كأي مواطن مهتم، حاولتُ رصد الخطاب السياسي المرتبط بالانتخابات القادمة (4 سبتمبر 2015)، سواء في مرحلة الإعداد الحزبي الذي يسبق عادة الحملة الانتخابية، أو أثناء الحملة الانتخابية ذاتها. وبالرغم من كون بعض الأحزاب حاولت أن تصيغ برامج انتخابية لاقتراحها على "قاعدتها"، فإن الحديث عن مضمون البرامج كان ثانوياً بالمقارنة مع التركيز على مقولة "الفساد". تتبعت خطاب سبعة أحزاب سياسية يبدو أن لها حضور قوي على مستوى إنتاج الخطاب الدعائي الانتخابي هي: الاستقلال، العدالة والتنمية، الأصالة والمعاصرة، التقدم والاشتراكية، الاتحاد الاشتراكي، الحركة الشعبية، التجمع الوطني للأحرار. جميع هذه الأحزاب السبعة تعرضت، كل حزب بطريقته الخاصة، لمسألة الفساد، سواء تلك التي توجد في الحكومة (4 أحزاب)، أو تلك التي في المعارضة (3 أحزاب). ومن خلال تحليل أولي لتصريحات قياديين سجلتُ ثلاث ملاحظات: الملاحظة الأولى: القاسم المشترك لجميع هذه الأحزاب هي تبرُّمها من الفساد والمفسدين والدعوة إلى محاربة الفساد والقضاء عليه، هذا إما دون تحديد هوية هؤلاء الفاسدين والمفسدين، وإما في إطار هجمات عنيفة تمس أحد قياديي هذه الأحزاب من طرف قياديين آخرين. الملاحظة الثانية تتعلق بتسجيلي لمفارقتين: المفارقة الأولى هي تبادل التهم بين من في الحكومة ومن في المعارضة، حيث تكاد تختلط الأمور على المتلقي ولا يكاد هذا الأخير يميز بين من هو الفاسد ومن هو المفسد، ولا بين من يدعم الفساد ومن يحاربه؛ والمفارقة الثانية هي أن هذه الأحزاب جميعها، بدون استثناء، عرفت قبل بدء الحملة الانتخابية عدة طعون (بعضها طعون شعبية وبعضها طعون رسمية) في بعض لوائح مرشحيها نظراً لترشيح هذه الأحزاب لأشخاص ثبت أنهم فاسدين و/أو أنهم قضوا مدة معينة في السجن. الملاحظة الثالثة تتعلق بكون جميع هذه الأحزاب عرفت، في الفترة الأخيرة (السابقة للانتخابات) بعض التصدعات الداخلية المرتبطة بغياب القرار الديمقراطي حول تشكيل لوائح مرشحيها، أو بإعطاء الأولوية للمترشحين الأعيان (بغض النظر عن انتمائهم للحزب أم لا)، أو بالترحال الحزبي (الانتقال في آخر لحظة من حزب لآخر)، أو باستقالة عدد لا يستهان به من "المناضلين". هذه الملاحظات الثلاثة هي التي دفعتني إلى التأمل حول مقولة الفساد ومحاولة إزالة اللبس عنها، مع محاولة ربطها فيما بعد بالذوات السياسية الفاعلة في "السوق الانتخابية". 1. في معنى الفساد: جرت العادة عند المواطن المغربي العادي أن يُقرن عبارة "الفساد" بمفهوم أخلاقي-ديني مرتبط أساساً بالجنس خارج الاعتراف المؤسسي، لذلك يسمى موضوع المتعة الجنسية، أي المرأة، "الفاسدة"، والقائم بالفعل المحرم ينطبق عليه الفعل "يُفسد" دون أن تنطبق عليه بالضرورة الصفة "فاسد". إن اختزال "الفساد" في هذا المعيار الأخلاقي-الديني هو في نظري تعبير عن تطبيع اجتماعي مع الأشكال الأكثر خطورة للفساد: الفساد السياسي، والذي به ترتبط مختلف الأنواع الأخرى من الفساد. لنعود الآن