيديولوجية للدولة المغربية، والتي تتمثل في الأسس الإسلامية-العربية- السنية، ما يتجسد بشكل خاص في التجربة الإدريسية التي تغلب فيها الجانب الإسلامي والعنصر العربي على العنصر القبلي البربري ومواجهة التطبيقات غير السنية للإسلام. رابعا: تكريس شرعية الأسر الحاكمة بالمغرب التي تستند إلى الأصول الشريفية للأدارسة وتعتبر نفسها امتدادا سياسيا لهم. وعموما، يمكن أن نوجه لهذه الأطروحة عدة انتقادات، سواء من الناحية المنهجية أو من الناحية الموضوعية: - فمن الناحية المنهجية، فإن الاعتماد على الإخباريات المغربية في تحديد نشأة الدولة المغربية بظهور الأدارسة، يعتوره قصور علمي واضح نتيجة أن جل هذه الإخباريات كتبت في العهد المريني؛ هذا العهد الذي تميز على الخصوص باستقرار السلطة المرينية بفاس واتخاذها عاصمة سياسية لها، وكذا بغلبة العنصر العربي على دواليب الدولة. إضافة إلى ذلك، شهد هذا العهد اعتناء السلاطين بالشرفاء، وخاصة الشرفاء الأدارسة وتقوي نفوذهم؛ هذا النفوذ الذي تكرس باكتشاف قبر مولاس إدريس الأكبر. إذن، فأغلب هذه الإخباريات كتبت في إطار هذا المناخ الفكري والسياسي؛ ما أثر بشكل عام على تصورها لسيرورة الدولة المغربية. وقد بقي هذا التصور سائدا في مختلف الإخباريات التي كتبت في العهود اللاحقة نظرا لعاملين رئيسين: - العامل الأول يتجسد في أن الأسر الحاكمة التي أعقبت المرينيين، من سعديين وعلويين، كان من مصلحتها تكريس هذا التصور، نتيجة لاعتمادها على المشروعية الشريفية. - العامل الثاني يكمن في الأسلوب الذي درج عليه الإخباريون؛ إذ إنهم يقتبسون من بعضهم البعض دون أن يعيدوا النظر في المسلمات التي تقوم عليها الإخباريات السابقة، لاسيما أن القاسم المشترك الذي يجمع بين كل الإخباريين المغاربة هو اعتقادهم الراسخ بأن الدولة ما هي إلا "تداول متجدد للسلطة"؛ لذا فلا فائدة من تحديد نشأة حكم يتغير باستمرار. أما بالنسبة للمؤرخين المعاصرين فقد بقي أغلبهم يدور في نفس الحلقة الإخبارية، إذ لم تظهر إلى حد الآن كتابات تاريخية تحاول تحديد مراحل نشأة الدولة في المغرب. وقد ترجع أسباب ذلك إلى ما يلي: - اهتمام أغلب المؤرخين المعاصرين بفترات تاريخية مجزأة (فترة سياسية، حكم أسرة حاكمة، حكم سلطان معين، تاريخ منطقة معينة...). - الاهتمام بالتاريخ العام (المغرب العربي، شمال إفريقيا، تاريخ المغرب..) وإهمال تاريخ الدولة بالمغرب. - الاقتصار على التاريخ الحديث للدولة المغربية، والذي غالبا ما يتم التركيز فيه على فترة الحماية. - أما من الناحية الموضوعية فلا يمكن الجزم بأن الدولة المغربية نشأت بظهور الأدارسة، وذلك لعدة أسباب، من أهمها: أولا: هناك مصادر تاريخية لاتينية وأوربية تِؤكد وجود ممالك بربرية نشأت بالمغرب قبل ميلاد المسيح. بالإضافة إلى وجود وليلي التي شكلت أول عاصمة سياسية لهذه الممالك. ثانيا: وحتى بعد الفتح الإسلامي للمغرب، كانت هناك عدة إمارات سبقت وتزامنت مع الأدارسة، كإمارة بني مدرار وإمارة النكور وبرغواطة. ثالثا: إن الإدارسة لم يمارسوا نفوذهم إلا على مناطق محدودة من المجال المغربي؛ بحيث اقتصر تأثيرهم على السهول الشمالية للمغرب الأقصى إلى نهر أبي رقراق وعلى جبال الريف تقريب وجبال مكناسة وفاس والأطلس المتوسط مع توغل في فزاز وتادلة في بلاد تازة، وغالبا على جزء من المغرب الشرقي. رابعا: إن الأدارسة رغم تمكنهم من وضع ملامح لسلطة مركزية، التي تجسدت في بناء عاصمة سياسية وتكوين مخزن)؛ فهم لم يستطيعوا القضاء على الإمارات المنافسة أو توحيد المجال المغربي تحت سلطتهم. لمختلف هذه الأسباب فإنه من الصعب جدا ربط نشأة الدولة المغربية بظهور الأدارسة؛ وإن كان ذلك لا يمنع من القول إن التجربة الادريسية، كغيرها من التجارب السياسية التي سبقتها أو زامنتها، قد ساهمت بشكل كبير في بلورة ملامح الدولة بالمغرب. ويتجلى هذا الإسهام على الخصوص من خلال: - بناء مقر للسلطة المركزية - وضع بعض لبنات الإطار المخزني - نشر التنظيم السياسي. لكن كل هذا الإسهام السياسي لا يبرر، موضوعيا، تحديد بداية الدولة المغربية بقيام الأدارسة. 