"التبليغ والوعي" آلية لمنهاج أقوم، وهو منهج ل"تجدد الهداية والدراية"، باعتبار المنهج بشري والمنهاج إلاهي، منهج يرتبط بالزمان والمكان والحال، كشروط للوعي، والوعي شرط لتلقي الوحي من خلال هذه "الثلاثية النسقية". والزيادة أس العلاقة بين الوحي والوعي (وقل ربي زدني علما)، ومن آلياتها "الإنصات الهيدجري" حيث الارتماء في أحضان اللغة والبيان، وفي ذلك تحقيق للشهود. إننا مطالبون بالاهتمام بقضايا المنهج وآليات التفكير وانعكاساتها على الفعل ومهمات الإنسان، وذلك لمعالجة "الأزمة الفكرية" وبناء نسق واع بالواقع. الوعي شرط للتبليغ: الوعي أصله اللغوي هو ضم الشيء باستيعاب، فالخليل بن أحمد يربطه بالحفظ، والليث يتحدث عن حفظ القلب للشيء، وابن فارس حصره في ضم الشيء، غير أن الضم في الوعي مخصوص بالاستيعاب والإحاطة (قول الهدهد: أحطت بما لم تحط به)، وليس مطلق الضم، وليس ضم التلاؤم. وفرق بين مطلق العلم بالشيء والوعي به، فمطلق العلم أوله ارتفاع الجهل الجزئي، أما الوعي فأوله العلم الكلي بالشيء، ومطلق العلم قانونه السلطان والحجة والبرهان، أما الوعي فقانونه الفهم المتجدد بتجدد الهداية والدراية. الأول غايته انحسار رقعة المجهول والثاني غايته التذكرة والبصيرة (أذن واعية)، قانون العلم تمييز الشيء عن الشيء وقانون الوعي الترميز الذي يقصد المعنى المشترك. كما تتجسد مادة "وعى" من خلال حالة تلقي الوعي، مثل ما جاء في الحديث النبوي: (أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي، فيفصم عني وقد "وعيت" عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني ف"أعي" ما يقول). وتشبيه الوحي بصلصلة الجرس يرتبط بحاسة السمع كمنفذ للاستيعاب والوعي، وقد جاء الفعل بصيغتي الماضي والحاضر، يقول الحافظ بن حجر: (قد وقع التغاير في الحالتين، في الأول قال: وقد وعيت، بلفظ الماضي. وفي الثاني "فأعي"، بلفظ الاستقبال، فالوعي حصل في الأول قبل الفصم وفي الثاني حال المكالمة، ففي الحالة الأولى أخذ "الصفات الملكية" فإذا عاد إلى حالته "الجبلية"، بكسر الجيم، كان حافظا لما قيل له، فعبر عنه بالماضي بخلاف الثاني فإنه في حالته المعهودة). فالوعي مطلوب لتلقي الوحي في جميع الحالات، كما قال تعالى: (لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية) الحاقة 12، فالوعي مرتبط بالفعل "تعيها" وبالصفة "واعية"، والآذان الواعية في الناس قليل، بدليل أنها جاءت نكرة، كما يرى الزمخشري. والوعي توصف به الآذان كما توصف به القلوب لما بينهما من ارتباط، والأذن باب استقبال العلم وإذا وعت وعى القلب (نظر الله امرئ سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع) (رب حامل فقه وليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه). وقد أكد العلماء على الفهم والوعي للحديث النبوي، فالسنة ليست كالقرآن في حفظ اللفظ، وقد جوز بعضهم نقل المعنى وإن اختلف اللفظ. أما من حيث المفهوم فيفسره البعض (الوعي: العقل عن الله، والانتفاع بكلامه)، كما جاء في تفسير قتادة لقوله تعالى: (وتعيها أذن واعية) الحاقة 12، أذن عقلت عن الله، فانتفعت بما سمعت من كتابه، وعرفه البعض (الفهم البليغ). وليس الوعي مقتصرا على الحفظ لأن الله تعالى مكفل بذلك وصرف هم النبي (ص) إلى طلب الزيادة في العلم بمعاني الوحي ومراده، (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه، وقل ربي زدني علما) طه 114. ف"الزيادة" أس العلاقة في ثنائية "الوحي والوعي"، وترتبط ب"الاستماع"، (والاستماع غير السمع، (فإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) الأعراف 204، ومن عناصرها أيضا "الإصغاء" و"الإنصات"، وهي عمليات الارتماء في أحضان اللغة، كما يقول هيدجر. بعد آليات الوعي التي ذكرنا يأتي "التبليغ" و"البيان"، فالوعي موجب للتبليغ (بلغوا عني ولو آية)، أي ننتقل إلى مستوى "الخطاب" والبحث عن "المنهاج الأقوم" أو "الأقومية". فالوعي عنصر أساسي في النص والخطاب، وهذا ما سنستنتجه من الخطاب النبوي: فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع: إن الشاهد هنا ليس هو الحاضر فقط، فالحضور شيء والشهود شيء آخر، فالشهود وعي ومناط تكليف، وهذا هو سر "الاختيار" (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) البقرة 143. إن التبليغ شهود وتحقيق للوسطية بين الناس والرسول، والوعي شرط للشهود وتحقيق للتبليغ، فالشاهد يكون سامعا فينتقل من مستوى السمع إلى التبليغ عن طريق الوعي. والغاية هي الوعي بمعاني الوحي، والقصد هو "المبلغ الأوعى"، ويبقى الوحي في علاقة دائمة بالوعي و"فاعلية الوعي" بتجدد المكان والزمان والحال، وهو ما سميناه ب"تجدد الهداية والدراية". ولهذا تحدث الرسول، عليه الصلاة والسلام، على عناصر التجدد الثلاثة: يوم النحر والشهر الحرام والبلد الحرام، ليخلص إلى الوعي "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام"، فالوعي بالزمان والمكان والحال محطة أولى، يستمد منها الوعي الثاني "نسقية الحرمة"، والوعي الثالث المستمر هو "وعي الغائب" الذي هو كل مسلم لم يشهد اللحظة النبوية (الزمن والمكان والحال النبوي) لكنه "وعى التبليغ" فرب مبلغ أوعى من سامع، وفي ذلك قمة "الوعي التبليغي". فالوعي هنا بين "الشاهد" و"الغائب"، ف"الحضور" و"الاستماع" "ركنان" لكن الوعي "شرط "، فأضعف الإيمان أن تكون "مبلغا" لمن كان غائبا، لكن ارتقاءك في التبليغ يجعلك "أوعى" "استيعابا" وهي صيغة الطلب، صيغة أصولية حيث "استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية" و"الاستنتاج" و"الاستقدار" لطاقة "الاستيعاب". إن الوعي شرط للحضور في الزمان والمكان والحال، فقد يوجد من يعيش في اليوم الحرام والشهر الحرام والبلد الحرام (ثلاثية نسقية الحرمة)، لكنه يستبيح دماء المسلمين، لهذا فقمة "الوعي" في الخطاب النبوي: (أن لا تصبحوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)، إنه بيت القصيد "للوعي الواقعي الذي نحتاجه، إنه "حرمة الوعي" بالوحي و"الوعي بالحرمة" المفتقدة في حسنا.