يعد سوق الذهب بحي الملاح بفاس من أعرق الأسواق لبيع وشراء الذهب وصياغته بالمغرب. حرفة تعود إلى زمن إقامة اليهود بهذا الحي قبل أزيد من خمسة قرون، فهم من تفنن في هذه الصناعة وورثوها للصناع المهرة من المسلمين، الذين ما زالت أناملهم تجود، إلى اليوم، بمصوغات ذهبية ذات تصاميم ونقوش غاية في الإتقان والجمال، تؤثث واجهات محلات بيع الحلي والمجوهرات، ليس في فاس فحسب، بل في كل المدن المغربية. أمين للمزاد ولفض النازعات وإذا كانت محلات بيع المصوغات الذهبية بفاس أصبحت منتشرة بمختلف أرجاء المدينة، فإن سوق الملاح لا يزال يشكل المكان الرئيسي لعرض الحلي والمجوهرات، حيث يقام به، كل صباح، مزاد علني لبيع مختلف المصوغات الذهبية، فيما يعرف عند أهل هذه الحرفة ب"الدلالة"، وهي عملية يشرف عليها أمين سوق الذهب بحي الملاح، الذي هو شخص خبير بخبايا الحلي والمجوهرات المصنوعة من هذا المعدن النفيس. "في كل صباح يحضر التجار إلى مكان الدلالة، التي يتكلف بها عشرة أو اثنا عشر "دلال"، وأنا من يشرف عليهم، حيث يعرض الصناع أو من يمثلهم سلعتهم، وقبل بدء المزايدة عليها أقوم بتفحصها لأتأكد من مدى مطابقتها لمواصفات الجودة المطلوبة"، يقول عبد المالك اللبار، أمين سوق الذهب بفاس، الذي أوضح، في لقائه بهسبريس، أن من رسا عليه المزاد من التجار يفوز بالصفقة ويحوز البضاعة، مضيفا أن "الدلال" والأمين لهما أجر مقابل هذا العمل. وأبرز أمين سوق الذهب بفاس أنه مكلف في الوقت نفسه بفض النزاعات التي قد تقع بين التجار أنفسهم أو فيما بينهم وبين "الدلالة" أو الزبناء. وأضاف: "لا تخلو أي حرفية من المشاكل، لذا أقوم بإيجاد الحل الذي يرضي الجميع، فمثلا قد تشتري زبونة طقما ذهبيا، فتعود بعد ذلك للاحتجاج على التاجر، متهمة إياه بغشها، فأتدخل لأرى إن كان فعلا نصب عليها أم لا، وإن اتضح لي أن السلعة جيدة، وأن الزبونة، فقط، أخذت بكلام الناس الذين عابوا لها البضاعة، أقنعها بأن الطقم جيد، فينتهي المشكل بشكل ودي، وإن كان هناك من ملاحظات تهم التاجر، أقدمها له حتى لا يتكرر مثل ذلك النزاع". وأبرز أمين سوق الذهب بفاس أن تجار المدينة، الذين يناهز عددهم 160 تاجرا، يأخذون بملاحظاته لكونه لا ينحاز لأي طرف، "لدينا هنا مثل محكمة صغيرة، عندما أقدم ملاحظة معينة لأي تاجر يأخذ بها بدون تردد"، يوضح عبد المالك اللبار. نقوش فاسية وأحجار كريمة "الصناع هنا بمدينة فاس متخصصون في النقش على الذهب من عيار 18، وثمن المادة الأولية موحد على الصعيد الوطني، والإقامة والنقش هما اللذان يحددان ثمن الحلي، والإقامة تختلف من مصوغة ذهبية إلى أخرى، فهناك المزينة بالأحجار الكريمة، وهناك المزينة بأحجار عادية، فوضع الأحجار الخضراء الجيدة يرفع ثمن المجوهرات"، يوضح أمين سوق الذهب بفاس. ما قاله اللبار أكده عبد اللطيف الصنهاجي، وهو تاجر شاب في المجوهرات والحلي الذهبية بحي الملاح بفاس، إذ قال لهسبريس إن صناعة المصوغات الذهبية بفاس حرفة بلدية تتميز بالجودة والإتقان، موضحا ذلك بعرض بعض القطع على أنظار هسبريس، منها طقم ذهبي جميل مرصع ب"لويزة" الفروج، وقطعة ذهبية منمقة