هل ستضيع بلادنا، مرة أخرى، فرصة الاستحقاقات التشريعية بإعادة إنتاج نفس المشهد السياسي/الانتخابي من خلال اعتماد نفس النمط الانتخابي المعمول به، وهو نظام الدورة الواحدة؟. وبالمحصلة، تشكيل حكومة هجينة بألوان حزبية مختلفة، بدون برنامج سياسي ناظم، ولا كثلة انتخابية محددة؟ لن نثير في هذا المقام الاختلالات والمعوقات التي تساهم في إفساد العملية السياسية، وإفراغها من محتواها الديمقراطي، بل سنتناول الآلية الانتخابية بوصفها العملية المعيار التي تقود إلى فرز النخب عبر صناديق الاقتراع. كان من المأمول أن يؤشر الدستور الجديد على الآلية الانتخابية بالتنصيص على انتخاب مجلس النواب في دورتين انتخابيتين لتأهيل العملية الانتخابية بموجب منطوق الدستور غير أن الأمر ترك مرة أخرى للقوانين الانتخابية التي تصاغ بمنطق التوافقات بين الطبقة السياسية ووزارة الداخلية. لماذا إذن انتخابات بدورتين؟ يتفق كل الفاعلين، أيا كان موقعهم، على ضرورة تأهيل المشهد السياسي ببلادنا، وعلى ضرورة تقوية البرلمان لا على مستوى التمثيلية الحزبية فقط، بل أيضا على مستوى الأداء النيابي، والفاعلية التشريعية. وعلى ضرورة فرز حكومة منسجمة، ببرنامج انتخابي واضح، تحاسب عليه أمام الناخبين... وهو ما سيساهم، والحالة هاته، في خلق تقاليد ديمقراطية ستمكن، مع مرور الدورات الانتخابية، من تمتين أسس المشاركة السياسية لدى الناخبين من جهة، وترسيخ أعراف الديمقراطية التمثيلية من جهة أخرى. كما يصرح مجموعة من الفاعلين بضرورة القطع مع التشكيلات الحكومة الائتلافية التي عمرت ثلاث مرات منذ حكومة التناوب التوافقي، وهو ما أفضى، وقد يفضي عمليا، إلى تنفير الناخبين من صناديق الاقتراع لأن العملية الانتخابية ستصبح، والحالة هاته، بدون معنى سياسي، ولا جدوى برنامجي. إذ يختلط فرقاء سياسيون من أهل اليمين، والوسط، واليسار في نفس الجهاز التنفيذي، بدون فوارق سياسية، أو إيديولوجية، يلمحها المواطن، أو يدرك معناها أو مغزاها وهو ما يكرس الإحساس بلا جدوى السياسية، وبالعبث الانتخابي. وحيث إن الدستور الجديد قد أفرد للبرلمان سلطات تشريعية مهمة (ف 71) وصرح بأن الحكومة تمارس السلطة التنفيذية وتعمل تحت سلطة رئيسها (رئيس الحكومة) على تنفيذ البرنامج الحكومي وعلى ضمان تنفيذ القوانين، وأن الإدارة موضوعة تحت تصرفها، كما تمارس الإشراف والوصاية على المؤسسات والمقاولات العمومية (ف 89) وأن الوزراء مسؤولون عن تنفيذ السياسة الحكومية كل في القطاع المكلف به، وفي إطار التضامن الحكومي (ف 93)... فإن المرحلة الجديدة تقتضي انتخاب برلمان قوي قادر على فرز حكومة منسجمة، ومعارضة قوية تضطلع بمهامها الدستورية سيما وأن الدستور الجديد يضمن لها حقوقا مهمة "ستمكنها من أداء مهامها على الوجه الأكمل" (ف 10). غير أن الآلية الانتخابية التي ستعتمد بإقرار نظام الدورة الانتخابية الواحدة لن تعمل في تقديرنا إلا على إنتاج نفس الخليط الحزبي في التشكيلة الحكومية لأن النظام الانتخابي لا يمكن حزبا أو حزبين أو حتى ثلاثة أحزاب من ربح الأغلبية البرلمانية، وبالتالي تبقى العملية مرهونة بتوافقات هجينة، تقتل في العملية الانتخابية مدلولها السياسي، وبعدها التمثيلي. وعليه، فإن اعتماد انتخابات بدورتين لتشكيل البرلمان من شأنه أن يقوي العملية السياسية وأن يعطيها معنى لدى الناخبين لاعتبارات عديدة من ضمنها: أولا، إمكانية فرز أغلبية برلمانية تفضي إلى تشكيل حكومة منسجمة بحزبين أو ثلاثة أحزاب على الأكثر. ثانيا، هو أن الأحزاب التي لن تمر إلى الدور الثاني، بموجب نظام العتبة ستكون مضطرة سياسيا وأخلاقيا إلى التصويت على حلفائها في الدور الثاني. وهذا يعني أن التحالفات ستكون إفرازا موضوعيا للعملية الانتخابية، بناء على التقاربات السياسية، وليس على قاعدة المنفعة. الاعتبار الثالث، يتعلق باستعمال المال. فمفسدو الانتخابات الذين تعودوا، أو يراهنوا على شراء الأصوات لن يتمكنوا من ذلك في دورتين انتخابيتين. فإذا كان شراء الأصوات في الدور الأول قد يمكن صاحبه من المرور إلى البرلمان في الانتخابات المباشرة المعمول بها، فإن اعتماد نظام الدورتين سيصعب عملية شراء أصوات كتلة ناخبة كبيرة في الدورة الثانية. بل إن حدود المغامرة في شراء أصوات الناخبين في الدور الأول ستتقلص مع اعتماد نظام كوطا انتخابية بدورتين. الاعتبار الرابع، إن اعتماد نظام الدورتين في الانتخابات التشريعية، سيخلق فرزا سياسيا في المشهد السياسي، وسيقطع مع الفسيفساء الحزبية، وسيعمل من خلال تقوية البرلمان على تقوية الديمقراطية التمثيلية. مما سيعيد الثقة لدى الناخبين مع مرور دورتين تشريعيتين أو ثلاث. الاعتبار الخامس، إذا كانت القوى الديمقراطية، وعموم الأصوات المنادية بالتغيير، تنشد نظام ديمقراطي برلماني قوي، فالمقدمة الضرورية هو تقوية أداء البرلمان بفرز نخب عبر العملية الانتخابية المباشرة نفسها وليس بخلق آليات انتخابية غير ديمقراطية بذريعة تمكين بعض الفئات من ولوج البرلمان بحجة أن العملية الانتخابية لا تمكنهم من النجاح. وبالتالي، ستعمل على إفراغ الانتخابات من محتواها. وهو ما قد يشكل خطرا على المسار الديمقراطي.