بين قيود المشرع وإستراتيجية القطاع الوصي لا يختلف اثنان في كون انتشار معدلات الجريمة في المغرب بات يشكل مصدر الإزعاج رقم 02 للمواطنين بعد القوت اليومي؛ وما يؤكد قولنا هذا هو مؤشرات الإحصائيات الدولية المعروفة بحيادها ودقتها، إذ صنّف المغرب في النصف الأوّل من العام الجاري تبعا لمؤشر موقع "ناميبو" للإحصاءات في الرتبة 43 عالميا والسادسة عربيا من حيث نسبة انتشار الجريمة. وعندما نتحدث عن انتشار الجريمة فالعارفون بهذا المصطلح، من علماء الاجتماع وفقهاء القانون والمهتمين بالشأن السجني، يربطون مباشرة بين مؤشر الجريمة وبين درجة الردع التي تلعبها العقوبات بشتى أنواعها؛ وهي الدرجة التي تختلف من مجتمع لآخر، ومن شخص لشخص، تبعا لعوامل يتداخل فيها ما هو اقتصادي وثقافي واجتماعي ونفسي. وفي المغرب يمكن القول إنّ العقوبات المنطوق بها في محاكمنا فقدت خاصية الردع التي شرعت من أجلها تلك العقوبات بشكل شبه كلّي، وما الدراسات التي تُنشَر بين الفينة والأخرى من ذوي الاختصاص حول الارتفاع الصاروخي لحالات العود إلاّ دليل واضح على فقدان تلك العقوبات لخاصية الردع. ولمن يرى عكس ذلك، أو من سيتهمنا بالمبالغة فندعوه إلى قراءة عناوين الجرائد اليومية التي أصبحت لا تخلو صفحاتها من أخبار عن اعتداءات رهيبة ودموية حتى داخل المؤسسات العقابية المفروض فيها حماية المجتمع، والتي كان آخرها مجزرة سجن مكناس التي راح ضحيتها موظف يعمل بالمندوبية العامة للسجون، مع إصابة زملائه إصابات متفاوتة. وهذا لا يعني أنّ المؤسسات السجنية أصبحت مُقصّرة في القيام بواجباتها، بل على العكس من ذلك، فهي الأخرى أصبحت ضحية عوامل متعددة يتداخل فيها التشريعي بالحقوقي، دون أن نغفل العامل الأهم، وهو البعد الإستراتيجي الذي تعتمده المندوبية العامة في برامجها، وهي المحاور التي سنتطرق لها بالتحليل بغية الوقوف على مكامن الخلل في منظومة العدالة المغربية في زاويتها العقابية، وخاصية الردع على وجه الخصوص. لا نبالغ إذا قلنا إنّ المؤسسة التشريعية بالمغرب تتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية في انتشار ظاهرة الجنوح وتفشيها في المجتمع المغربي، على اعتبار أنّ التشريعات الناجحة هي تلك التي تلعب دورا هاما في عملية تغيير بنية المجتمع الجديد، وتساهم في الوقاية من آفة الإجرام والحدّ منها في ذلك المجتمع، إذ من العيب أن نجد المشرع المغربي قد حافظ على نفس التشريعات الجنائية رغم التعديلات المتكررة في القانون الجنائي وقانون المسطرة الجنائية، اللهم بعض الروتوشات – إذا صح التعبير – التي اقتصرت على إدخال بعض الضمانات القانونية لفائدة الجانحين، كاستجابة للمطالب الدولية بناء على الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي صادق عليها المغرب؛ في حين ظلت التشريعات الجنائية المغربية محتفظة بنواقصها الرئيسية التي تحول دون بلوغ الغاية المرجوة منها، بدءا بغياب خاصية التدرّج في العقاب، ومرورا بالاستمرار في اعتماد الاعتقال الاحتياطي؛ وبالتالي إثقال كاهل المؤسسات السجنية وكاهل الدولة