إلى أصل الكلمة. فعبارة "فساد" مشتقة من فسُد الشيء أي بطُل وتغير. وتعني أيضاً تغيّر في الحالة "الطبيعية" للشيء من خلال التحلل العضوي لهذا الشيء، إذ يُقال مثلاً: فسد الحليب، فسد اللحم، إلخ. مقابل مصطلح الفساد في اللغات اللاتينية هو corruption بالفرنسية و corrupción بالإسبانية... عبارة corruption مشتقة من اللاتينية corruptio-onis وتعني علّة فعل أفسد corrumpere والتي تعني تغيّر حالة شيء ما أو تعفنه. كمثال على ذلك نقول بالفرنسية lait corrompu، viande corrompue، إلخ. اجتماعياً، نميل إلى استعمال مصطلح "فساد"، إسوة بفساد المواد الطبيعية القابلة لذلك (لحم، حليب، فواكه، إلخ) عندما نلاحظ أن شيئاً ما في المجتمع (أو في السياسة) لم يعد "عادياً"، أي لا يستجيب "للرأي العام"، وإن كان الرأي العام قابل للفساد أيضاً (الألمان يتحدثون عن die Korruption der öffentlichen Meinung، أي فساد الرأي العام، أو لا يستجيب "للحس العام" Sens commun أو لسلطة العرف أو القانون. اصطلاحياً، نقصد بالفساد سوء استخدام سلطة منتدبة بهدف الحصول على أهداف خاصة كالاغتناء أو المساعدة على اغتناء الغير. 2. في أصل الفساد وتشعباته: رغم أن الفساد طبيعة بشرية لازمت الإنسان منذ أن اكتشف الكذب، أي منذ "تحضره"، فإن الأشكال الحديثة للفساد هي الأكثر خطورة نظراً لانعكاساتها السلبية المختلفة. يتعلق الأمر هنا بالفساد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وتغذية بعضها للبعض. في طفرة البحث عن الثروة أو بناء الثروة (وأحياناً حتى في إطار الحصول على الحد الأدنى للمعيشة) المصاحبة لهيمنة النموذج الرأسمالي الليبرالي المتوحش، وأمام صعوبة وضع حواجز متفق ومتعارف عليها أمام انتشار الفساد، يبدو أن هذا الأخير مرشح لمزيد من التوسع على عدة أصعدة: الصعيد الفردي، الصعيد الاجتماعي، الصعيد الاقتصادي، الصعيد السياسي. أ- فساد الفرد: يرجع فساد الفرد إلى المنظومة القيمية السائدة في المجتمع. وفي الحالة المغربية، خصوصاً أمام الصعوبة التي يواجهها المواطنون في تحقيق مطامحهم في الرقي الاجتماعي، فإن الفرد يميل إلى استعمال الطرق السهلة وأقصرها للحصول على مبتغاه و"الوصول" إلى حيث يرغب؛ ذاك أنه في غياب قواعد واضحة وتنافس نزيه، فإن كل الطرق ممكنة، ابتداءً من الغش في الامتحانات (الذي أصبح مسألة "عادية" يشجع عليها كثير من أولياء التلاميذ)، إلى التزوير والتحايل واستعمال طرق التملق والسخرة والارتباط الزبوني ("كاين ما نقضيو أسيدي؟")، وصولاً إلى الكذب الممنهج من أجل الظفر بما يسمى عند عامة الناس ب"الهمزة". ونتيجة لذلك أيضاً تتكون لدى المواطن نزعة فردية لتحقيق الرغبات وضمان الحاجيات، بعيداً عن أي تصور للحلول الجماعية في ظل تكتلات مهيكلة قادرة على العمل والضغط وتحقيق مكاسب سياسية جماعية. وكل من لا ينخرط في لعبة الخلاص الفردي هذه سيرمى به في خانة "المسكين" أو "النية" أو "الكامبو" وغير ذلك من النعوت القدحية. لنأخذ مثالاً على ذلك: أمام تدهور جودة التعليم العمومي مقابل التحسن النسبي لجودة التعليم الخاص، وفي استحالة غالبية المواطنين في ولوج النوع الثاني من التعليم المحجوز لأبناء الطبقات الوسطى والغنية، يجد التلميذ أو الطالب الفقير في الغش تبريراً طبقياً يغطي به عجزه في التنافس المشروع. وأمام الفرص الكبرى المتوفرة لأبناء الأعيان (الوزراء وكبار المدراء والأثرياء) في ولوج مناصب الشغل مباشرة بعد تخرجهم، فإن أبناء الفقراء لا يعيرون أدنى قيمة للتنافس المشروع عبر المباريات ويلحون على ولوج مناصب الشغل، خارج مبدإ الجدارة والاستحقاق، إما باستعمال الطرق التقليدية من رشوة ومحسوبية، وإما باللجوء إلى الضغط المادي والمعنوي في شكل اعتصامات و/أو إضرابات عن الطعام... ب- فساد المجتمع: إذا كان الفرد والأسرة يعتبران ركيزة المجتمع، فإن تشكل النزعة الفردانية والخلاص الفردي، المغذيان من طرف التربية الأسرية، يعتبر مقدمة لفساد المجتمع. إن النزعة الفردانية والخلاص الفردي لم يأتيان كنتيجة لبيئة سياسية عامة فقط، بل تجد جذورها أيضاً في اللاوعي الديني حيث إن "الخطيئة" كإشكال فردي تجد حلها في "التوبة"، إذ بإمكان الفرد أن يرتكب معاصي كثيرة (كذب، تزوير، رشوة، فساد، سرقة، اعتداء جنسي أو مادي...)، وفي النهاية يعلن التوبة ويصبح مرتاحاً مع نفسه لأنه لن ينال عقاب الآخرة (ولا حتى عقاب الدنيا في كثير من الأحيان)! المجتمع عموماً، بطريقة شعورية أو لاشعورية، يعرف جيداً كيف يترجم مقولة "الغاية تبرر الوسيلة". فلتحقيق الترقية الاجتماعية، يتغاضى المجتمع عن أصل ثروة الأشخاص: لا يهم مصدر الثروة، فغالباً ما نتحاشى الحديث عن هذا المصدر، هل هو تجارة مخدرات؟ هل هو تجارة دعارة منظمة؟ هل هو استغلال نفوذ (رمزي أو سياسي أو ديني)؟ هل هو نهب موارد عمومية؟ ... كل هذا لا يهم لدى المواطن العادي. المهم هو أن مالك الثروة له جاه وسلطة، بل أكثر من ذلك، يمكن أن يكون "كريماً" أو "مول الخير" أو"دار خبز" (ثادّارث نوغروم) كما يقال! البراغماتية التي تتضمنها مقولة "الغاية تبرر الوسيلة" تجد تبريرها أيضاً في اللاوعي الديني كما أسلفت، فالتسول بالقرآن، على سبيل المثال، أمر عادي جداً لدى عامة الناس، مع العلم أن التسول شكل من أشكال الفساد، لأنه نقيض للعمل. كما أن "همزة" تجار القيساريات والأسواق شكل من أشكال الفساد، لأن البيع بالتحايل على الزبون جريمة أخلاقية قبل أن تكون جريمة اقتصادية. مقولة "الغاية تبرر الوسيلة" تجد تبريرها أيضاً في الرغبة الملحة من قبل الأفراد في تنفيذ مشاريع بغض النظر عن الموانع القانونية أو الأخلاقية أو البيئية. فالمغربي عموماً يتجه دائماً نحو تحقيق رغباته ضداً على القانون. مثلاً: بناء طابق إضافي بدون رخصة، الاستيلاء على الملك العومي، تزوير تاريخ الميلاد أو الحالة المدنية، قتل وإحياء ابن شرعي نظراً لظروف خاصة، طلاق زوجين يسكنان حياً قصديرياً للاستفادة بقطعتين أرضيتين بدلاً من قطعة واحدة، إلخ. هذه