لقد أصبح من قدر بلادنا أن تعيش في دوامة المناظرات التي تبدع في التوصيات، والحملات التي يغلب عليها الإشهار والشعارات، كل ذلك يستنزف الجهد والمال ويدر الرماد في العيون، ولا يزيد الأمر إلا فقدانا لثقة الشعب في الإصلاح والتغيير. ولقد كان آخر إبداعات الحكومة إطلاق حملة من أجل تخليق الحياة العامة كجزء من التزامات الحكومة التي وعدت بها في تصريحها وبرنامجها، بعدما وصل الفساد إلى الأعماق على كل الأصعدة، ولم يفلت أي ركن أو مؤسسة أو فضاء.. من ويلاته وسيطرة رموزه ومروجيه والمستفيدين منه. لقد تحول الفساد إلى ثقافة ومؤسسات، وتغيرت منظومة القيم في المجتمع، وضعفت المحاسبة ومكث العقوبات، بل في أحيان كثيرة يكرم المفسدون ويجازون بمواقع ومناصب أفضل كلما فاحت رائحة إفسادهم فيتم إعفاؤهم حتى تمر العاصفة، فأصبحت البلاد ضحية لوبيات الفساد توجهها إلى التخريب الشامل، والذي لا تنفع معه المناظرات ولا الحملات، وإنما يحتاج إلى ثورة حقيقية يقودها من هم قدوة للمجتمع في سلوكهم واستقامتهم ليتحقق التخليق الحقيقي. إنهما أمران متلازمان لا ينفصلان: الثورة والقدوة ضرورتان لاقتلاع جذور الفساد وقيادة التغيير نحو الإصلاح. إنها الثورة التي تغير منظومة القيم ليعود الاعتبار والالتزام في كل ما يتعلق بالاستقامة والنزاهة والأمانة والصدق والفضيلة وأداء الواجب وإقامة الحق والعدل والإنصاف. ثورة تغير أنماط التفكير والسلوك والعلاقات تصلح المواطن في أعماقه ونفسه وتصرفاته، كما تصلح المؤسسات في ذاتها والعلاقات السائدة بين العاملين فيها وعلاقاتها مع محيطها، ثورة تخلق ثقافة تمجيد وتكريم الاستقامة وحسن التدبير والترشيد والتنافس الشريف والكسب الطيب والحلال والاعتزاز بكل ذلك بدل العكس الذي ابتلي به المجتمع. ثورة تجعل الغشاشين والمنحرفين والمختلسين والكسالى يخجلون ويتوارون إلى الخلف ويكفون عن إدارة شؤون البلاد. إنها ثورة تصل إلى الأعماق لدى المواطن والمجتمع والدولة، مثل ما فعل الفساد. تتظافر فيها الجهود التربوية الإيمانية والإصلاحات الاجتماعية والتعديلات القانونية والتشريعية والتأهيل المؤسساتي والإجراءات التحفيزية من جهة والعقوبات الزجرية من جهة ثانية والتأطير الإعلامي والثقافي ينخرط فيها التعليم والإعلام والوعظ والإرشاد والمجتمع المدني والتأطير السياسي.. فهي قضية أمة بكاملها وتتعبأ ضد الفساد بكل مكوناتها ومؤسساتها وطاقاتها. غير أن هذه الثورة ضد الفساد، ومن أجل تخليق الحياة العامة، لن يكتب لها النجاح إلا إذا قادها من هم أهل لقيادتها، أي أولئك الذين يصدقون في أقوالهم ويفعلون ما يؤمرون به وينتهون عما ينهون عنه، ويلتزمون هم أولا بكل ما يهدفون إليه وتخليق أولئك الذين تحرروا من ثقافة الفساد ولوبياته وقاوموا إغراءاته وسلمت سيرتهم من الشوائب والكبائر والموبقات والفضائح المالية والاجتماعية والسياسية.. أولئك الذين يقتدي بهم الناس ويتأسون بسلوكهم. إنه لا يعقل ولا يجدي أن يتزعم حملة التخليق سياسي نصبته الإدارة وزورت لصالحه أو أفسد حزبه ومؤسساته، أو وزير حول إدارته إلى ضيعة خاصة لأقربائه وقبيلته وحزبه، أو رجل أعمال لا يؤدي ما عليه للعمال ولا للدولة، أو صحفي يتاجر بمقالاته ويروج للفساد في منبره وينطلق من الإشاعة في تحاليله وآرائه، أورجل قانون لا يلتزم به ولا يعدل في أحكامه. إن هؤلاء وأمثالهم، لا يجد عملهم صدى إيجابيا لدى مواطن لأنه فقد الثقة فيهم، لأن الله لا يصلح عمل المفسدين، ولأنه كبر مقتا عند الله أن يقولوا ما لا يعملون. فكيف تثمر حملاتهم إصلاحا وبرامجهم خيرا وشعاراتهم واقعا، وهم أول من يخالف المبادئ وينشر الفساد ويتعامل به ويذبح الأخلاق الفاضلة ويتعايش مع الرذيلة بل إن منهم من يتزعم حملات التخليق قياما بواجب المنصب والوظيفة وليس اقتناعا، أو تسترا على ملفات الفساد الكبرى أو استجابة لضغط اجتماعي وشعبي أو ظرف سياسي وانتخابي ليس إلا. فالوطن يحتاج من أجل التخليق ومحاربة الإفساد، إلى ثورة حقيقية وعميقة ينخرط فيها تيار واسع من الشرفاء والصالحين والغيورين، ويقودها الصادقون الملتزمون، وإلا ستكون مجرد حملة تنتج شعارات كما المناظرات تنتج توصيات. عبد العزيز رباح