مقاربة تاريخية لدار المخزن كسلطة تقليدية داخل مجتمع بنيته قبلية اعتمدت دار المخزن في بنائها على خدام الأعتاب (خديم الأعتاب)، وكذا القبائل التي ظلت، لفترة ليست بقليلة، تشكل الدعامة الأساس لنصرة المخزن عبر مراحل تاريخ المغرب، منذ الأدارسة إلى الآن، بشكل معلن في كثير من الأحيان، حيث تتم استمالتهم واسترضاؤهم بالمال والمصاهرة أو القوة، هكذا ظلة نظمية دار المخزن تقوم على شخص السلاطين الذين يمارسون تلك السلطة الروحية والتاريخية، وهي سلطة التقليدية في المغرب تقوم على مبدأين اثنين، أولهما، القبائل التي تشكل القاعدة وتتمتع بسلطة مسخرة من السلطان، وثانيهما، الإطار السياسي الذي يعلو فوق القبائل متمثلا في شخص العاهل الذي هو بمثابة الزعيم الروحي والتاريخي محفوفة بإدارة قوية يمثلها المخزن (1) ويعمد السلطان إلى تشكيل بطانة من الخدام " خديم "، ليس على اعتبار الكفاءة، بل على أساس القرابة والوفاء، ومن بين الخدام أيضا تلك الفئة من المثقفين التي تسخر معرفتها لخدمة السلطان و بسط نفوذه ، كما هو الحال بالنسبة ل "الأديب السلطاني"، كما عرفته دار الخلافة بالمشرق وتحويل الخلافة إلى وراثة على يد معاوية بن أبي سفيان حين انبرى يجمع البيعة لابنه يزيد على غرار القياصرة الذين كانوا يعينون من سيخلفهم، أي من سيرث عرش كسرى (2). يقوي السلطان سلطانه من خلال خدامه ومدى إخلاصهم له ووفائهم بالعهد. ومنهم العلماء والفقهاء الذين يدافعون عن شرعيته الدينية ويبررونها ويجعلونها، بعيدة عن شبهة الخطأ، ثم مؤسسة الجيش، لأن السلطان لابد له من قوة تحافظ على هيبته، و[ الكل يعلم أنه إلى حدود سنة 1956 ظل سلطان المغرب محاطا بالمخزن وليس بحكومة، بنفس الطريقة التي يحب بها المسلمون الله و ليس الرب] (3). وتتشكل دار المخزن من العاهل ومحيطه، وتعرف أيضا بدار السلطان أو دار المُلك. ويتكون محيط السلطان من [جماعة خدم الأمير، ويرأسون وحدات الخدم العادية. بعد هؤلاء تأتي جماعة الخدام بالمعنى الواسع، ومجالها هو الفضاء الذي يجاور العالم الخارجي ... جماعة الخدم تتقيد بواجبات وقواعد تحددها أعراف وعادات] (4). يسرد الباحث المغربي عبد الله حمودي، العديد من الممارسات التي تميز بيروقراطية دار المُلك، من خلال اصطدامها بالقاعدة الشرعية ومناقضتها لها، باعتبار أن الشريعة، يضيف حمودي، تلح على الكفاءة المهنية لتولي منصب ما، كالاستقامة والجدارة والصلاح وغيرها من الوقائع التي [تبين أن خدام دار المُلك هم مقربون قبل كل شيء، مقربون قد تسقط حظوتهم، و قد ينزل بهم سيدهم أشد العقاب، والمصير تحسم فيه دار المُلك، ولا يخضع لتقييم هيئة ثالثة (...) ومن جانب آخر، الاحتجاج علنيا على خطئ عضو من العائلة المالكة دون أن يؤثر ذلك على سلطة العاهل] (5)، فأفراد العائلة المالكة لهم من السلطة والنفوذ ما لا يرد أو يقهر، عدا سلطة السلطان ذاته التي تتفوق عليهم، لكن من حيث كونهم يشكلون مؤسسة، فهم أيضا قوة ضاغطة حتى عل السلطان ذاته عند اتخاذ العديد من المواقف أو القرارات، إذ لا يجب تناسي شبكة العلاقات التي تمتلكها هذه المؤسسة بفضل انتمائها للأسرة الحاكمة، بمعنى أن أي مساس بها يعتبر مساسا بالعاهل ذاته، فمهما كبرت أخطاء أفرادها فهي تدارى داخل المؤسسة. و بالنظر إلى دار المُلك، من زاوية ترتيبها الداخلي، الذي تغيب تفاصيل فضائه عن الرعية، لا يعلمه إلا الذين يشكلون جزء من هذا الترتيب، فدار المُلك هي في الواقع [تجمع لأناس مكلفين بمهام معينة، فهي مجتمع قائم بذاته، فيه الحرفيون الملحقون بالصيانة وتنظيم الحياة اليومية، ثم أشخاص حضورهم ضروري، ثم أشخاص آخرون لمجرد اكتمال صورة المركز (رجال الدين، رفقاء التسليات الأدبية، أصحاب البركة، أناس يستبقيهم حسن وفادة الأمير وإرادته وغرضه)](6)، فتسخر دار المُلك كمّاً بشريا هائلا وميزانية ضخمة لخدمة "الدار"، علاوة على أفراد العائلة المالكة، فالواحد من هؤلاء ولد ليجد نفسه يحمل لقب أمير، الشيء الذي يمنحه العضوية الكاملة داخل دار المُلك، من هنا فللبقاء في دار المُلك لابد من [صلة "طبيعية" أو شبه "طبيعية" دقيقة، على شاكلة التسلسل البيولوجي (علاقة الدم)، مقرونة بخدمة عامة غير معينة، وهذا حال الأقرباء والنساء والرفاق، فهم هناك لأنه عليهم أن يكونوا هناك بهذه الصفة. أما المبرر الثاني للتواجد بدار المُلك، فهو الوظيفة المحددة مقرونة بصلة يتم التنظير لها