الأفعال الفاسدة تدخل في نظري، ضمن التوجه العام للمواطن المغربي حيث إن القاسم المشترك هو الهروب من القانون أو التحايل عليه، لأن القانون، في نظرهم يعيق مصالحهم. إن النزعة البراغماتية لكثير من المواطنين المغاربة لا تبرر فقط اتجاههم نحو القيام بأعمال فاسدة، وإنما أيضاً تفسر تواطأهم كمفسدين مع المسؤولين كفاسدين، لذلك فهم عموماً لا يتجهون فقط لعدم معاقبة منتخبيهم الفاسدين خلال الانتخابات، وإنما في كثير من الحالات يدافعون عنهم ويزكون أفعالهم الفاسدة انطلاقاً من فكرة "كايسرق ولكن كايدير"، أو من فكرة أن المنتخب الفاسد، بالرغم من فساده، فإنه خدوم ("كايسربي"، "كايقضي الغرض")! ج_ الفساد الاقتصادي: الفساد الاقتصادي نشاط فاسد يشمل قطاعات عديدة، بدءاً من التجارة الصغيرة، وصولاً إلى التكتلات الاقتصادي الكبرى. فالتاجر الصغير مثلاً، رغبة منه في تحقيق أرباح إضافية سريعة، يميل إلى الغش في الوزن أو في جودة المنتوج، أو إلى بيع مواد منتهية الصلاحية. وعلى غرار التاجر الصغير، صاحب "الهمزة" الصغيرة، يميل كبار المستثمرين وتميل الشركات الكبرى إلى تحقيق أرباح هائلة على حساب مبدإ حرية السوق والتنافس الحر والمشروع، بحيث يتواطأ الرأسمال مع الدولة من أجل تطويع القوانين للاحتكار و/أو التحايل على القوانين. ومن أهم مظاهر الفساد الاقتصادي ما يلي: i. نهب الموارد الطبيعية (غابات، رمال، أحجار، معادن، مياه، ملكيات زراعية...)؛ ii. التهرب الضريبي، بحيث يميل المستثمرون (أعيان، مسؤولون نافذون، شركات، إلخ) إما إلى عدم التصريح بالأرباح الحقيقية أو إلى إرشاء المسؤولين على الجبايات بهدف الإعفاء (غير الرسمي) الجزئي أو الكلي، من أداء الضرائب؛ iii. نهب المال العام عن طريق تحويلات غير مبررة أو التحايل القانوني أو في شكل علاوات جزافية أو هدايا (يمكن أن تكون شوكولاطة أو ورود أو ساعات ثمينة، كما يمكن أن تكون في شكل التصديق على علاوات استثنائية أو رواتب إضافية أو تقاعدات مريحة...) أو تكاليف استجمام عائلي وغيرها من الطرق؛ iv. الإعفاءات (غير القانونية) من أداء رسوم الضمان الاجتماعي بالنسبة للقطاع الخاص؛ v. تبييض الأموال المحصَّلة بواسطة أنشطة فاسدة (تجارة المخدرات، رشاوي، تهريب، إلخ)؛ vi. الالتفاف على قوانين الشغل كعدم الالتزام بأداء الحد الأدنى للأجور للعمال؛ vii. عدم التزام الشفافية في منح العقود التجارية ورخص الاستثمار وتفويت هذه العقود مقابل عمولات أو وفق مبدإ القرابة أو المحسوبية...؛ viii. منح امتيازات ورخص دون أي اعتبار للقانون ومنح رواتب لموظفين أشباح ولمسؤولين ومنتخبين لا يستحقونها...