2 - نشأة الدولة مع المرابطين هناك بعض الباحثين المغاربة الذين يتبنون طرحا مغايرا يتجسد في ربط نشأة الدولة بقيام المرابطين. ويعتبر الأستاذ بزاوي من أهم الباحثين الذين نظروا لهذا الطرح، وذلك من خلال أطروحته الجامعية حول "دور الدعوة في نشأة الدولة المغربية". وتقوم هذه الأطروحة بالأساس على فكرة رئيسية مفادها أن "عهد يوسف بن تاشفين شهد لحظة ميلاد الدولة المغربية، وحقق المجتمع المغربي طفرة نوعية تجلت في إرساء القواعد والهياكل الأولى للدولة المغربية وفي توحيد المجال الأصلي للمغرب الأقصى تحت سلطة سياسية واحدة". من هنا، يخلص الباحث إلى أن نشأة الدولة المغربية قد ارتبطت بتبلور عنصرين رئيسين: أولهما انتشار الدعوة الإسلامية بالمغرب وثانيهما توحيد المجال السياسي. أولا: الدولة والدين في المغرب ينطلق الباحث من أن انتشار الإسلام في المغرب ساهم إلى حد كبير في التمهيد لظهور الدولة المغربية، وذلك من خلال خلق الوحدة الاعتقادية وتحقيق الاستقلال السياسي. أ - الإسلام وخلق الوحدة الاعتقادية يرى الباحث أن المغرب الأقصى "قبل الدعوة الإسلامية كان يعاني تمزقا سياسيا وتعددا عقائديا..."، ما عرقل تبلور سلطة مركزية مغربية. وهكذا يشير الباحث إلى أنه "في إطار هذا الوضع عاش المغرب طوال هذه الفترة بدون سلطة مركزية، ولم يستطع المجتمع المغربي بناء المؤسسة السياسية التي توحد مختلف أجزائه أو القيام بإنشاء دولة لها سلطة على المجال المغربي". ويرجع الباحث أسباب هذا الوضع إلى ثلاثة عوامل رئيسية: - البنيات الاجتماعية التي بقيت شبه راكدة - التدخل الأجنبى. - غياب إيديولوجية موحدة. فالمغرب لم يعرف قبل الفتح الإسلامي تبلور أي دعوة دينية استطاعت أن توحد مكوناته السياسية، وحتى انتشار المسيحية في المغرب إبان الاحتلال الروماني لم يؤد إلى هذا التوحيد. ويفسر الباحث عدم تحول المسيحية إلى إيديولوجية موحدة في المغرب ب"محدودية انتشارها ونظرا لطبيعة ظهورها في المنطقة، فلم تدخل كحركة إيديولوجية أو دينية مدعمة بنفوذ عصبي أو سلطة سياسية أو عسكرية...لكنها تسربت بأسلوب التبشير، فبقيت مختفية ومحصورة، ولما اكتسبت الدعم السياسي كان هذا الدعم يمثل رمز الاحتلال والاستعباد، وهذا الوجه الجيد حولها إلى إيديولوجية المحتل، ما جعل المغربي ينفر منها". لذا فانتشار الدعوة الإسلامية بالمغرب ساعد على تجاوز كل المعوقات التي كانت تؤخر نشوء الدولة، إذ إن الفتح الإسلامي أدى إلى خلخلة البنيات الاجتماعية الراكدة، والتي كانت تتجسد في سيطرة النظام القبلي(3). والمضمون التوحيدي الذي كان يستند إليه الإسلام مهد بشكل كبير لتجاوز التعددية القبلية في المغرب وسمح، في نظر الباحث، بخلق أمة واحدة منسجمة تؤمن بالله الواحد وترتبط بمصير مشترك تتجاوز بذلك التعددية القبلية وتعدد مراكز السلطة، ما كان يتجاوب ومنحى التطور الذي كان يعرفه المجتمع في هذه الفترة. ب - الإسلام وإذكاء الروح الاستقلالية يشير الباحث إلى أن الدعوة الإسلامية لعبت دورا كبيرا في إذكاء الروح الاستقلالية في المغرب؛ وذلك من خلال تبني السكان للمبادئ الدينية التي تدعو إلى المساواة ورفض كل أشكال الاستغلال والعبودية. وقد تأججت هذه الروح خاصة مع انتشار حركة الخوارج التي كانت دعوة تتسم في جوهرها بالبحث عن الذات المغربية وتتمحور حول بناء كيان مستقل. وفي هذا الإطار، حققت حركة الخوارج المغاربة ثلاثة أهداف أساسية لعبت دورا رئيسيا في تحقيق استقلال الكيان السياسي المغربي: 1 - وحدة الحركة بين مختلف القبائل البربرية..