تحتكر المنظومة التعليمية المغربية الرقم القياسي عالميا في عدد مخططات الإصلاح، منها ثلاثة مخططات إصلاح في "العهد الجديد": الميثاق الوطني للتربية والتكوين، البرنامج الاستعجالي، الرؤية الاستراتيجية للإصلاح (2015/2030). ويعتبر التعليم الأولوية الثانية بعد ملف الوحدة الترابية في الخطاب الرسمي، ولا تكاد الخطب الملكية تخلو من الإشارة إلى قضية التعليم، دون أن يترجم هذا الاهتمام كله إلى تطوير جاد لقطاع يعتبر قاطرة التنمية من بوابة تأهيل شامل للانسان. إن حادث سحل تلميذ أستاذه، وعلى بشاعة الحادث، ومهما اعتبر منعزلا، لا يجب أن يحجب ما تعانيه المنظومة التعليمية من انتكاسات مركبّة لم تفد في علاجها الوصفات السريعة، وغدت تهدد المجتمع في تماسكه واستقراره؛ انتكاسات تعددت أسبابها ومظاهرها، ومنها على سبيل الحصر: غياب مشروع مجتمعي يروم تحقيق الحرية والكرامة والعدالة، ومفتاحه انسان متعلم واع على درجة معتبرة من الكفاءة العملية، وبيئة مجتمعية معافاة من المحسوبية وكل أشكال الريع. "إنهم القائمون على شأن العباد والبلاد يريدون خلق أجيال من الضباع، يريدون هدم المجتمع بهدم التعليم، ولهدم التعليم لا بد من هدم المعلم".(1) استهداف نساء ورجال التعليم في مكانتهم الاعتبارية في المجتمع وتسويق صور تنتقص من قيمتهم وتهمش أدوارهم في بناء المجتمع. "إن رزية الشعب في رجال التعليم أعظم رزية. إذا أهين المعلم وسُبّ ولُعن حتى جُرحت كرامته الجرح الذي لا يندمل، فإنما أهين الشعب ودِيست كرامتُه". (2) اعتبار قطاع التعليم مجالا لامتصاص البطالة، إذ يكون الخيار الأخير لولوج التوظيف، ذلك "أن من بين ثغرات المدارس التي عممها الاستقلال الوطني، والبرامج التي طورها، والمعلمين الذين كونهم تتمثل الثغرة الأفدح في جدار المنظومة في قلة كفاءة المعلم، وانعدام الباعث القوي لدى المعلم، ووضعية المعلم مع سائر الناس في دوامة السائبة العامة، ووضعية المعلم الاجتماعية غير المريحة".(3) وإلا لماذا اعتمدت آلية التعاقد في التوظيف في قطاع التعليم دون غيره من القطاعات الأخرى، المؤسسات الأمنية مثلا، أم أن واجب المرحلة، واستحضارا لتداعيات تنامي الوعي الشعبي بحقوقه يتطلب مقاربة أمنية لضبط حركة المجتمع أكثر من حاجته لنشر الوعي والتربية على السلوك المدني وفضيلة الحوار وثقافة الاختلاف وتدبيره؟ غياب إرادة سياسية حقيقية لإصلاح التعليم نظرا لغياب الإرادة الحقة للدمقرطة والعدالة الاجتماعية، وبالتالي تنصرف "مشاريع" الإصلاح الرسمية لتطوير مؤشرات كمية استجابة لتوصيات المؤسسات المالية الدولية ضمانا لاستمرار صبيب الاقتراض. إن حادث سحل التلميذ أستاذه، وحادث قُبلة مراهقة مكناس أشبه بشجرة تُواري غابة كثيفة من المآسي والكوارث المجتمعية تتناسل قوائمها، فمن تنامي التعاطي للمهلوسات ومشتقاتها، إلى سلوك التعنيف و"التشرميل"، إلى الاغتصاب في الفضاءات العامة، إلى ظاهرتي أطفال الشوارع والأمهات العوازب، إلى ركوب قوارب