؛ ix. الغش في المواد الصناعية أو في مواد البناء (خصوصاً كبريات الشركات العقارية المحظوظة)؛ x. استغلال الموارد اللوجيستيكية للدولة والجماعات لأهداف شخصية... د- الفساد السياسي: يعتبر الفساد السياسي بمثابة رأس الحرباء للفساد عموماً، إذ به ترتبط كل الأشكال الأخرى للفساد، وبالتالي فإن منظومة الفساد تمر بالضرورة عبر هذا الباب. وللفساد العمومي شقين: شق المنظومة الحزبية (الفاعل السياسي بامتياز) وشق مؤسسات الدولة (الحكومة والإدارات المحلية). وإذا كانت الأحزاب السياسية هي التي تمد الدولة، مبدئياً، بأطرها المسيرة، وعندما تكون جل هذه الأحزاب هي نفسها أصل البلاء، فإن الدولة تتحول إلى موضوع ومصدر للفساد معاً. إن البنية الحزبية الحالية (مع استثناءات ما تزال تقاوم بصعوبة) هي بنية تفتقر إلى الحد الأدنى من التصور الاستراتيجي وتعمل كآلات انتخابية تعيد إنتاج الفساد عبر تقوية وديمومة بنيات حاضنة له. يكفي أن نتفحص طرق استقطاب الأحزاب "لمنخرطيها" (الذين يسمون مجازاً "مناضلين") وطرق عقدها لمؤتمراتها وتغييب الديمقراطية الداخلية فيها وطريقة تدبيرها للاختلاف ومسألة النوع، لنفهم في النهاية لماذا يعاني الجسد الحزبي من مظاهر غير صحية تتسع باستمرار، خصوصاً في المجالات التالية: i. الاستقالات الفردية والجماعية الملفتة للانتباه، والمصحوبة غالباً بمعارك طاحنة تأتي تقريباً على الرأسمال الرمزي للحزب؛ ii. الانقسامات المتكررة والتي تؤدي غالباً إلى ظهور أحزاب جديدة لا تمثل أية قيمة مضافة بقدر ما هي صورة طبق الأصل، وأحياناً صورة مشوهة، للحزب المنشق عنه؛ iii. الجري الملفت للانتباه وراء استقطاب ما يسمى ب"الأعيان"، والذين هم في الغالب عناصر فاسدة ومفسدة، وأحياناً تُقبل حتى العناصر ذات السجلات العدلية السلبية؛ iv. افتقار هذه الأحزاب إلى منظومة قيمية أخلاقية تراعي "الحس العام" للمواطنين وتحترم الحد الأدنى من قواعد اللعبة، ناهيك عن الفساد الخطابي واللغوي الذي يميزها، أو دعم الأحزاب المباشر أو غير المباشر للفساد (مثال: إعمال مبدإ "عفى الله عما سلف")؛ v. تبخيس العمل السياسي عبر تحويله إلى نشاط تجاري مدر للأرباح (وأحياناً تحويله إلى سجل تجاري عائلي)، يبدأ ببيع تزكيات المرشحين وبيع أصوات "الناخبين الكبار"، وصولاً إلى إمكانية فتح صنابير الدولة والجماعات، وهو الهدف غير المعلن في كثير من الممارسات؛ vi. وكنتيجة لما سبق، فإن هذه الأحزاب، حتى تفرض وجودها "جماهيرياً"، تلتجئ إلى كل ما يمكن أن يبرر وجودها والتغطية على أنشطتها الفاسدة عبر شيطنة المنافسين أو الالتجاء إلى الديماغوجيا والشعبوية، الشيء الذي يحول نشاطها إلى مسرح مفتوح لفرجة معممة يؤدي الوطن ثمنها غالياً. أما بالنسبة لمؤسسات الدولة والإدارات المحلية فإن انتشار الفساد فيها ما هو إلا تجلياً لفساد المنظومة الحزبية، ذلك أن ما يسمى بالتأثير التسلسلي effet de concaténation يجعل انتقال الفساد من حلقة إلى أخرى أمراً يكاد يكون طبيعياً بما أن "النشاط السياسي الانتخابي" يتضمن في الأصل جرثومة الفساد: الأحزاب تزكي "الأعيان" وتُعرض عن إرادة "المناضلين" التمويل اللاقانوني للأحزاب والانتخابات إفساد العملية الانتخابية بشراء الأصوات والذمم الأعيان يتصدرون نتائج الانتخابات الوصول إلى مواقع المسؤولية عن طريق الاستثمار "الفاسد" يتطلب من المسؤولين المنتخبين ومن يدور في فلكهم جني ثمار استثماراتهم الانتخابية عن طريق تحويل المؤسسات والإدارات إلى قطاعات مربحة: نهب الملك العمومي، التحكم في الرخص وإسناد المشاريع، التحكم في التمويلات، التوقيع المفوض، خلق شركات موازية باسم الزوجة أو الأبناء أو الأصدقاء، الاجتهاد في تنظيم مهرجانات ملتهمة للميزانيات، التلاعب في المشتريات (تجهيزات إلكترونية، سيارات، أسفار...)