بالنفقات. إذ يشكّل الاعتقال الاحتياطي المعضلة الرئيسية في فشل برامج المؤسسات السجنية المتعلقة بالتأهيل لإعادة الإدماج، وهي النقطة التي سنعرج عليها باستفاضة لاحقا. كما يلاحظ ضعف كبير على مستوى مقاربة النوع، فرغم الارتفاع المتكرر لعدد كبير من الأصوات المطالبة بإدخال مقاربة النوع في السياسة الجنائية، فإنّنا لازلنا نجد أنّ المشرع المغربي ظل مهملا لهذه القاعدة ومتجاهلا لها، ويمكن أن نستدلّ على ذلك من خلال الوقوف على مقتضيات الفصل 492 من القانون الجنائي المغربي، الذي ينصّ بخصوص جريمة الخيانة الزوجية على أنّ تنازل أحد الزوجين لشريكه المتورط في الخيانة يضع حدا للمتابعة، وهو ما تنتقده عدد كبير من الهيئات النسائية والحقوقية، على اعتبار أنّه يعتبر فصلا جاء ليكرّس ظاهرة التمييز بين الجنسين، إذ المعروف أنّ المجتمع المغربي يعتبر مجتمعا ذكوريا بامتياز، وأنه في معظم الحالات تتنازل الزوجات لفائدة أزواجهن بغية الحفاظ على الأسرة، وخوفا من نظرة المجتمع للزوجة إذا كانت سببا في تفكك الأسرة، والعكس غير صحيح. فجلّ الحالات التي تكون فيها الزوجة طرفا في جريمة الخيانة الزوجية يصرّ الزوج على المتابعة وإيقاع العقاب؛ وبالتالي يساهم غياب مقاربة النوع في توجيه انتقادات لاذعة للمشرع المغربي. كما أن الإبقاء على عقوبة السجن في جرائم الخيانة الزوجية يساهم في اكتظاظ السجون، وهي العقوبة التي تفادتها التشريعات الجنائية التي ينهل منها المغرب، فالمشرع الفرنسي مثلا يقتصر على تمتيع الطرف المشتكي بامتيازات خلال سلوك مسطرة الطلاق، دون اعتقال الطرف المشارك في الجريمة. وهذه تبقى عينة من نماذج متعددة لأوجه غياب المقاربة النوعية في السياسة الجنائية المغربية، وقد اخترتها نظرا لارتباطها بصلب موضوعنا المتمثل في فشل سياسة إعادة الإدماج جراء مساهمتها في تعميق آفة الاكتظاظ داخل المؤسسات السجنية. هذه الآفة التي أسالت الآلاف من الأقلام، وملأت صفحات المئات من الجرائد والدراسات والكتب، دون أن تحرّك الوزارة الوصية ساكنا لوقف نزيفها. والتقارير الدولية العديدة الصادرة في هذا الشأن، والتي كان آخرها تقرير الخارجية الأمريكية لسنة 2016-2017، تشير إلى أن الاعتقال الاحتياطي بالمغرب يشكّل خرقا واضحا وانتهاكا جسيما لحقوق الإنسان وحقوق المتهمين، وأنّ الدولة المغربية تبقى مقصّرة تقصيرا لا مبرّر له في هذا الجانب، خاصة أن عددا كبيرا من المعتقلين الاحتياطيين تتوفر فيهم الضمانات الأساسية للحضور إلى الجلسات. كما أن عددا كبيرا منهم أيضا هم ضحايا مقالات صحافية أو برامج انتخابية ومصالح حزبية ضيقة، إذ غالبا ما تحاول الحكومات المتعاقبة إظهار محاربتها للفساد فتلجأ إلى توجيه أصابع الاتهام لأفراد كانوا حديث وسائل الإعلام أو مواقع التواصل الاجتماعي. إنّ اكتظاظ المؤسسات السجنية اليوم بهذا الشكل الذي يطرح العديد من علامات الاستفهام يشكّل هو الآخر عائقا من العوائق التي تحول دون نجاح برامج التأهيل لإعادة الإدماج، إذ يصبح من المستحيل على مؤسسة سجنية تتعدى طاقتها الاستيعابية بأربع أو