الموت والهجرة السرية فرارا من "جحيم" وضع اجتماعي لا يطاق... مآسٍ تكشف ترديا مجتمعيا وإفلاسا على أكثر من مستوى يسائل النموذج التنموي الذي يؤرخ "لعهد" سُوّق جديدا توعّد الفقر والحرمان والهشاشة بالاجتثاث، ويسائل حكامة بشعارات عظيمة وكبيرة استئصالا للفساد والريع الذي تمأسس، ويسائل منظومة تعليمية استنزفت مخططاتُ إصلاحها خزينة الدولة ومقدرات الشعب دون أن تنجح في محاربة الأمية بعد أكثر من ستة عقود على الجلاء العسكري الأجنبي، ويسائل خيار النظام في الشأنين الثقافي والفني بدعوى الانفتاح على ثقافات العالم، فإذا الانفتاح تفسخا للقيم ونشرا للرذيلة باسم الفن، ويسائل خيارات النظام في الشأنين الديني والشبابي التي جعلت الشباب المغربي عرضة للاستقطاب وأهدافا سهلة للتطرف والتجنيد في تنظيمات إرهابية، حتى ارتبط اسم المغرب بالإرهاب، ناهيك عما يفكك من خلايا إرهابية محلية تُجلي فراغا مهولا في التنشئة الاجتماعية ومعضلة عويصة في سوق الشغل. إنه لا إصلاح، ولا أمل في إصلاح حقيقي لا يتبوأ فيه قطاع التربية والتعليم الاهتمام غرسا لولاء سليم في النفوس واكتسابا لمهارات عقلية وعملية مطلوبة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا لتتبارى الأجيال وتتنافس في خدمة وحماية الوطن هويته وثرواته ومكانته بين الأمم. تربية وتعليم يقترن فيهما "العلم والعمل والخلق، يعني أن عقلنة بلا روحنة، وتدبيرا بلا هدف، وعلما بلا عمل، وعملا بلا صلاح، صناعة للفشل ولاستمرار ما هو كائن على ما كان."(4) "السائبة الأخلاقية ليس ينهض لمقاومتها معلم لا وزن له في المجتمع، ولا هيبة ولا تقدير، ولا كفاءة ولا باعث."(5) المفتاح بعد توفر إرادة الإصلاح "معلم منسجم في نفسه، مرتاح في سربه الاجتماعي، سوي في بنيته النفسية الخلقية، كفء في مادته العلمية، مراقب لله تعالى في أمانته، مطمئن بالإيمان، صابر على معالجة النفوس الناشئة والعقول، زاهد فيما بأيدي الناس، ذو مروءة وعفة وهمة... هذا نمط من الرجال في حقل التربية والتعليم لا يتعايش ولا يزدهر إلا إن كان نفس النمط له القيادة والسيادة في الحقل السياسي."(6) لذلك فواجب المرحلة، وقد أضحت المنظومة التربوية وليس التعليمية فقط في مرحلة السقوط الحر، يقتضي من الفضلاء وذوي المروءات الترفع على الحسابات الضيقة واستحضار المصلحة العامة للعباد والبلاد التنادي لبناء جبهة مجتمعية تتصدى لمسلسل الفساد والإفساد وتبادر لوقف نزيف مقدرات الشعب القيمية قبل المادية، فلا أخطر من انفراط عِقد هوية مجتمع يُطبَّع فيه مع الفساد في جميع مستوياته باسم المحافظة على الاستقرار، ومع الميوعة والتسيب باسم الحرية. الهوامش: 1-الدكتور محمد جسوس عالم اجتماع. 2-الأستاذ عبد السلام ياسين مؤسس ومرشد جماعة العدل والإحسان. 3-حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، فصل "تعليم يحررنا" للأستاذ عبد السلام ياسين. ص: 168 4-نفسه، ص: 182 5-نفسه، ص: 169 6-نفسه، ص: 173،172