، إعادة بناء النافورات وتزيين الساحات العمومية والكورنيشات للمرة الثانية والثالثة والرابعة... توزيع الريع على بعض الموظفين وبعض "منظمات المجتمع المدني"، التصديق على مشاريع تحمل في طياتها بذور الفساد، غياب أو إضعاف أجهزة المراقبة (بفضل الترهيب أو بفضل الإغراءات)، إلخ. إن الفساد عموماً يظهر ويتوسع كنتيجة لعجز النشاط السياسي عن تلبية رغبات السياسيين المحترفين، لذلك نراهم يبحثون عن تقوية ثروتهم الخاصة بواسطة ممارسة السلطة وتشكيل بنيات متواطئة تتجدد وتعيد إنتاج نفسها مع قرب الانتخابات. وهو يكاد يكون، أي الفساد، تعبيراً عن معادلة: الفساد=الاحتكار+حرية التصرف-المسؤولية. الاحتكار هنا هو احتكار مزدوج: احتكار سلطة المال (الثروة) واحتكار السلطة الرمزية (السياسة)؛ وحرية التصرف دليل على غياب عناصر الردع (الأخلاقي والقانوني) وغياب معاقبة الناخبين للمنتخبين حيث يكتفون بضمان سوق شغل تنشط مرة كل خمس أو ست سنوات ولمدة محدودة جداً هي مدة الحملة الانتخابية. وراء تطور هذه البنية الحاضنة للفساد توجد عدة عوامل، إضافة إلى المعادلة السياسية السابق ذكرها، لعل أهمها: - عامل السياق العام، إذ يعتبر الفرد الفاسد والمفسد جزءاً من النظام الفاسد، حيث يكتفي، أي الفرد الفاسد، باقتفاء أثر الآخرين كجزء من ملاءمته للنظام وكجزء من مراعاة دينامية السوق، إذ لابد، لضمان الاستمرار (في الحزب كما في السلطة المنتدبة) من المشاركة في توزيع ريع الفساد وإعادة هذا التوزيع؛ - العامل التربوي: هذا العامل يستدعي كمرجعية مجموعة مبادئ أخلاقية من المفروض أن يتسلح بها المرء، إذ في غياب هذه المبادئ وغياب السلوك المدني يتحول الفرد إلى كائن هش غير قادر على مقاومة إغراءات الفساد؛ - عامل التجربة المعاشة: إن ملاحظة الفرد للفوارق الطبقية وانتشار اللامساواة داخل المجتمع وغياب تكافؤ الفرص يدفعه إلى سحب ثقته من النظام ويتحول تدريجياً إلى عنصر فاسد؛ - عامل التمييز في الوظائف، خصوصاً ما يتعلق بالفوارق الشاسعة في الأجور، تدفع الكثير من الموظفين إلى "تدوير" أجورهم عن طريق الانخراط في أنشطة فاسدة مكملة للنشاط القانوني والشرعي. 