ثلاث مرات أن تنفّذ برامجها التربوية والتأهيلية بالشكل المطلوب، وغالبا ما يصبح شغلها الشّاغل أمام هذا الاكتظاظ هو ضمان الأمن لتلك الأعداد المتزايدة من السجناء والحفاظ على النظام داخل المؤسسة. ويساهم في استفحال المعضلة النقص الكبير على مستوى العنصر البشري العامل بالمؤسسات السجنية؛ وهو نقص ناتج عن اللامبالاة التي تبديها الحكومات المتعاقبة لنداءات المندوبية العامة للسجون بضرورة تخصيص مناصب شغل كافية لهذا القطاع، قصد تغطية حالة النقص الكبيرة في عدد موظفي القطاع، خصوصا مع الارتفاع المتزايد لبناء مؤسسات سجنية جديدة وارتفاع الساكنة السجنية. كل هذه النقاط تجعلنا نتساءل عن الجدوى من سنّ تشريعات من قبيل الإفراج المقيّد بشروط، والسراح المؤقت، والصلح والوساطة، إذا كانت ستبقى مجرد نصوص جامدة لا يتم تفعيلها؟. فعندما نطالع التشريع الفرنسي نجده يعتمد الإفراج المقيد بشروط بشكل تلقائي، أي إنّ قاضي تطبيق العقوبات يفعّل مواد هذا الامتياز بشكل عام مع جميع السجناء، وفق قواعد مضبوطة ونظام مدروس، يساعد على عملية إعادة الإدماج في المجتمع، إذ يتم إخضاع السجناء الذين توفرت فيهم الشروط القانونية للاستفادة من هذا الامتياز إلى دورات دراسية واختبارات نفسية، قصد الوقوف على مدى جاهزيتهم للاندماج من جديد في المجتمع، ومدى الخطورة التي قد يشكلها بعضهم على هذا المجتمع. في حين نجد أنّ الجهاز القضائي المغربي يعطّل هذا الامتياز بشكل شبه كامل، اللهم في بعض الحالات النادرة، رغم توفر الشروط القانونية والضمانات المادية والاجتماعية في عدد كبير من السجناء. كما أن استمرار تأثر الجهاز القضائي بالموجات الارتدادية للحراك الذي يشهده المجتمع يجعله يقع في أخطاء جسيمة، غالبا ما يكون المواطن المغربي ضحية لها؛ إذ يلاحظ أنه كلما طفت على سطح المجتمع ظاهرة من الظواهر، أو واقعة من الوقائع الاجتماعية، إلاّ وتفاعلت معها العدالة بشكل عشوائي وارتجالي، بشكل تحولت معه إلى ما يشبه السوط الذي يجلد به المجتمع كل ظاهرة تثير اشمئزازه أو تمس بعض معتقداته وأعرافه. ويظهر ذلك من خلال إبقاء المشرع المغربي على فصول معاقبة الإفطار العلني في رمضان، وعقوبات الفساد والدعارة، وعدم استبدالها بعقوبات بديلة غير حبسية تكون أكثر جدوى وفعالية في تحقيق الغاية المرجوة من القانون، بدل تكريس سياسة اعتماد الحبس كعقوبة وحيدة. وتبقى هذه مجرد نماذج معدودة لأوجه قصور التشريع المغربي، وأثرها الواضح على خاصية الردع في العقوبات السالبة للحرية. وكما سبق وأشرنا في عنوان مقالنا هذا فالإستراتيجية التي يعتمدها القطاع الوصي في تنفيذ العقوبات السالبة للحرية هي الأخرى تلعب دورا هاما في نجاح أو فشل خاصية الردع، إذ إنّ الأصل في العقوبات السالبة للحرية هو رجوع الجناة ودفعهم إلى العدول عن تكرار أفعالهم المخالفة للقانون، وجعلهم نموذجا لباقي فئات المجتمع. ومتى غابت هذه الخاصية من المؤسسات السجنية فإنّها تتحوّل إلى مؤسسات للاستراحة والاستعداد لأنشطة إجرامية أخرى قد تكون أكثر خطورة وتطورا، نتيجة تلاقح المجرمين وتبادل