أو التعبير عنها على شاكلة الصلة الأولى، مع الإبهام من حيث معالمها: وهذه حالة قواد الجند، مثلا، الذين تتم تربيتهم قصد القيام بهذه الوظيفة، وتجمعهم بالسلطان صلات شبه أبوية](7). يبدو دور الأقرباء شكليا، لكن في العمق يحمل دلالات اتساع العائلة ودوامها، وتكاثرهم كشرفاء مميزين عن الرعية، يتجلى دورهم في تواجدهم حول السلطان والعلاقات التي ينسجونها خارج هذه الدار وما يقومون به من وساطات. ثم الجند والحرس الذين تتم تنشئتهم داخل الدار ليكونوا محط ثقة، لأنه لا ثقة في أي جهة. وبالعودة لزمن الأدارسة، باعتبارهم حلقة في سلسلة شرفاء آل البيت، يمكن استحضار ما قام به إدريس الثاني حين اتخذ لنفسه بطانة من العرب لتدبير المُلك والسلطان تضم العلماء والفقهاء وأبعد العنصر الأمازيغي (8) عنصر الثقة هذا والخوف الذي ظل يساور السلطان داخل دار المُلك، هو الذي جعل انتقاء الخدام داخل القصر يتم بكثير من الحذر، وتسند لهم مهام دقيقة، وإن بدت شكلية، وهم يرتبون حسب هذه الأهمية في سلالم البلاط، ومن بين موظفي القصر نجد قائد المشور، [وهو باعتباره قائما على شؤون المراسيم، تعمل تحت أوامره عدة هيئات (حناطين) ... جماعة المشوريين (المشاورية)، وهم ينتسبون إلى "المشور"، ويطلق هذا الإسم على الساحة الكبرى التي بباب القصر السلطاني](9). هناك، إذن، مراسيم و تقاليد يجب الالتزام بها داخل القصر، حتى و إن بدت بسيطة، خلال جميع المناسبات، وحتى في الأيام العادية، على مستوى اللباس والأكل والنوم والكلام والزواج والعقيقة والوفاة وغيرها، كلها تقاليد تختلف وتتميز عن خارج القصر، والخدام هم الموكول إليهم إنجازها في أدق جزئياتها. رغم كل ما قيل عن دار المُلك، من حيث المكانة والهبة والقدسية والكاريزماتية، فإنه قد مرت محطات تاريخية تعرضت هذه المؤسسة لهزات وثورات كادت تعصف بها، كما حدث بين السلطان المولى عبد العزيز وأخيه المولى عبد الحفيظ وما عرف ب "الثورة الحفيظية" (ثورة العالم القروي) الشيء الذي جعل هذا الأخير يسعى [لاستعطاف الأجنبي لتوفير الحماية الشخصية له، وهي الحماية التي طالما وقف ضدها أسلافه](10) وهي ذات الأسباب التي جعلت الشعب يتمرد ضد العلماء والسلطان، فقام العلماء التوجه نحو خلع المولى عبد العزيز ومبايعة اخيه المولى عبد الحفيظ، لأن عبد العزيز لم يستطع صد العدوان الأجنبي عن البلاد ... وغيرها هذه لوقائع كثير مثل الانقلابات العسكرية التي كانت على عهد الملك الحسن الثاني خلال سبعينيات القرن الماضي، والتي باءت بالفشل. الأمر، إذن، يتعلق بمؤسسة أضحت راسخة في تاريخ المغرب الحديث والمعاصر وهي ثقافة تم ترسيخها بفعل التخويف، سواء بالقوة أو بالغيبيات والتقرب من دار المُلك باعتبارها مركز القوة والنعمة. أما النخبة التي تشكل بينية دار المُلك، فهي تتميز بالتنوع: الشرفاء والعلماء والأعيان والخاصة والزوايا. هذا فيما يخص النخبة التي تنتج إيديولوجية مؤسسة دار المخزن وتصدرها على شكل فتاوى ودروس وخطب في المساجد وكتابات، وكل ما يمكن أن يصير متداولا بين فئات الشعب، هذا الأخير، الفئة العريضة منه، تؤمن بالخوارق والمعجزات والبركة، ... وهو نفس الشعب الذي يحتج وينتفض للمطالبة بالحرية والخبز ... الهوامش: 1 - Bernard Lugan : Histoire de Maroc des origines à nos jours. Librairie académique Perrin / Critérion. P 16. 2 - أحمد سالم، دولة السلطان: جذور التسلط والاستبداد في التجربة الإسلامية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، إصدارات خاصة، ط. 1، 2001 3 - Abdallah Laroui : Les origines sociales et culturelles du nationalisme marocain(1830-1912). Centre Culturel Arabe 1993.p 67. 4 - عبد الله حمودي، الشيخ والمريد، النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة، ترجمة عبد الحميد جحفة، الطبعة الأولى 2000 ضمن سلسلة المعرفة الاجتماعية، دار تبقال لنشر، ص. 73 . 5 - نفسه ص 74 . 6 - نفسه ص 74 . 7- نفسه ص 74 . 8- أنظر ألفرد بل في كتاب الفرق الإسلامية 9 - مصطفى الشابي، النخبة المخزنية في مغرب القرن التاسع عشر، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، 1995، ص. 41. 10 - Abdallah Laroui, Les origines sociales et culturelles du nationalisme marocain (1830-1912), Centre Culturel Arabe 1993, p.140 *باحث في التاريخ والتراث، وجدة