3. عواقب الفساد: إذا كان الفساد أصبح تجارة رائجة ومربحة يلهث وراءها الكثير من السياسيين الفاسدين والمفسدين، وإذا كان ريع الفساد يوزع ويستعمل كآلية للدعم السياسي الضروري لاستمرارية الحصول على ريع الفساد، فإن الوجه الآخر للفساد مروّع ومدمّر، ليس فقط للعمال والفقراء والطبقات الوسطى والمستثمرين النزهاء، ولكن للوطن ككل. إن تبرّم الأحزاب السبعة المشار من الفساد والمفسدين والدعوة إلى محاربة الفساد والقضاء عليه، والذي أشرت إليه في بداية هذا الكلام، لا يعدو أن يترجم، بدرجات متفاوتة، ما يسمى بمفارقة الكذاب (الكذّاب إذا قال لك: "صدقني، ما أقوله لك صحيح" فلن تصدقه لأنه كذّاب، وإذا قال لك: "ما قلته لك كذب فلا تصدقني"، لن تصدقه كذلك، فالكذّاب لا يحتمل الصدق سواء كذب أو قال الحقيقة)! ونتيجة للمفعول اللاشعوري لهذه المفارقة في ذهنيتنا نحن المغاربة، نميل عموماً إلى تقليص ما يسمى في علم النفس بالتنافر المعرفي réduction de la dissonance cognitive، حيث عندما نكون أمام معطيات متناقضة (إيجابية وسلبية) حول نفس الشيء، نميل إلى تقليص التنافر المعرفي، إما بتجاهل العناصر الإيجابية (فنعمم ونقول: "كلهم بحال بحال" أو "كلهم شفّارة")، وإما العكس، نميل إلى تجاهل العناصر السلبية فنثني على سياسيينا رغم تورطهم في أنشطة فاسدة (نعلل ذلك بقولنا: "كايشفر ولكن كايدير"، "كولشي كايشفّر، ومالو هو"!( كما للفساد عدة أوجه فإن له عدة عواقب أيضاً. سأكتفي بذكر أهمها فقط: - إن أهم وأخطر ما ينتج عنه الفساد هو تغلغل ممارسات الفساد داخل النسيج المجتمعي إلى درجة قبوله اجتماعياً والتساكن معه، وإلى درجة أننا أصبحنا نميل إلى فرض عمولات الفساد إن كنا في مواقع السلطة، أو أننا نميل إلى التسول إن كنا خارج هذه المواقع. النتيجة: تضرر أخلاقيات الجهد والعمل والمنظومة القيمية عموماً؛ - التواطؤ الكبير بين الفساد السياسي والفساد الاقتصادي يدفع الحكام إلى تخفيض الموارد الجبائية على المداخيل العليا، وتعويضها باللجوء إلى سن مزيد من الضرائب المباشرة، إلى درجة أن الكثير من المؤسسات الدولية تقر بأن صغار الناس هو فقط من يؤدون الضرائب، وبهذا يساهم الفساد في تدني القدرة الشرائية لأغلبية المواطنين والحد من تطور الطبقات المتوسطة؛ - الالتفاف على الضرائب يُفسد اندماجية الأنظمة الجبائية بحيث نجد في كثير من الأحيان أن الشركات المواطنة والمواطنين الملتزمين بالحد الأدنى من أخلاقيات المعاملات يعاقبون، بينما يجازى من لا يتورع في خرق القوانين (إعفاءات ضريبية، تسهيلات إدارية، الحصول على عقارات بأثمنة رمزية، إلخ)؛ - من عواقب الفساد أيضاً تراجع الأنشطة الاقتصادية المهيكلة وتزايد الاقتصاد غير المهيكل (غير الخاضع للضرائب)، سواء الاقتصاد غير المهيكل المدر للملايير (التهريب الكبير، تجارة المخدرات، تجارة الرقيق الأبيض...) أو الاقتصاديات الصغرى غير المهيكلة (الحرف والخدمات الصغرى)؛ - الفساد إذن يُضعف النظام الاقتصادي ويعرقل الاستثمارات المنتجة ويشجع الاقتصاد غير المهيكل، مع ما يتبع ذلك من ظهور مجتمع أقل عدالة وأقل انفتاحاً؛ - الفساد يعيق الاستثمار في الرأسمال الأساسي للمواطنين: الاستثمار في التعليم والصحة؛ وحتى في حالة وجود استثمارات عمومية مهمة، فإن انتشار الفساد يجعل النتائج المحصل عليها دون أهمية مثل هذه الاستثمارات (نموذج