كما هو معلوم، تم مؤخرا إعفاء بعض الوزراء والمسؤولين الكبار من مهامهم لثبوت تقصيرهم في القيام بواجباتهم والإخلال بالمسؤولية المنوطة بهم. هذه الخطوة لاقت استحسان الكثيرين لأنها تؤسس لمبدإ ربط المسؤولية بالمحاسبة، هذا المبدأ الذي يسعى من أجله وينادي به كل المصلحين. ولا يسع كل من يغار على بلده إلا أن يرحب بهذه الخطوة الهامة وغير مسبوقة التي قام بها ملك البلاد على درب الإصلاح. فحسب علمي، لا أذكر أنه -وبسبب التقصير في القيام بالواجب- حدثت إعفاءات ومحاسبات بهذا الكم ولمسؤولين كبار بهذا الحجم في تاريخ المغرب القريب. لكن مع هذا أقول: إن تطبيق مبدإ ربط المسؤولية بالمحاسبة على الحالة المغربية بالخصوص ومع أهميته البالغة غير كاف، وما هو إلا خطوة هامة في طريق الإصلاح الشاق والطويل. ولتحقيق الإصلاح الشامل، لابد إلى جانب ربط المسؤولية بالمحاسبة من أمور أخرى. إن محاسبة المقصرين والمفسدين من الوزراء والمسؤولين والموظفين وحتى المواطنين العاديين أمر ضروري بالطبع وهو من تجليات العدالة التي لا تستقيم المجتمعات بدونها. لكن هذا المبدأ إنما يؤتي ثماره المرجوة بين الشعوب والدول المتحضرة التي يغلب فيها الصلاحُ الفسادَ، إذ يمثّل المفسدون أقلية أمام الأكثرية الصالحة من أفراد الشعب ويكون الصلاح هو القاعدة والفساد استثناء وتلفظ وترفض الأكثرية الصالحة الأقليةَ الفاسدة وتستشين تصرفاتها (أقصد الصلاح والفساد بمنظور المواطنة وليس بمنظور الإيمان –حتى لا يستدرك علي هواة الاستدراك-). مع هذا الوضع الذي يغلب فيه الصلاحُ الفساد، يحس الفاسدون والمفسدون بالغربة والحرج بين أفراد أسرهم وزملائهم وأصدقائهم وفي مجتمعهم، لأن الكل منضبط بالقانون ويعزف نفس المعزوفة ويحتكم إلى نفس القيم إلا هذه الأقلية الفاسدة الشاذة التي تسبح ضد التيار. في ظل هذا الرفض والنبذ المجتمعي لتصرفات الفاسدين في الدول المتقدمة، تأتي المحاسبة القانونية في انسجام تام مع قيم المجتمع وسلوكه العام فتؤتي عوامل الزجر والمحاسبة أكلها، وإذا بالأقلية الفاسدة الغريبة بفسادها على جسم المجتمع الصالح، تنضبط بسلوكه العام محترمة قوانين وأعراف البلاد. إن الوضع عندنا معكوس تماما، حيث يمثل الفساد القاعدة والصلاح الاستثناء! يجب أن نمتلك الجرأة لنقول: إن الأكثرية منا فاسدون وإن الصالحين والمنضبطين بالقانون يحسّون بالغربة في بلدنا، تماما كما يحس الفاسدون بالغربة في الدول المتقدمة. قد يرى البعض هذا الكلام قاسيا، لكنها الحقيقة التي نحسها ونعايشها في كل يوم وفي كل لحظة من خلال الطريقة التي نتعامل بها مع بعضنا البعض ومن خلال الطريقة التي نتعامل بها مع قوانين البلاد. لنكن صرحاء ولنجب على الأسئلة التالية بصدق: - كم نسبة المغاربة الذين لا يتعاملون بالرشوة إما أخذا أو عطاء؟ مع العلم أننا كلنا ننكر ونستنكر هذه الظاهرة ونعتبرها من أهم مظاهر وصور الفساد. -كم نسبة المغاربة الذين يصرّحون بحقيقة وقيمة ممتلكاتهم ومقتنياتهم لدى مصلحة الضرائب ولا يتهربون من أداء واجباتهم الضريبية؟ وكم تخسر خزينة الدولة جراء هذا السلوك المشين والفساد المبين؟ -كم نسبة المغاربة الذين لا يغشّون في أعمالهم وتعاملاتهم ويعاملون الغير كما يحبون أن يعامَلوا، ملتزمين بقوانين الله وقوانين العباد؟ أليست هذه -وغيرها كثير- أنواعا من الفساد؟ إنني لا أرى فرقا بين نجّار أو حدّاد أو بنّاء أو تاجر بسيط مثلا، يعد زبناءه بتقديم خدمة بشكل معين وفي وقت محدّد فإذا به يغش في الجودة ويتماطل في الوقت، وبين وزير أو برلماني يغش أو يتماطل في تنفيذ الوعود وإنشاء المشاريع. إن الحساب واللوم يكون بالطبع حسب حجم المسؤولية، لكن هذا لا ينفي أن كلا الرجلين فاسد لا مبدأ له. ولا ينفي كذلك أن من فسد تصرفه في صغار الأمور سيفسد أيضا في كبارها. إن المبرر الذي تسوقه أنت أيها المواطن العادي أو الموظف الصغير لتبرير فسادك كالتعامل بالرشوة أو التهرب من أداء الضريبة أو الغش والتقاعس في أداء الواجب، هو نفس المبرر الذي سيسوقه الوزير الفاسد والموظف الكبير الفاسد، سيقولون جميعا: "الكل يفعل..."! باختصار أقول: إن طريق الإصلاح أمامنا لا يزال طويلا وإن إجراءات زجرية من هنا وهناك -مع ضرورتها- لن تحوّل مجتمعاتنا من مجتمعات فاسدة إلى مجتمعات صالحة ولن تحول دولنا من دول متخلفة إلى دول متقدمة. وإذا أردنا أن نحاسب بالفعل كل من يخالف القانون، فأخشى أن لا ينجو من المغاربة أحد. ومن لم يستحق منا السجن استحق الغرامة، لأننا كلنا أو جلنا على الأقل نخالف القانون، كل حسب مسؤوليته وحجم مخالفته. إن الإصلاح الحقيقي لن يتم إلا إذا كثر الصالحون في البلاد وأصبحوا هم الأغلبية والقاعدة في المجتمع وهذا لن يتم فقط بفتح السجون والمحاكمات والإعفاءات وإنما يتم بتظافر جهود كل الجهات التي لها تأثير في بناء وإصلاح المواطن الإنسان. لا بد إذا من تربية حسنة داخل الأسرة ولا بد من تعليم جيد في المدارس ولا بد كذلك من إعلام هادف ومسؤول، إلى جانب وضع سياسات كبرى تعتمد إصلاح الإنسان فكرا وسلوكا وتعتمد كذلك تجفيف منابع الفساد.