بنقوش فاسية متقنة، ومرصعة بأحجار الزمرد الأخضر الأخاذ. المتحدث ذاته، الذي أكد على أن الصناعة الفاسية تتم يدويا بالكامل، مما يجعلها أنيقة وقادرة على الصمود لمدة طويلة دون أن يلحقها ضرر، قال إن رواج القطاع يعرف تحسنا خلال العطلة الصيفية بمناسبة عودة الجالية المغربية إلى أرض الوطن وإقبال السياح على مدينة فاس وتنظيم الأعراس بكثافة. ركود بسبب الأزمة ومنافسة الأتراك "الأزمة تضرب مدينة فاس بصفة عامة، وهو ما انعكس على قطاع الحلي والمجوهرات، لأن رواجها مرتبط بالحركية الاقتصادية للقطاعات الأخرى"، هكذا رد كرامي الصنهاجي خالد، رئيس الغرفة النقابية لتجار وصناع الحلي والمجوهرات بولاية فاس، على سؤال لهسبريس حول وضعية هذا القطاع بالمدينة. المتحدث ذاته أبرز أن اقتناء الحلي والمجوهرات من طرف الأسر يبقى أمرا ثانويا، موضحا أنه، إلى جانب الأزمة الاقتصادية التي تعيشها الأسر الفاسية، ساهم غلاء المواد الأولية في ارتفاع أسعار الحلي والمجوهرات، "وكان نتيجة ذلك إغلاق حوالي 250 ورشة لصياغة الذهب كانت تشغل حوالي ألف عامل غيروا مهنتهم وأصبح بعضهم يبيع النعناع أو سائقا لسيارة أجرة"، يقول كرامي الصنهاجي، قبل أن يضيف أن "ثمن الذهب الخام فيما مضى كان لا يتعدى 80 درهما، حيث كان سعر المضمة الذهبية يناهز ثلاثة ملايين ونصف مليون سنتيم، أما الآن فنفس المضمة يتجاوز سعرها 20 مليون سنتيم"، متسائلا "من باستطاعته شراء هذه القطعة الذهبية لفائدة زوجته؟". وأفاد كرامي الصنهاجي خالد بأن المهنيين طالبوا وزارة الصناعة التقليدية بإعادة تكوين الصناع ومساعدتهم على شراء الآلات الحديثة لمواجهة المنافسة التركية والإيطالية، مشيرا إلى أن الوزارة لم تقم بأي شيء في هذا الصدد. رئيس الغرفة النقابية لتجار وصناع الحلي والمجوهرات بولاية فاس قال إن المنتوجات التركية من الحلي والمجوهرات الذهبية غزت السوق المغربية بشكل مهول، نظرا لكون أسعار هذه المصوغات تبقى في متناول المستهلك المغربي، بسبب خفة وزنها وصنعها بواسطة الآلات الحديثة. فيما أوضح عبد المالك اللبار، أمين سوق الذهب بفاس، أن سعر المادة الأولية من الذهب عيار 18 تضاعف خلال السنوات الأخيرة، حيث انتقل من 80 درهما إلى 280 درهما للغرام الواحد، مبرزا أن الكثير من المهنيين أصبحوا ينقلون الذهب المغربي إلى تركيا من أجل تصنيعه هناك وإعادة إدخاله إلى الأسواق المغربية مصنعا، مضيفا أن 95 في المائة من ورشات فاس أغلقت أبوابها وسرحت عمالها خلال الخمس سنوات الأخيرة. "الأتراك لهم آلات متطورة، ونحن كصناع في فاس يصعب علينا توفير هذه الآلات. نفس المصوغة من الذهب التي تصنع بتركيا تكون بسعر أرخص من مثيلتها التي تصنع بالمغرب، فمثلا، قطعة مصنوعة في تركيا تزن ستة غرامات، وإذا أردت صنعها في المغرب يلزمك عشرين غراما. الزبون لا يعرف ذلك، ويقبل على شراء المصوغة التركية، رغم أن سعر الغرام الواحد لهذه القطعة يكون مرتفعا مقارنة بمثيلتها المصنوعة في المغرب"، يقول اللبار، الذي يعتقد أن هذه المرحلة عابرة وسيعود الزبون إلى اقتناء الحلي والمجوهرات المصنوعة بمدينة فاس لكونها هي الأصل والحضارة.