الاستثمار في "البرنامج الاستعجالي" أو "برنامج التلقيح" أو في دعم البنية التحتية الرياضية)؛ - وأخيراً، وهذا هو الأهم، فإن الفساد يؤدي في نهاية المطاف إلى فقدان المواطنين لثقتهم تدريجياً في الدولة والمؤسسات المنتخبة، إلى درجة أن اللعبة الانتخابية لم تعد تستهوي عدداً كبيراً من المغاربة، حتى لا أقول الأغلبية منهم. هناك علاقة عكسية بين الفساد السياسي والمشاركة السياسية، وأن حل هذه المعادلة لا يمكن أن يتم في ظل ازدواجية نظام سياسي قانوني وآخر واقعي، بل في ظل نظام لا يتجزأ: نظام الحق والقانون. 4. الحل: شق حلقة الفساد المفرغة: عندما يتحول الفساد إلى بنية قائمة الذات تخترق النسيج المجتمعي والسياسي معاً، فإن البحث عن حلول لاجتثاث جرثومة الفساد يصبح واجباً لا يقل أهمية عن واجب الدفاع عن الوطن. هذا الواجب يمر عبر مشاركة أكبر عدد ممكن من القوى السياسية النزيهة وأصحاب الضمائر الحية. ومن موقعي كمواطن غيور على وطنه، أجد نفسي ملزماً للمساهمة في طرح النقاش، والعمل، قصد الإمكانيات، في المؤسسات (الموجودة والبديلة) التي يمكن أن تصلح كقاعدة للنقاش والعمل. إن شق حلقة الفساد المفرغة معناه تجاوز الفساد والقضاء على البنية الحاضنة له أساساً، وهو ما لا يمكن أن يتأتى إلا وفق منطق الانتقال الديمقراطي الذي يعني: - الانتقال من مجتمع استبدادي إلى مجتمع ديمقراطي؛ - الانتقال من مجتمع مغلق إلى مجتمع مفتوح؛ - الانتقال من مجتمع عمودي إلى مجتمع أفقي؛ - الانتقال من مجتمع مركزي إلى مجتمع تشاركي. إن القيام باجتهادات نقدية لا يعني البتة إنكار بعض المحاولات المؤسسية التي ترمي إلى تخليق الحياة العامة وإلى الحد من آفة الفساد، غير أن التعبير عن النوايا لابد أن يصاحبه قرار سياسي قوي: استقلالية سلطة القضاء، إذ على هذه يتوقف إعمال مبدإ "لا المسؤولية بدون المحاسبة" ومبدإ "عدم الإفلات من العقاب"، فبدون هذا الركن الأساسي ستبقى محاربة الفساد مجرد شعار. شق الحلقة المفرغة للفساد يمر أيضاً عبر إعادة النظر في "العمل السياسي" وفق قواعد مبنية على أساس نموذج جديد للمناضل "الحزبي": نموذج يضع قطيعة مع أساليب العمل السياسي التقليدي (ثنائية زعيم/مناضلين)، ومع تقية مريدي الرأسمالية الليبرالية-المتوحشة الإسلاموية، ومع انتهازية يسار حكومة التناوب التوافقي. إن قوة وطنية تتشكل على أساس تحالف استراتيجي بين مكونات اليسار هي القادرة، ذاتياً وموضوعياً، على شق الحلقة المفرغة للفساد. يبقى هذا الطرح مجرد سيناريو إن لم تتفاعل كل القوى غير المستعجلة لقطف ثمار التغيير، فجرثومة الفساد ممتدة جذورها في المجتمع، ويبقى العمل الثقافي من الرهانات الكبرى لاجتثاث الجرثومة، وهذا العمل لا يمكن أن يقوم به إلا مجتمع مدني قوي ومستقل بذاته، ذو منظور استراتيجي، مهيأ للعب دور "الوطني" الجديد: دور المثقف الجمعي القادر على تغيير المعادلة. يقول لطفي بوشناق في أغنيته "أنا مواطن": "خذوا المناصب والكراسي، لكن بربي خلّوا لي الوطن"!