الكلالة ببساطة القرآن ووضوحه هو الميت الذي لم يترك ولدا ذكرا أو أنثى ، فالله تعالى قال في شأنها بعدما كثر سؤالُ الصحابة عنها : ( يستفتونك ، قل الله يفتيكم في الكلالة : إن امرؤ هلك ليس له ولد) آخر آية من سورة النساء . وعلى الرغم من وضوح كلام الله ، فإن الصحابة لم يستوعبوا ولم يفهموا ، فكانوا يشكون بعد نزول الفتوى من الله ، فيحيلهم رسول الله على هذه الآية الواضحة من غير زيادة بيان لعدم الحاجة إليه : سيدنا أبو بكر يقول فيها برأيه ولا يقف عند القرآن: عن عامر الشعبي أن أبا بكر رحمه الله قال في الكلالة: أقول فيها برأيي، فإن كان صوابًا فمن الله: هو ما دون الولد والوالد. قال: فلما كان عمر رحمه الله قال: إني لأستحيي من الله أن أخالف أبا بكر. سنن الدارمي ح 3015 وتفسير الطبري . أي أن الخليفة الأول لم يكن متأكدا من مفهوم الكلالة ، فذهب إلى أنه من مات ولم يترك ولدا ولا والدا ، اجتهادا ورأيا لا وقوفا عند الكتاب والسنة . سيدنا عمر محتار متشكك : وعَنْ سيدنا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أنه قال في خطبة بعدما سئل عن الكلالة : إِنِّي لَا أَدَعُ بَعْدِي شَيْئًا أَهَمَّ عِنْدِي مِنَ الْكَلَالَةِ، مَا رَاجَعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ مَا رَاجَعْتُهُ فِي الْكَلَالَةِ، وَمَا أَغْلَظَ لِي فِي شَيْءٍ مَا أَغْلَظَ لِي فِيهِ، حَتَّى طَعَنَ بِإِصْبَعِهِ فِي صَدْرِي، فَقَالَ: «يَا عُمَرُ أَلَا تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ؟» وَإِنِّي إِنْ أَعِشْ أَقْضِ فِيهَا بِقَضِيَّةٍ، يَقْضِي بِهَا مِنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَمَنْ لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ . في رواية : ثَلاَثٌ، وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُفَارِقْنَا حَتَّى يَعْهَدَ إِلَيْنَا عَهْدًا: الجَدُّ، وَالكَلاَلَةُ، وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا " (موطأ مالك ت عبد الباقي (2/515) ، ومسند أحمد ح 89 ، وصحيح البخاري ح 5588 وصحيح مسلم ح 567 وح 1617 ) . فهذا الخليفة الثاني يخبره رسول الله أن آية النساء النازلة صيفا هي الفيصل في مفهوم الكلالة ، ويغلظ له القول ، لكنه ظلّ متشككا محتارا إلى آخر عهد له بالدنيا . فلما استخلف رضي الله عنه ، كان يرى أن الكلالة هو من لا ولد له عملا بظاهر آية الصيف كما نصحه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكنه اضطرب حين طعن قبل موته ، رضي الله عنه ، وختم حياته بالتوقف والتفويض كما تدلّ هذه الآثار وما قبلها : الأثر الأول ( مخالفة الصديق ثم العودة إلى رأيه ) : عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: «الْكَلَالَةُ مِنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ» , قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: «الْكَلَالَةُ مِنْ لَا وَلَدَ لَهُ». فَلَمَّا طُعِنَ عُمَرُ , قَالَ: «إِنِّي لَأَسْتَحْيِي اللَّهَ أَنْ أُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ أَرَى الْكَلَالَةَ مَا عَدَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ» ( مصنف عبد الرزاق الصنعاني (10/ 304) ، وتفسير ابن منصور ح 591 ، وتفسير الطبري ، وتفسير ابن المنذر 2/295 ، والسنن الكبرى للبيهقي (6/ 368) الأثر الثاني ( مخالفة الصديق ) : عَنْ طَاوُس، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: كُنْتُ آخِرَ النَّاسِ عَهْدًا بِعُمَرَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: القَوْلُ مَا قُلْت، فَقُلْتُ: وَمَا قلت؟ قَالَ: الكَلالَةُ مَنْ لا ولد له . ( مصنف عبد الرزاق 10/302 ، والتفسير من سنن سعيد بن منصور ح 589 ، ومصنف ابن أبي شيبة 6/298 ، وتفسير الطبري ، وتفسير ابن المنذر (2/ 592) وشرح مشكل الآثار (13/ 228) والمستدرك 2/332 و4/373 ، بإسناد صحيح ، وصححه الحاكم والذهبي على شرط الشيخين ) . الأثر الثالث ( البراءة والتفويض ) : قال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : " أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ أَتَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ طُعِنَ فَقَالَ: " يَا أَبَا عَبَّاسٍ احْفَظْ عَنِّي ثَلَاثًا فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ لَا يُدْرِكَنِي النَّاسُ، إِنِّي لَمْ أَقْضِ فِي الْكَلَالَةِ وَلَمْ أَسْتَخْلِفْ عَلَى النَّاسِ خَلِيفَةً، وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي عَتِيقٌ فَقِيلَ لَهُ: اسْتَخْلِفْ . ( مسند أبي داود الطيالسي (1/30) الكلالة معضلة الصحابة : سأل رجل الصحابيَ عُقبةَ بن عامر الجهني عن الكلالة، فقال: ألا تعجبون من هذا؟ يسألني عن الكلالة، وما أعضل بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء ما أعضلت بهم الكلالة . ( مصنف ابن أبي شيبة 6/298 وسنن الدارمي (4/ 1944) وتفسير الطبري ومسند عقبة بن عامر ح 242 ) . قلت : ما أعضلت بهم الكلالة رضي الله عنهم إلا لعدم اكتفائهم بالقرآن الكريم ، وربما كان للعرف الجاهلي ضrغط على عقولهم ، أو هو تقليد الصديق والحياء من مخالفته ، فقد ذهبوا جلهم إلى أن الكلالة من لا والد ولا ولد له خلافا لآية الصيف التي قيّدت الكلالة بعدم الولد . وقد زادوا الوالد اجتهادا وكانوا فيه متشكّكين : في مسند أبي داود الطيالسي ح 60 بإسناد صحيح عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ بن شراحيل عن أبيه مُرّة قَالَ: قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " ثَلَاثٌ لَأَنْ يَكُونُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ: الْخِلَافَةُ وَالْكَلَالَةُ وَالرِّبَا "، فَقُلْتُ لِمُرَّةَ: وَمَنْ يَشُكُّ فِي الْكَلَالَةِ ؟ هُوَ مَا دُونَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ قَالَ: إِنَّهُمْ يَشُكُّونَ فِي الْوَالِدِ . ( وهو في شرح مشكل الآثار 13/224 ن وسنن البيهقي 6/369 ، ومختارة الضياء 1/397 ) ثم صار الشك يقينا بفعل التوارد على التقليد وتعطيل العقول عن تدبّر كتاب الله ، فعلماؤنا مجمعون ، بعد الاختلاف والشك والحيرة من الصحابة ، على أن الكلالة هو من لا والد له ولا ولد . ولو أنهم اكتفوا بكتاب الله وإحالة رسول الله عليه لاستحيوا من زيادة الوالد . تحذير من حديث مكذوب في الكلالة : لا يصح ما رواه أبو داود في المراسيل (ص: 271) ومن طريقه البيهقي في السنن 6/368 عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176] قَالَ: «مَنْ لَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا وَلَا وَالِدًا فَوَرَثَتُهُ كَلَالَةٌ» قال البيهقي : مُنْقَطِعٌ وَلَيْسَ بِمَعْرُوفٍ . قلت : بل هو مكذوب موضوع لنصرة المذهب وتأييد السلف، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يزيد على آية الصيف / النساء شيئا ، ليعلّم أصحابه والأمة من بعده أن كتاب الله هو الحكم العدل . درس عظيم : نأخذ مما تقدّم أن الصحابة لم يكونوا أولى منا بفهم كتاب الله تعالى وأحكام شريعته ، بل إنهم كانوا يجتهدون فيما لا ينبغي ويزيدون ما لا يسوغ . وربما اجتهد أحدهم فاستحيى الباقون أو قلّدوه دون عودة للكتاب والسنة الثابتة . وأنهم قد يجمعون إجماعا سكوتيا على الخطإ ومخالفة الكتاب والسنة . وعليه ، فالتحقيق والاجتهاد واجبان في كل المسائل بما يوافق الوحي ظاهرا أو روحا ، وبما يلائم عصرنا وظروفنا ، فلكل جيل منهاجه في فهم وتنزيل شريعة رب العالمين كما يفيد قوله تعالى المهمَل جوهره : ( لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) سورة المائدة : 48 .