فوحدة الجيش ووحدة الزعامة واعتناق مذهب الخوارج والسعي نحو هدف واحد - التحرر من سلطة العرب الحاكمين - كل ذلك جسد وحدة الحركة. 2 - نشر الإسلام وتعميقه في الوسط البربري؛ بحيث يمكن القول إن الإسلام دخل إلى أغلب مناطق المغرب مع دعوة الخوارج، مخترقا بذلك الحاجز النفسي المتولد عن ظروف الفتح، ومتجاوزا سلبية الماضي الناتجة عن ممارسة وأعمال الولاة. 3 - استقلال المنطقة الذي تمثل في مواجهة الإدارة العربية وطرد الولاة الذين كانوا يخدمون توجهات الخلافة الأموية. ج - الإسلام وتوحيد المجال المغربي. إن طرد الفاتح العربي من المغرب، إذا كان قد أرسى استقلاله؛ فإن ذلك لم يسهم في بلورة سلطة مركزية موحدة. فالتناقضات المذهبية والصراعات السياسية أسفرت عن ظهور عدة إمارات تكونت في مختلف أرجاء البلاد. وهكذا أشار الباحث إلى أنه "بعد أن استقلت المنطقة- المغرب الأقصى- عن سلطة الخلافة الأموية، بدأت تتجه للبحث عن ذاتها، وتعمل لبناء كيانها ومقوماتها الحضارية انطلاقا من التوجهات العامة للدعوة الإسلامية، وارتباطا بمعطياتها التاريخية وما نشأ عنها من تيارات مذهبية واختلافات عقائدية. كل ذلك في إطار المحيط الاجتماعي والخصائص المحلية. وهكذا ظلت المنطقة مخبرا لعدة تجارب محلية ساهمت فيها مختلف الدعوات والاتجاهات العامة للفرق الإسلامية، فكانت تجربة الخوارج الصفرية مع إمارة بني مدرار بسجلماسة"..."لكن هذه التجربة بقيت محصورة في مجال ضيق...ومن منطلق الدعوة الشيعية الزيدية تأسست سلطة مركزية كانت تطمح إلى بناء خلافة إسلامية من منطلق شيعي يعتبر الأحقية لأبناء علي، فكان طموحها متجها نحو الشرق مما حال دون عملها على توحيد المجال المغربي"..."وفي ظل أوضاع التمزق التي بدأت تعيشها بعض المناطق ظهرت حركات مغالية في كل من تامسنا وغمارة والسوس"... "لكن تجارب الغلاة المتمثلة في إمارة برغواطة وثورة حاميم الغماري وتجربة الشيعة البجلية مع أبناء إدريس في الجنوب كانت محدودة مكانيا ومرتبطة بالتجربة المحلية وببعض التقاليد والعادات الموروثة". ورغم فشل مختلف هذه التجارب في تكوين الدولة المغربية؛ إلا أنها ساهمت مع ذلك في بلورة لبناتها الأولى: - فبناء إمارة بني مدرار لمركز حضاري بسجلماسة وتأسيسها لسلطة سياسية محلية تكون قد خلقت بذلك تقاليد الاستقرار وممارسة السلطة السياسية متجاوزة أفق النظام القبلي؛ وبذلك غرست في المنطقة لبنة من لبنات الدولة المغربية. - ومع الدعوة الإدريسية الشيعية الزيدية انتشر الإسلام وتعمق في بعض المناطق، وتأسست النواة الأولى للإدارة المغربية. ومع انقسام الدولة الإدريسية إلى عدة إمارات تكونت عدة مراكز حضرية شكلت في ما بعد نواة وأرضية لتقبل السلطة المركزية، وبالتالي هيأت الظروف لنشأة الدولة المغربية المستقبلية. - كما أنه رغم فشل الدعوات المغالية في بناء سلطة مركزية فإنها دفعت المنطقة إلى التوجه بسرعة نحو الوحدة المذهبية والسياسية، ونحو نشأة الدولة المغربية. غير أن هذه التجارب إذا كانت قد ساعدت على تسهيل عملية نشأة الدولة بالمغرب؛ فإن العامل الأساسي والحاسم الذي كان وراء ظهور الدولة المغربية تجسد على الخصوص في نظر الباحث في انتشار المذهب المالكي الذي أصبح الأيديولوجية السياسية للمرابطين. فقد كانت الدعوة المرابطية دعوة دينية تحمل مشروعا إصلاحيا وفي الوقت ذاته تتطلع لسلطة سياسية ومشروع لتوحيد المنطقة. فقد استطاعت هذه الدعوة...