بحلول 28 أكتوبر، يكون قدْ مرّ حوْل كامل على اندلاع حَراك الريف، الذي انطلقت شرارتُه لحظة إعلان وفاة بائع السمك مُحسن فكري، بيْن فكّي شاحنة لجمع الأزبال بالقرب من ميناء مدينة الحسيْمة، إثر مُصادرة بضاعته من الأسماك ورمْيها في شاحنة الأزبال التي لقيَ فيها حتْفه. خلال الأسابيع الأولى من انطلاق الحَراك تعاملت السلطات بنوع من الحذر مع الاحتجاجات، لكنَّ صبْرها سُرعان ما نفذ، بعد إصرار أبناء الحسيْمة والنواحي على الاحتجاج، رغْم الوعود المُقدّمة لهم من العاصمة الرباط بالعمل على الاستجابة لمطالبهم، ذات الطابع الاجتماعي بالأساس. يوم 26 ماي الماضي، شهدت الاحتجاجات في الريف مُنعطفا كبيرا، حينَ انتفض ناصر الزفزافي، أحد أبرز وجوه الحَراك، بمعيّة نشطاء آخرين، داخل مسجد محمد الخامس بمدينة الحسيمة، مُحتجّين على خطيب المسجد، إثر اتهامه المحتجين بالسعي إلى إحداث الفتنة. إثر ذلك اندلعت مواجهات عنيفة بين المحتجين والشرطة بعد محاولتها إلقاء القبض على الزفزافي، الذي اختفى عن الأنظار، لكن سرعان ما تمّ إلقاء القبض عليه بعد أيام. وتوالت بعد ذلك عمليات اعتقال قادة الحراك، إلى أن بلغ عددهم 300 معتقل، موزعين على الحسيمة والدار البيضاء، لتتوارى المطالب الاجتماعية التي كان يرفعها المحتجون، وبات إطلاق سراح المعتقلين مطلبهم الرئيس. لجوءُ الدولة إلى اعتقال قادة حراك الريف، وفضّ المسيرات والوقفات الاحتجاجية بالقوّة، يطرح سؤالَ ما إن كانت المقاربة الأمنية التي نهجتْها ستنجحُ في إخماد جذوة الحَراك، بعد إنهاك قادته وعائلاتهم بسنوات السجن الطويلة التي شرعت المحاكم في توزيعها عليهم، أمْ أنّ هذه المقاربة لن تنجح إذا لم تواكبها استجابة للمطالب الاجتماعية التي أخرجت سكّان الحسيمة وعددا من البلدات المجاورة إلى الشارع؟. عزيز إدلامين، الباحث في العلوم السياسية، يرَى أنَّ قُدرة سكان الحسيمة على الحفاظ على زخم المظاهرات الاحتجاجية طيلة عام كامل يعبّر عن مدى تشبثهم بمطالبهم الاجتماعية، وأيضا بالمطلب الرئيس المتعلق بإطلاق سراح كافة المعتقلين. واعتبر الباحث في العلوم السياسية أنَّ تعاطي الدولة مع احتجاجات الريف يمكن تقسيمه إلى مراحلَ متعددة؛ المرحلة الأولى التي أعقبت وفاة مُحسن فكري، واستمرت حوالي شهر، وكانت فترة بناءِ وتشكل لائحة مطالب الساكنة، التي انتقلت من مطلب فتح تحقيق حول وفاة الراحل إلى تقديم لائحة مطالب، معتبرا أنّ هذا المنعطف جعل الدولة "تعيش نوعا من الذهول وعدم استيعاب ما يقع". المرحة الثانية، حسب إدلامين، والتي ابتدأت من الأشهر الأولى للسنة الجارية، اتّسمت بتعامُل الدولة بنوع من "اللامبالاة" مع احتجاجات الحسيمة ونواحيها، إذ كان الانشغال مركّزا، بشكل كبير، على عملية "البلوكاج" الحكومي، وكذا انضمام المغرب إلى الاتحاد الإفريقي؛ ثم جاء شهر أبريل، حيث بدأت الدولة في اللجوء إلى قمع المظاهرات، وخاصة في إمزورن. هذه المرحلة، يضيف المتحدث، شهدت أيضا التهييء للمقاربة القضائية، من خلال البحث عن شرعية للتدخل من داخل أحزاب الأغلبية الحكومية، تُرجم بالبيان الصادر في 15 ماي من طرف زعماء أحزاب الأغلبية، إثر اجتماعهم مع وزير الداخلية، إذ اتهموا المتظاهرين بالرغبة في الانفصال. اتهام عاد رئيس الحكومة، سعد الدين العثماني، للتراجع عنه، بعد أن تبيّن له أنّ ما صدَر عنه وزملاءه لم يستند إلى أساس، وأجّج الاحتجاجات. إدلامين اعتبر أنَّ المرحلة الرابعة من الحراك، والتي امتدّت من 18 إلى 24 ماي، عرفت "ضياعَ فرصة ذهبية"، حين خرج المتظاهرون إلى الشوارع مُعلنين تشبثهم بالوحدة الوطنية، وندّدوا بتصريحات أحزاب الأغلبية الحكومية، وعرفت أيضا إنزالا حكوميا، إذ حلّ وفد وزاري بمدينة الحسيمة للاستماع إلى مطالب المحتجين؛ "لكن يوم 24 ماي قُوّض كل شيء، إذ تحوّلت مقاربة الدولة مع الحراك إلى مقاربة أمنية وقضائية صرْفة بعد حادث المسجد". ويرى الباحث في العلوم السياسية أنَّ المرحلة الأخيرة من حراك الريف، والتي ابتدأت بمنع التظاهرات وقمعها، والاعتقالات الجماعية في صفوف المحتجّين، بيّنتْ محدودية المقاربة الأمنية والقضائية في إخماد نار التظاهر، وعدم تنازل الساكنة عن مطالبها، مضيفا أنّ المقاربة الأمنية في عُرف الحركات الاحتجاجية "غير قادرة على ضبط التظاهر، بل على العكس تكون في كثير من الأحيان مثل صب الزيت على النار في حالات وقوع انزلاقات، كما حدث بعد وفاة عماد العتابي". وفيما بدأت الدولة في تفعيل بعض الوعود التي قدمتْها لسكان الريف، وذلك بإقدام الملك على إعفاء أربعة وزراء من الحكومة، ومدير المكتب الوطني للماء والكهرباء، إثر التقرير الذي توصّل به من طرف المجلس الأعلى للحسابات، من جهة، واستمرار المطالب بإطلاق سراح المعتقلين، يرى إدلامين أنَّ ثمّة حاجة إلى تجاوز المقاربة الأمنية والقضائية، والعودة إلى الحوار وبناء جسور التواصل بين الدولة والمحتجّين. وأضاف المتحدث أنَّ المقاربة التي ينبغي أن يجري التعاطي بها مع ملف الريف يجب أن تقوم على إجراءات مباشرة، وعلى رأسها إطلاق سراح المعتقلين، والانخراط السريع والمباشر في تلبية مطالب الساكنة وفق مقاربة تشاركية مع المتظاهرين، ووفق مقاربة حقوقية أساسُها المصالحة مع الساكنة وتضميد جراح الماضي والحاضر.