بحضور لفيف من المثقفين والمبدعين، احتضنت المكتبة الوطنية بالرباط، لقاء للاحتفاء بالروائي والناقد المغربي محمد برادة، الحائز على جائزة كتارا للرواية العربية هذه السنة عن روايته "موت مختلف"، بمناسبة صدور مؤلّف جماعي موسوم بعنوان "البحث عن الذات بين جيلين"، يتحدث عن تجربة المحتفى به، شارك في تأليفه مجموعة من الكتاب المغاربة والمشارقة. الكتاب، الخامس من نوعه، هو للتعريف بالكتّاب المغاربة الذين تَرَكوا بصمات في الثقافة المغربية وقدموا عطاءات جليلة لها، كما قال الناقد محمد الداهي الذي أورد في الشهادة التي قدمها في حق برادة أن هذا الأخير "طوّع النظريات النقدية وجعل النقد يخدم القضايا الثقافية، وحوّل النقد إلى صناعة إبداعية، وسعى إلى تحقيق فهم أعمق للثقافة من خلال المزاوجة بين التاريخ والمجتمع". نجيب العوفي، كاتب وناقد، وصف محمد برادة ب"المبدع الذي لن يتكرر"، قياسا على عنوان نصّه السردي "مثل صيف لن يتكرر"، مضيفا: "ما أظن أن محمد برادة قادر على التكرار والنسخ، لأنه نسيج وحده، قد يمتد ويتناسق عبر الأجيال، لكنّ صيفه الدافئ لن يتكرر". واستطرد العوفي أن برادة هو "أحد البناة المؤسسين للجامعة المغربية، وصانع وراعي الأجيال الأدبية والنقدية الحديثة بالمغرب غداة الاستقلال"، مُبرزا أنه جعل من اتحاد كتاب المغرب، وهو من مؤسسيه وكان رئيسا له، قلعة رمزية حديثة وملتزمة منافحة عن قضايا الحرية والديمقراطية. وتحدث سعيد يقطين، ناقد وكاتب مغربي، في مستهل شهادته عن محمد برادة عن فضيلة الاعتراف التي تأفل يوما بعد يوم في المشهد الثقافي المغربي، قائلا إنّ "التكريم لا يجب أن ينتهي بانتهاء اللحظة التي يقام فيها، بل ينبغي مواكبة هذا التقليد ليظل أثره مستمرا، كما هو معمول به في البلدان المتقدمة". وتطرق يقطين إلى مسألة جدل الثقافي والسياسي في تجربة برادة، منطلقا من لحظتين؛ الأولى نصه "جيل موثور"، الذي مهّد لبروز رَجُل، والثانية هي صدور روايته "لعبة النسيان"، التي كانت تمهيدا لرجل آخر، "حيث انتهت السياسة وبقي الرهان الثقافي أهم من الرهان السياسوي". وفي كلمة مرتجلة عاد محمد برادة إلى مرحلة بداياته، حيث عاش بين جيلين مخضرمين عاشا فترتين أساسيتين في مسار المغرب، هما ما قبل الاستقلال وما بعده، قائلا: "كنّا جيلا مُسيّسا منذ الصغر، حيث درست في مدرسة تابعة للحركة الوطنية، وكانت برامجها التعليمية تفسح للغة العربية حيزا أساسيا، وكنا نتلقى أحاديث من قيادات سياسية في حزب الاستقلال تحدثنا عن القضية الوطنية ونحن صغارا، وكان ذلك يؤدي بنا إلى أن نلقي بأنفسنا في المظاهرات المنظمة بمدينة الرباط". وأضاف برادة أن هذا التسييس المبكر جعله وأقرانه يعرفون العالم من خلال اللغة العربية التي كانت فرنسا تعمل على تهميشها، وتأخذ لديهم صفة القيمة المطلقة، وكانوا يقرؤون الإبداعات المشرقية، وخلفت في نفوسهم نزوعا نحو الكتابة، معتبرا أنّ هذا الجيل، الذي وصفه ب"الجيل الموثور، عاش بين ذاكرتين؛ ذاكرة ما قبل الاستقلال التي شكلت نوعا من الإجماع الوطني، وبعد الاستقلال بدأت تنمو، عقب الصراعات السياسية والاجتماعية، لتأخذ منحى المطالبة بتغيير الحياة الاجتماعية والقيم الماضوية وتغيير العلاقة بين الفرد والسلطة. واعتبر برادة أن تيْميم وجهه شطر المشرق العربي، كغيره من أقران جيله، كان طبيعيا، حيث تفتّحت أعينهم على غنى اللغة العربية باكتشاف لهجات أخرى، قائلا: "اكتشافي اللهجة المصرية أحدث عندي رجة عميقة، لأن هذه اللغة التي تعلمتها هي أوسع بكثير مما تعلمته، لأنها حينما تصبح أداة للتواصل حيث تصير لغة التواصل في الإدارات والتلفزيون وغيرها... تأخذ أبعادا أعمق خدمة لنا". وتحدث برادة عن مرحلة عودته إلى المغرب وعن العمل الذي قام به في سبيل النهوض بالثقافة المغربية، وقال: "أمضيت عقدا أو أكثر في التبشير بضرورة خلق أدب مغربي معاصر. فقد كنّا نكتب شفاهة، نتكلم كثيرا ونكتب قليلا"، مُبرزا أنه اقتنع بأن الكتابة تفرض نفسها، بعدما لاحظ أن ما تقوم به الأجيال السابقة من تنظيرات شفوية لا يبقى.