أن توحد جنون المغرب ثم شماله، وبذلك توحد المغرب من الناحية السياسية وتأسست السلطة المركزية مع قيام الدولة المركزية مع قيام الدولة المرابطية كسلطة سياسية وحدت كل المجال الجغرافي الأصلي للمغرب الأقصى، وهو مجال يمتد بين تلمسان وما وراء ملوية شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا، ومن البحر الأبيض المتوسط شمالا إلى قبائل الصحراء جنوبا. وقد تولدت مع الدولة المرابطية الثوابت والمقومات الأساسية للدولة المغربية. وعموما، فرغم أهمية هذا الطرح في إبراز الدور الكبير للدعوة في تكون الدولة المغربية، فإنه يسقط مع ذلك في عدة محاذير يتمثل أهمها في ما يلي: - المصادرة التاريخية إن الربط المركزي بين نشأة الدولة وانتشار الدعوة الإسلامية بالمغرب أدى إلى مصادرة جزء كبير من التاريخ السياسي المغربي، بدعوى أنه لم يشهد تبلور أي سلطة سياسية أو إرهاصات لدولة مغربية. وهكذا فإن الحقبة السياسية التي تمتد من ما قبل الاحتلال الروماني إلى الفتح الإسلامي تعتبر، وفق هذا المنظور، حقبة فارغة من كل تنظيمات سياسية. ويتم الاستدلال على ذلك من انعدام أدبيات تاريخية محلية؛ في حين أن الأدبيات التاريخية الرومانية القديمة لا يصح الاعتماد عليها نظرا لتعاملها مع تاريخ المغرب من موقع التبعية. بالإضافة إلى أن ذلك، فهذا الطرح لا يمنح أدنى أهمية لكل المظاهر التي يمكن أن ترمز لوجود سلطة سياسية، فهي لا تعدو في نظره أن تكون مجرد محاكاة سياسية للإمبراطورية الرومانية. وعلى هذا النحو يسترسل هذا الطرح في مصادرة كل المظاهر وكل الأشكال السياسية التي عرفها المغرب، والتي تحدثت عنها الأدبيات التاريخية الرومانية ليخلص إلى انعدام وجود أي إرهاصات أو ملامح لسلطة سياسية أو دولة مغربية طيلة هذا العهد. وهكذا يتم التأكيد على أنه "بالنسبة لطبيعة السلطة في عهد باغا وبوغوس التي تثير نوعا من الغموض، واللذين كان يطلق عليهما لقب ملك، ما يستوحى منه أنهما كانا يمثلان سلطة مركزية في بلاد المور.. فباغا لا نعرف عنه شيء سوى تلك المساعدة التي قدمها لمسينسا. هذه المساعدة لا يمكننا أن نعتبرها دليلا ماديا على وجود سلطة مركزية لأن أي قبيلة قوية أو رئيس اتحاد قبلي كان من الممكن أن يقدم تلك المساعدة إن اقتضتها الصداقة الشخصية أو المصلحة العامة. أما بالنسبة لبوخوس الأول فرغم أن سالوست يؤكد عدم معرفة الرومان أي شيء عنه فإن الروايات الرومانية تتحدث عنه كملك لبلاد المور ونوميديا الغربية بعدما أضيفت إلى منطقة نفوذه بعد خيانته ليوغرطة وتسليمه للرومان.. إلا أننا نتساءل عن المناطق التي سلمت له والمناطق التي كانت تحت سلطته في بلاد المور. ثم ينتهي هذا الطرح بالقطع بأن "أسماء ملوك وأمراء أو نقود تحمل سنابل قمح وسمكة تون وصورة نحلة وعناقيد عنب... أو مدن تظهر كعواصم، ليكسوس وليلي، طنجة... هل يمكن الاعتماد على كل ذلك لإثبات وجود دولة في غياب تام لسلطة واضحة ومؤسسات قارة وتنظيمات هيكلية ووحدة مجالية وفي غياب الوقائع التاريخية التي توضح الغامض وتلحم المبتور وتؤول المتناقض؟"... "وحتى إذا فرضنا وجود سلطة سياسية عامة واعتبرنا أن الممالك التي ظهرت في الفترة الرومانية كانت مستقلة ولا تندرج ضمن سلطة الولاة الذين يحكمون باسم روما فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما هي حدود هذه الممالك؟ وما هو مجال توسعها؟". وبعدما يجهز هذا الطرح على مختلف المظاهر والرموز التي كانت تجسد وجود ملامح دولة مغربية منظمة سياسيا يتم تبسيط وتقزيم كل الحركات التي قامت لمواجهة المحتل الروماني، واعتبارها فقط ردود فعل قبلية محدودة ومشتتة. من خلال كل هذا يتبين أن هذا الطرح تعمد منذ البداية، وذلك تحت ضغط فكرة مسبقة حول طبيعة نشأة الدولة في المغرب حددت معالمها فلسفيا لا تاريخيا، أن يشكل وأن يجهز على كل ما ورد من حقائق تاريخية في الأدبيات الرومانية القديمة. فموضوعيا، على الباحث أن يتعامل مع هذه المعطيات، حتى ولو وردت في أدبيات أجنبية. إذ كيفما كان الحال، فهذه الأدبيات لن تختلق حقائق غير موجودة؛ بل إن المفارقة أن هذه الأدبيات عندما تتحدث عن الملوك وأمراء مغاربة وعن مجالس خواص تحيط بهؤلاء الملوك، وعن مشاركة جيوش هؤلاء الملوك في الحروب التي وقعت بين روما وقرطاجة أو في اشتراكها في الحرب الدائرة بين يوغرطة وجيوش روما... يعتبر كل ذلك أشكالا قبلية أو زعامات لاتحادات قبلية. فهذه أول مرة نرى أن مؤرخي محتل ما يقومون بتمجيد تاريخ أمة محتلة في حين يقوم باحثون محليون بالتنقيص من هذا التاريخ ورفض معطياته بدعوى كتابته "بروج استعلاء وتفوق المحتل !!". - الخلط المنهجي يتبنى هذا الطرح مفهوما خاصا للدولة في المغرب يقوم بالأساس على ربط نشأتها بتجاوزها للواقع القبلي وتوحيدها للمجال المغربي الأصل. ويتضح ذلك من خلال التعريف الذي أسبغه بزاوي على الظاهرة الدولتية المغربية. (فالدولة بإضافة اسم الأسرة الحاكمة تعني سلطة سياسية تتجاوز نظام القبيلة وتتحكم في بعض مناطق المغرب، وتتوفر على بعض الهياكل الإدارية والسياسية للدولة، ولكنها لم ترق إلى مفهوم الدولة المغربية لأنها لم تستطع توحيد كل مناطق وأقاليم المغرب الأصل تحت سلطتها، في حين أن مصطلح الدولة المغربية سيستعمل عندما تستطيع سلطة سياسية ما - غير أجنبية - من توحيد كل مناطق وأقاليم المغرب الأصل تحت سلطتها وضمن نفوذها؛ أي إن اسم الدولة المغربية يطابق اسم الدولة المركزية التي تؤول إليها جميع السلط داخل رقعة من الأرض وتتحكم في جميع الأقاليم الداخلة في هذه الرقعة. من خلال هذا التعريف، يظهر أن هذا الطرح يركز بالأساس على الدولة المركزية بالمغرب وليس على الدولة المغربية بصفة عامة. ومن المعروف تاريخيا أن الدولة المركزية هي مرحلة متطورة في حياة كل المجتمعات السياسية؛ ففي أوربا مثلا لم تنشأ الدولة المركزية إلا في القرن 17 م، وفي فرنسا بالضبط لم تتكون الدولة المركزية إلا في عهد لويس 14، في حين أن الدولة في هذه المجتمعات قد نشأت قبل ميلاد المسيح بحقب طويلة وخضعت لتطورات متتالية توجت بظهور الدولة المركزية. وفي المغرب أيضا لا يمكن أن نحدد ظهور الدولة المركزية مع المرابطين.. إذ إن الدولة المركزية المغربية لم تتكون إلا في عهد السعديين وتوطدت مع العلويين لتترسخ بعد الحماية. أي إن الدولة المركزية المغربية ليست هي الدولة التي تستطيع فرض سيادتها على مختلف مناطق المغرب (الأصل)؛ بل هي التي تستطيع السلطة المركزية فيها أن تصبح هي السلطة الوحيدة في البلاد وتستطيع القضاء على كل الوسائط السياسية، سواء كانت قبائل أو زوايا وغير ذلك من الوسائط. وهذه مرحلة لم تصلها الدولة بالمغرب إلا بعد انتهاء فترة الحماية. - النظرة الاختزالية ركز الطرح بشكل أساسي على الدعوة كعامل حاسم في نشأة الدولة بالمغرب. ويتضح ذلك بالخصوص من اهتمامه بالدين كعنصر فعال في تجاوز النظام القبلي وتوحيد مختلف المكونات السياسية حول السلطة المركزية ونجاح المرابطين في تحقيق الوحدة السياسية المغربية وإرساء مقومات الدولة بالمغرب. ورغم أنه لا يمكننا أن نغفل ما للدعوة من دور أساسي في تسريع عملية التوحيد السياسي؛ إلا أنه لا يمكن أن نقطع بدورها الحاسم في نشأة الدولة بالمغرب. فالدولة المغربية نشأت قبل ظهور الدعوة الإسلامية بحقب طويلة؛ أي إن ملامحها كانت قد حددت على الأقل في حدود القرن الثالث قبل الميلاد ثم تطورت في ما بعد مع مختلف القوى السياسية التي تداولت حكم المغرب. ثم إن الدعوة المرابطية، رغم أنها لعبت دورا كبيرا في توحيد أنحاء المغرب وإضفاء الشرعية السياسية على حكم المرابطين، فإنها مع ذلك لم تلغ الدور الكبير الذي لعبته العصبية الصنهاجية في إرساء مقومات الدولة. فالدعوة والعصبية لعبا دورا تفاعليا في تحقيق المشروع المرابطي. وهذا ما ركز عليه الجابري، الذي اعتمد عليه صاحب الطرح بشكل كبير، عندما أشار إلى أن "العلاقة بين العصبية والدين...