النص الأول: "الذي لا يُقاسُ بمقاييس السياسية وإنما يدخل في حساب الفشل الخلقي والحضاري العام هو أن يُهان رجال التعليم ويُسامُوا الخَسف ويُذلّوا إذلالا ... إن رزية الشعب في رجال التعليم هي أعظم رزية إذا أهين المعلم وسُبَّ ولُعن حتى جُرحت كرامته الجرح الذي لا يندمل فإنما أهين الشعب وَدِيسَت كرامتُهُ."(*) النص وإن كان يعبر عن واقع حال نساء ورجال التعليم وما آلت إليه مكانتهم الاجتماعية، فهو يعود لأكثر من 37 سنة، بعد خوضهم لإضرابات ربيع 1979 انتهت بعمليات توقيف للمضربين وتوجت بحملة مسعورة وممنهجة استهدفت نساء ورجال التعليم في رمزيتهم، حيث جيش المخزن في عهد الصدر الأعظم للمخزن الراحل إدريس البصري، فاستنفرت جمعيات أمهات وآباء التلاميذ ودُفعت دفعا لبعث برقيات الشجب والتنديد لامتناع نساء ورجال التعليم عن تدريس أبناء الشعب، وجيء بالمواطنين طوابير أمام الكاميرا لتصُب جام غضبها عمن حرموا فلذات أكبادهم من التعلم، وما علم المغرر بهم أنه كان من أهم مطالب الإضراب إصلاح المنظومة التعليمية قبل مطالب تحسين وضعية نساء ورجال التعليم المادية. اليوم، وضدا على كل الشعارات بمحورية نساء ورجال التعليم في أي نهضة أو نماء وأولوية قضية التعليم واعتبارها القضية الثانية بعد الوحدة الترابية، يأتي الاعتداء الأخرق على الأساتذة المتدربين ليؤكد أن مسلسل استهداف نساء ورجال التعليم لم يتوقف لإلغاء دورهم في صناعة الوعي السليم وتحويل التعليم أداة لخدمة الاستبداد وتخدير الشعب. فلا عجب، أن يهب نساء ورجال التعليم للتضامن مع الأساتذة المتدربين، فالاعتداء عليهم وبهذا الأسلوب المُهين اعتداء على كرامة هيئة التعليم والاستخفاف برسالتها، بصرف النظر عن الملف المطلبي لهذه الفئة ومدى قانونيته، وإلا فأي فعل نضالي إنما يسعى لتغيير قائم أو إقرار مطلب. لذلك، ف"رزية الشعب في رجال التعليم هي أعظم رزية إذا أهين المعلم وسُبَّ ولُعن ... فإنما أهين الشعب وَدِيسَت كرامتُهُ." النص الثاني: رُويَ عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قدم عليه رجل من قِبَل أبي موسى الأشعري، فسأله عن الناس؟ فأخبره، ثم قال: هل عندكم من مَغْرَبَةِ خبرٍ؟ قال: نعم، رَجُلٌ كفر بعد إسلامه. فقال: ماذا فعلتم به؟ قال: قرّبناه فضربنا عنقه. قال عمر رضي الله عنه: فهلا طبَقْتُم (أي: أغلقتم) عليه بيتا ثلاثا، وأطعمتموه كل يوم رغيفاً فاستبتموه، لعله يتوب ويرجع إلى أمر الله. اللهم إني لم آمر ولم أحضر ولم أرض إذ بلغني". المَغْربة الخبر الغريب. رحم الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ورضي عنه، رأى بنظر الحاكم المسؤول أن قتل الرجل كان فيه تسرع وسطحية في التعامل مع النصوص، واقترح هلاّ لو أُمهِل الرجل وأكرم ثلاث أيام طمعا في توبته؛ وحيث إن الأمر قد صار واقعا، سارع رضي الله عنه ليتبرأ من فعل رأى فيه تهورا وشناعة: "اللهم إني لم آمر ولم أحضر ولم أرض إذ بلغني". ترى، ما الذي منع رئيس الحكومة عبد الإله بن كيران من اتخاذ نفس الموقف، وهو الذي لم يأمر ولم يحضر وأكيد أنه لم يرض إذا سمع؟ كان الأولى أن يُشجب الاستعمالُ المفرط للقوة في حق الأساتذة المتدربين وفاء للفعل الاحتجاجي الذي يَدين له رئيس الحكومة بالكثير. واحتراما للتخصص، لماذا توارى وزير العدل والحريات، ولم يُسمع له صوت؟ ألم يراسل وكلاء الملك ليُعْملوا القانون ويضمنوا سلامة المحتجين السلميين، مذكرا أن الاحتجاج السلمي لا يتطلب تصريحا حسب المذكرة؟ لماذا لم يحرك وزير الحريات مساطر التحقيق والمتابعة في انتهاك صارخ لحق التظاهر أم أن الصور والفيديوات المتداولة للتدخل الأمني لا ترقى دليلا للإدانة؟ ثم، أين أعضاء رؤساء أحزاب الائتلاف الحكومي الذين أشركهم تصريح وزير الداخلية؟ أم أنهم شركاء في الإنجازات "زاهدون" في تبعات الإخفاقات لفائدة رئيس الحكومة وحزبه؟ لقد كان لافتا المنطق الذي اعتمده رئيس الحكومة في تبرير التدخل الأمني، وكيف استدعى القاموس الانقلابي مذكرا عن قصد أو غيره بخطاب عبد الفتاح السيسي وهو يطلب التفويض للتصدي لأي إرهاب محتمل؛ منطق خيَّر المغاربة بين التعنيف الأمني والقَبول به نعمة وبين الفوضى، ونسي رئيس الحكومة أو تناسى أن الاستقرار والسلم المجتمعيين يتحقق ويُصان بما يتوفر من أسباب الكرامة للشعب، كل الشعب، ونسي رئيس الحكومة أو تناسى أن منسوب الوعي الشعبي تجاوز مثل هذا الخطاب "البنعلي" (نسبة لرئيس تونس الهارب)، وما احتجاجات ساكنة مدن الشمال في شأن تجاوزات شركة "أمانديس" ببعيد؟ أم أن رئيس الحكومة لا يجد حرجا بعد كل هذا التصعيد من جهته في التنازل على "نخوته" السياسية وسحب المرسومين المعلومين بكل روح رياضية بعد مهاتفة في وقت متأخر من الليل، كما سُحب دفتر تحملات وزير الاتصال أو جُمد على الأقل؟ قد يقول قائل: لا تتحاملوا على الرجل وتُحمّلوه ما لم يتحمله رؤساء الحكومات قبله، فأم الوزارات ظلت خارج سلطة الحكومات المتعاقبة في المغرب، فلماذا يُطلب من السيد بن كيران تحديدا أن يواجه هذا الغول؟ الجواب: إن السيد بن كيران تولى رئاسة الحكومة في سياق غير السياقات السابقة، وفي ظل دستور مهما قيل عن نقائصه خوله صلاحيات الإشراف على كل الوزارات، ومنها الداخلية التي أسندت حقيبتها إلى شخصية حزبية في النسخة الأولى للحكومة، وهو ما اعتبر "فتحا" سياسيا، قبل الارتداد التدريجي تحت أعين السيد رئيس الحكومة. لذلك، فخطورة إعفاء الأجهزة الأمنية من المسؤولية يؤشر لتحول خطير تستأسد فيه المقاربة الأمنية بذريعة ضبط الأمن والاستقرار وتمكين الاستبداد من استعادة ما أرغمه الحراك الشعبي على التنازل عليه. قد يتفهم الشعب القرارات اللاشعبية لحكومة السيد بن كيران، وقد يتحمل الغلاء المعيشي وتردي الخِدمات في الصحة كما في التعليم، وقد يتفهم الإصلاحات التي لا تعرف غير جيوب المواطنين مصدر تمويل: صندوق التقاعد نموذجا؛ لكن الشعب لن يقبل هدر فرصة سنحت لقطع أشواط معتبرة في تكريس الدمقرطة وفصل السلط وربط المسؤولية بالمحاسبة، فحيوية أجهزة الأمن في الحفاظ على النظام العام وضمان سلامة الأفراد والممتلكات لا تُعفيها من المساءلة عند الضرورة، وإلا فهو التحصين الممهد لانتهاك حقوق العباد والعبث باستقرار البلاد؟ إن مشهد السيد رئيس الحكومة وهو يرافع في الغرفة الثانية عشية الثلاثاء 2016.01.12 وخلال وقت ذروة المشاهدة مؤثر يبعث على الإشفاق على وضعية السياسة في المغرب والسيد بن كيران الشخصية السياسية الثانية في البلاد يتقزّمُ أمام وزيره في الداخلية موقعا لأجهزته الأمنية على بياض، أنْ تصدوا للاحتجاجات كما تشاؤون، وانتهكوا الحرمات فرقبة السيد رئيس الحكومة سدّادة، كما يقول المصريون ولا تترددوا في قمع المظاهرات، فهي مُسيسة وغير بريئة ومحركة من طرف من لا يريدون لمغربنا الاستقرار والنماء. وخلاصة القول: إذا كان التدخل الأمني في حق الأساتذة المتدربين فيما سمي الخميس الأسود (أول خميس 2016) مجزرة ستظل موشومة في الذاكرة الشعبية، فإن ما تمخض عنها من تنازلات غير مشروطة لفائدة المقاربة الأمنية يشكل انتكاسة سياسية وردة حقوقية أعادت عقارب التاريخ النضالي إلى من قبل 2011، وهو مع ما تُعدُّه الحكومة من حزمة قرارات لا شعبية يوفر الوقود والشروط لموجة ثانية من الحراك ونحن على مشارف الذكرى الخامسة لحركة 20 فبراير، ويومئذ يعرف المستخفون بذكاء الشعب ووعيه عاقبة تهورهم. (*) عبد السلام ياسين، مجلة الجماعة، العدد الثاني، 1979م