الخبرات الإجرامية. ولكي تتحقق خاصية الردع المطلوبة يتوجب أن يوفّر المشرّع ومعه المجتمع الأرضية المناسبة للساهرين على قطاع السجون، وأن يوفر لهم أيضا هامشا كافيا من الاستقلالية يساعدهم على التعامل مع هذه الفئة المستعصية من المجتمع. كما أنّ الجهاز الساهر على المؤسسات السجنية ينبغي أن تتوفر فيه المؤهلات والكفاءات التي من شأنها تسطير برامج حقيقية تراعي الخصوصية المغربية، وتتطور مع تطور عقلية الجانح المغربي، وتطور الجريمة بالمجتمع؛ وهو الأمر الذي نجده غائبا للأسف في جهازنا المغربي، إذ يلاحظ أنه رغم المحاولات المتفاوتة للتركيز على الشق التربوي والإدماجي في برامج المندوبية العامة للسجون، إلاّ أنها تبقى محاولات محدودة ومحتشمة ولا تغوص بالعمق الكافي في جوهر فلسفة إعادة الإدماج. ويمكن أن نستشهد على ذلك من خلال مجموعة من الزوايا، أولها استمرار المندوبية العامة في تطبيق نفس البرامج التربوية والتأهيلية الموروثة عن الإدارات السابقة؛ برامج ثقافية دورية، ومسابقات رياضية وفنية وأدبية، مع بعض الخطوات الإيجابية تتمثل في توسيع دائرة المستفيدين من الأوراش الحرفية، ولكنها تبقى خطوات محدودة، إذ لم يتم بعد عقد العزم على أخذ خطوات أكثر جرأة، كالعمل على تحويل المؤسسات السجنية إلى ورشات ووحدات إنتاجية، من خلال عقد اتفاقيات وشراكات مع القطاعين الخاص والعام، وإشراك اتحاد مقاولات المغرب في سياستها الإدماجية؛ فمن شبه المؤكد أنّ المقاولة المغربية ستعلن انخراطها في أوراش من هذا القبيل، خاصة أمام الامتيازات التي ستمنح لها من تخفيضات ضريبية ومجانية الطاقة ورخص اليد العاملة. وأكاد أجزم من خلال التجربة المتواضعة في ميدان السجون أنّه لا يمكن أن نتحدث عن إنجاح حقيقي لبرامج إعادة الإدماج دون جعل نقطة تشغيل السجناء نقطة مركزية أو محورية. فالسجين الذي يقضي عقوبته الحبسية في ورشة أو وحدة إنتاجية سيكون أكثر استعدادا وقابلية للاستجابة لبرامج الإصلاح والتهذيب. كما أنّنا سنضمن أيضا أنّ جميع السجناء غير الممتهنين لأيّ مهنة سيغادرون المؤسسات السجنية وقد اكتسبوا مهنا تمكنهم من الاندماج بشكل سلس في المجتمع. وبالطبع فإنجاح هذه المشاريع والطموحات، وتحقيق الإصلاحات المرجوة، يقتضي أيضا أن تعتمد المندوبية العامة لإدارة السجون على أطر متمرسة ميدانيا، وذات أفكار خلاّقة ومبدعة، إذ لا يعقل أن يستمر الاعتماد على أطر أثبتت فشلها وعدم صلاحيتها لتولّي زمام الأمور؛ وهو ما يستدعي وضع إستراتيجية حديثة في تعيين الأطر وتحديد المسؤوليات، كما هو معمول به في باقي الدول المتقدمة في مجال السجون؛ ففرنسا مثلا تعتمد تكوينا خاصا لا يقلّ عن سنتين لمديري المؤسسات السجنية، ولا يتم تعيينهم بعد ذلك إلاّ بعد إعداد مشاريع نظرية قابلة للتحقيق على أرض الواقع، يثبتون من خلالها أهليتهم لتلك المسؤوليات والمراكز. فوضع أطر لم يسبق لها نهائيا أن اشتغلت في الوسط السجني، أو تعاملت مع السجناء بشكل مباشر، غالبا ما ينتهي بالفشل الذريع أو بكوارث خطيرة لا قدّر الله. *كاتب وباحث في العلوم السجنية