علاقة تآزر وتعاضد وتكامل: الدين يزيد من قوة العصبية بالتحقيق من مظاهر التعصب... والعصبية من جهتها تمتح الدعوة الدينية قوة وفاعلية". لكن الدور الحاسم يبقى مع ذلك للعصبية، خاصة في بلد مثل المغرب، بدليل أن المرينيين صعدوا للسلطة بدون دعوة دينية. بالإضافة إلى ذلك فابن خلدون، الذي يبدو أن جزءا كبيرا من أفكاره قد صيغ كأرضية لهذا الطرح، لم يغفل الدور الحاسم الذي لعبته العصبيات في تقوية وإرساء أسس الدولة بالمغرب، بما فيها عصبية لمتونة؛ إذ أشار في الفصل الخامس من المقدمة الذي عنونه "في أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة العصبية التي كانت لها من عددها" إلى ما يلي: "والسبب في ذلك كما قدمنا أن الصبغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية وتفرد الوجهة إلى الحق، فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء، لأن الوجهة واحدة والمطلوب متساو عندهم وهم مستميتون عليه. وأهل الدولة التي هم طالبوها وإن كانوا أضعافهم فأغراضهم بالباطل وتخاذلهم لتقية الموت حاصل فلا يقاومونهم وإن كانوا أكثر منهم بل يغلبون عليهم ويعاجلهم بما فيهم من الترف والذل وهذا كما وقع للعرب صدر الإسلام...واعتبر ذلك أيضا دولة لمتونة ودولة الموحدين كان فقد بالمغرب من القبائل كثير ممن يقاومهم في العدد والعصبية أو يشق عليهم، إلا أن الاجتماع الديني ضاعف قوة عصبتهم بالاستبصار والاستماتة كما قلنا فلم يقف لهم شيء...". ولعل هذا النص الخلدوني يوضح أن الدعوة الدينية لم تشكل أبدا عاملا حاسما في نشأة الدولة بالمغرب؛ بل هي قبل كل شيء أداة لتوحيد العصبية الطامحة للحكم للقضاء على منافسيها من القبائل والعصبيات الأخرى. "فالدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم" في رأي ابن خلدون؛ إذ إن كل أمر تحمل عليه الكافة، فلا بد له من العصبية. وفي الحديث الصحيح... "ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه"، وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى الناس بخرق العوائد فما ظنك بغيرهم ألا تخرق له العادة في الغلب بغير عصبية. "من هنا يتم التساؤل عن الكيفية التي تم بها القفز على مختلف هذه الأفكار الخلدونية أو على الأرجح بمصادرة بعضها للتركيز على البعض الآخر وذلك للتدليل على "دور الدعوة في نشأة الدولة المغربية". ويمكن أن نفسر هذا الموقف بتبني هذه الطرح لمنظور إيديولوجي في معالجة واقع تاريخي مغربي له منطقه التطوري الخاص به. 3 - النشأة المزدوجة للدولة المغربية يقوم هذا الطرح على مرجعيتين رئيسيتين: المرجعية الثنائية والولادة المزدوجة للدولة المغربية: أولا: المرجعية الثنائية للدولة ينطلق هذا الطرح من أن الدولة المغربية هي دولة عريقة في القدم. غير أن هذه الدولة تختزن مع ذلك ميراثا تاريخيا مزدوجا يتكون من تراث سياسي إسلامي وتراث سياسي أوربي. ولعل ذلك هو السبب في غموض مفهوم الدولة في المغرب. "فالدولة المغربية، هذا المفهوم المتداول والمبتذل، والذي يبدو أنه لا يطرح أي إشكال ظاهريا، هو من المفاهيم الأكثر استعمالا، وفي الوقت نفسه الأكثر غموضا. ويرجع سبب هذا الغموض لانتمائه لمرجعيتين متعارضتين: - مرجعية ذات مضمون قانوني أوربي وبالتحديد من النوع البروسي- النابليوني. - ومرجعية عربية - إسلامية. لذا يؤكد هذا الطرح على أن الدولة المغربية المعاصرة تفصح عن إرادتها في أنها الوريثة وثمرة المنظومتين - السياسيتين: المنظومة العربية - الإسلامية والمنظومة الأوربية. "وهكذا فالدولة المغربية المعاصرة تحيل دائما إلى خلفيات ثقافية ومضامين سوسيولوجية وتاريخية جد مختلفة". ثانيا: الولادة المزدوجة للدولة يشير هذا الطرح منذ البداية إلى أنه من الصعوبة بمكان تحديد نشأة الدولة بالمغرب بشكل دقيق، مستشهدا في ذلك بعبارة لجورجيوديل فيشيو الذي يرى أنه من المستحيل تحديد تاريخ مضبوط لولادة الدولة. ويرجع جورجيو ذلك لعدة أسباب من أهمها عدم التوفر على معلومات دقيقة حول المراحل ما قبل تاريخية وما بعد المرحلة التاريخية للحياة الإنسانية، وكذا أن الدولة لا تولد دفعة واحدة بل تتحقق بالتدريج. ورغم ذلك يؤكد هذا الطرح على ضرورة البحث في نشأة الدولة بالمغرب، خصوصا في غياب محددات منهحية حول الموضوع. وهكذا يرى هذا الطرح أن الدولة المغربية نشأت عبر مرحلتين: - المرحلة الأولى وتتحدد في بداية القرن التاسع الميلادي مع ظهور الأدارسة؛ إذ توفرت الدولة، وذلك بعد عدة قرون، على بنية سياسية قوية. - المرحلة الثانية (أو النشأة الثانية) كانت انطلاقتها في 30 مارس 1956 برجوع محمد الخامس إلى المغرب والحصول على الاستقلال. وفي هذه المرحلة أعيدت هيكلة الدولة المغربية بحصولها على صلاحيات ووسائل الدولة الحديثة. وما بين هاتين المرحلتين، يؤكد هذا الطرح أن تطور الدولة المغربية لم يتخذ دائما مسارا منسجما وخطيا. ومن ثمة فلا ينبغي أن نستحضر الدولة بمفهومها العصري في رصد الملامح الأولى لنشوء الدولة بالمغرب، خصوصا في بلد متشرذم ذي تاريخ متقلب وبسكان قلما يخضعون للسلطة المركزية. لكن هذا لم يمنع من كون المغرب شكل بنية سياسية كانت تتمتع بتوجهات مركزية ساعدت على تبلور سريع لشعور بالانتماء إلى إطار مشترك يتوفر على خصائص مشتركة. وهكذا نشأت في بداية القرن التاسع الميلادي مملكة مغربية مستقلة عن الخلافة ببغداد التي عملت على محاولة توحيد البلاد. وقد تجلت مظاهر هذا التوحيد من خلال عدة مظاهر سياسية تتمثل في: - سك النقود - القيام بحركات تأديبية - ذكر اسم السلطان في خطبة الجمعة - تجنيد الجيش من القبائل وشكلت هذه المظاهر عناصر للتدليل على قدم وجود شعور وطني والتحام بين السكان والدولة. غير أن هذا الالتحام لم يتشكل منذ الوهلة الأولى؛ بل واجه عدة أشكال للتمرد اتخذت في بعض الأحيان طابعا عنيفا، ما لم يمنع من ترسخ هذا الالتحام واستتبابه على أسس صلبة. وللتدليل على أن الدولة المغربية لم تتبع مسار تطوريا منسجما، يركز هذا الطرح على بعض خصائص الدولة بالمغرب، والتي من أهمها: - أنها كانت دولة متشرذمة تتوفر في أغلب الأحيان على عاصمتين. - أنها كانت تفشل في ضمان حماية البلاد من التهديدات الخارجية. - أن الدولة ما قبل الاستعمار لم تكن تقوم بأي دور اقتصادي. وهكذا يخلص هذا الطرح إلى أن تطور الدولة في المغرب لم يتخذ شكلا خطيا؛ بل إن بنيانها كان يترسخ بالتدريج عبر القرون. وعموما فإن من أهم مزايا هذا الطرح هو محاولته الربط بين بعض المراحل التي عرفها تطور الدولة بالمغرب. ومن ثمة الدفع بأن الدولة المغربية المعاصرة لم تنشأ من فراغ، بل إن تاريخ نشأتها يرجع إلى مراحل تاريخية سابقة ابتدأت على الخصوص مع ظهور المملكة الإدريسية. فالدولة المغربية هي من أقدم الدول عراقة وتتمتع بتوفرها على مرجعيتين سياسيتين وتاريخيتين ترتبطان بالمنظومة العربية الإسلامية والمنظومة الأوربية الغربية. كما أن من مزايا هذا الطرح أيضا تسليطه الضوء على التطور غير المتناسق للدولة المغربية، التي لم تتشكل مكتملة طبقا لنموذج الدولة الحديث، بل إنها كانت تعرف فترات قوة وأوج وتارة أخرى تعاني من فترات ضعف وتراجع. وهكذا يؤكد هذا الطرح على أن الدولة المغربية قد خضعت "لتطور بطيء ومتقلب، مع تناوب فترات الظهور المكثف للدولة وفترات تراجع وضعف". وبالتالي فقد برزت الدولة بشكل مكثف ما بين القرن 12م مع قيام الموحدين إلى القرن 15م مع السعديين وكذا في نهاية القرن 17 م أثناء حكم المولى إسماعيل. وعلى عكس ذلك عرفت الدولة المغربية فترات تراجع تمثلت على الخصوص في القرن 13م وفي نهاية القرن 15م مع بداية توسعات الاحتلال الايبري، وكذا في بداية القرن 17م ؛ بالإضافة إلى القرن 19 م الذي شهد سقوط الدولة المغربية أمام الضربات الممنهجة للاحتلال الأوربي. لكن رغم كل هذه المزايا، فيمكن أن نوجه لهذا الطرح الانتقادات التالية: أ - التناقض الذي يتضمنه هذا الطرح، والذي يقوم على أساس أن الدولة المغربية قد نشأت على مرحلتين: المرحلة الأولى كانت مع ظهور الأدراسة والثانية في عهد الحماية. في حين أن من المعروف تاريخيا أن جميع الدول في مختلف بقاع العالم نشأت مرة واحدة لتتطور في ما بعد. لكن لم يثبت تاريخيا أن ولدت دولة ما ثم اختفت لتبعث من جديد. بالإضافة إلى أن الدفع بنشأة الدولة المغربية مرتين يقوض مبدأ رئيسيا من مبادئ تطور الدول وهي مبدأ الاستمرارية التاريخية. فكل دولة يمكن أن تتعرض للانشقاق أو التشرذم أو التقلص أو الاحتلال، لكن لا يمكن أن تزول أبدا. ب - أشار هذا الطرح إلى أن الدولة المغربية قد ورثت مرجعيتين تاريخيتين: مرجعية عربية إسلامية ومرجعية أوربية. لكن لم يحدد هذا الطرح طبيعة الميكانيزمات التي حددت التعامل بين هاتين المرجعيتين وكيف تمت عملية التداخل بينهما ومدى تأثير ذلك على عملية نشأة الدولة بالمغرب؟. ج - من الصعب جدا القبول بأن الدولة المغربية نشأت في البداية مع ظهور الأدراسة، في الوقت الذي نعرف تاريخيا أن هذه الإمارة كانت تتزامن مع وجود إمارات أخرى كبني مدرار بسجلماسة وبرغواطة بتامسنا وإمارة النكور. وكل هذه الإمارات كانت من نفس حجم الإمارة الإدريسية، بدليل أن هذه الأخيرة لم تستطع القضاء عليها ولم تنجح في توحيد المغرب. د - إغفال هذا الطرح لحقبة تاريخية مهمة من تاريخ المغرب القديم؛ والذي شهد ظهور ممالك بربرية وملوك مثل باغا وبوكشيس وبطليموس. وعموما فإن إشكالية نشأة الدولة بالمغرب تبقى مطروحة بشكل حاد؛ إذ إن كل باحث أراد الخوض في هذا المجال إلا ويصطدم بأطروحات مختلفة ومتناقضة. فكل أطروحة تحاول تحديد نشأة الدولة المغربية بفترة سياسية معينة غالبا ما تفتقد لمعايير عملية واضحة. ولعل هذا التضارب في الآراء يرجع بالأساس إلى العوامل التالية: أولا: الصعوبة المنهجية في تحديد مفهوم متفق عليه للدولة المغربية؛ فهناك من الباحثين من يستخدم هذا المفهوم بشكل أوسع حيث يقرن الدولة المغربية بالسلطة؛ وهناك من يقرن ذلك بالظاهرة التي عرفتها أوربا ابتداء من القرن 15 م. ثانيا: عدم تجانس الأرضية التاريخية للدولة في المغرب نتيجة لاختلاف الكتابات التاريخية التي أرخت للتاريخ السياسي المغربي القديم، وكذا للخلفيات الإيديولوجية التي كانت تتستر وراءها، ما جعل الباحثين يرفضون كل ما ورد في هذه الكتابات. ثالثا: غياب كتابات حول تاريخ الدولة بالمغرب؛ إذ إن أغلب الإخباريات القديمة أو حتى الكتابات التاريخية المعاصرة اهتمت فقط بالتأريخ للأسر الحاكمة أو بالتأريخ للمغرب في حين هناك غياب للتأريخ لنشأة الدولة المغربية وتطورها. رابعا: غلبة الجانب الإيديولوجي في تحديد الباحثين لنشأة الدولة بالمغرب؛ فالكتابات التي ترجع نشأة الدولة إلى ظهور الأدارسة مثلا غالبا ما تكرس الطرح الرسمي الذي يؤكد أن الدولة المغربية تكونت مع إدريس الأكبر؛ أما الكتابات التي تحاول ربط هذه النشأة بظهور المرابطين غالبا ما تكرس المقولات التي وردت في التقارير الإيديولوجية لبعض الأحزاب السياسية.