ينتظر الشارع التونسي منذ سنة 2011 تنظيم انتخابات محلية، خاصة أن البلديات تُدار منذ ذلك الوقت بهيئات تسيير مؤقتة، ما أدى إلى تراجع سير المرافق العمومية وتدهور الخدمات المقدمة للمواطنين في أغلب مناطق البلاد، رغم أن الدستور التونسي الجديد يعطي صلاحيات كبيرة للمجالس البلدية مقارنة بما كانت عليه قبل الثورة. لكن في منتصف الشهر المنصرم، أقدمت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات على تأجيل موعد إجراء الاستحقاقات البلدية إلى السنة المقبلة (مارس 2018) بعد أن كان مقرراً إجراؤها في 17 دجنبر 2017، وذلك استجابة لضغوط قوية من أحزاب تتواجد في الموالاة والمعارضة لتأجيل أول انتخابات محلية منذ ثورة الياسمين التي عصفت بحكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي. وتم إصدار هذا القرار بعد إجراء لقاء تشاوري ضم الهيئة المشرفة على تنظيم الاستحقاقات الانتخابية وممثلين عن رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة والأحزاب المتواجدة في البرلمان، وتشكل إجماع سياسي على استحالة تنظيم الانتخابات في شهر دجنبر المقبل بسبب موانع قانونية وإجراءات إدارية لم تتم، إذ كان على رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي أن يصدر أمرا لدعوة الناخبين إلى الاقتراع قبل 3 أشهر من الموعد المحدد (أي في 18 من شهر شتنبر الماضي)، كما ينص على ذلك الفصل 101، (جديد) من القانون الانتخابي، الأمر الذي لم يحدث ورفض الرئيس القيام به بسبب عدم سد الشغور في الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي استقال منها رئيسها ونائبه، ولم تتوافق الكتل البرلمانية على من يعوضهما بعد. هذا ما أرغم حركة «النهضة» الإسلامية (الكتلة الأكبر في البرلمان) والتي كانت ترفض التأجيل، على القبول بقرار إجراء الانتخابات في موعدها، مع العلم أن استطلاعات الرأي تصب في مصلحة الحزبين الكبيرين: حركة النهضة ونداء تونس. تونس، وفي أعقاب الثورة، نظمت العديد من الاستحقاقات الانتخابية، أولها انتخابات الجمعية التأسيسية أو المجلس الوطني التأسيسي في 23 أكتوبر 2011، وذلك من أجل إصدار دستور جديد للبلاد ما بعد الثورة، انتخابات أسفرت عن فوز حزب حركة النهضة رفقة حزبي المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب التكتل. وشكل هذا الثلاثي ما عرف آنذاك بحكومة الترويكا. وبعد المصادقة على دستور 27 يناير 2014، نظمت تونس كذلك في نهاية السنة نفسها انتخابات رئاسية انتصر فيها الباجي قايد السبسي على منافسه المنصف المرزوقي، وأيضا انتخابات تشريعية أسفرت عن فوز حزب نداء تونس الذي شكل حكومة رفقة غريمه حزب حركة النهضة الذي حل ثانيا. بعد كل هذه المحطات الانتخابية، فإن قرار تأجيل تنظيم الانتخابات البلدية والمحلية من شأنه أن يعطي صورة سيئة وقاتمة عن الانتقال الديمقراطي في تونس، والعائق الرئيسي يتمثل أولا في غياب التوافق من أجل سد الشغور في الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، إضافة إلى تجديد ثلث أعضائها، وكذلك ملاءمة مجلة الجماعات المحلية لدستور تونس الجديد، والتي ستعمل بمقتضاها المجالس البلدية المرتقبة. هذا ما جعل المجتمع المدني التونسي يرفض بقوة قرار التأجيل، إذ أقدمت العديد من الهيئات على معارضة ذلك، ومنها معهد فرحات حشاد للبحوث والديمقراطية الذي عبر في بلاغ له عن استنكاره تأجيل الانتخابات البلدية، واعتباره أن تأجيل هذا الاستحقاق الانتخابي سيربك المسار الديمقراطي وسيؤثر على مصداقية تونس . كما يعتبر معهد فرحات حشاد أنه كان من الأجدر تنظيم الانتخابات البلدية في موعدها، لأن تأجيلها إلى سنة 2018 سيؤدي إلى تداخلها مع الانتخابات التشريعية والرئاسية المنتظر إجراؤها سنة 2019. مرصد شاهد لمراقبة الانتخابات ودعم التحولات الديمقراطية، وجمعية كلنا تونس، وهيئات مدنية أخرى، كلها نبهت في بلاغاتها إلى خطورة تأجيل موعد الانتخابات البلدية، واتهمت البرلمان بعدم بذل الجهد الكافي من أجل سد الشغور في هيئة الانتخابات والمصادقة على مجلة الجماعات المحلية، كما طالبته بتحمل مسؤوليته التاريخية وتغليب المصلحة الوطنية. تونس إذن بين رغبتين متناقضتين، رغبة المجتمع المدني الذي تطور بشكل ملفت، وأصبح مؤثرا بقوة في المجتمع التونسي بعد أن خرج من حالة القمع والتزام الصمت أيام الرئيس زين العابدين بن علي، في الإسراع بمسلسل الانتقال الديمقراطي، والتقيد بأجندته السياسية والحقوقية، منبها إلى خطورة تدهور وضعية المجتمع التونسي التي من شأنها أن تسهم في انتشار مظاهر غياب الأمن والتطرف أو عودة القوى التي كانت حاكمة في السابق إذا فشلت قوى ما بعد الثورة في تلبية مطالب التونسيين. ورغبة المكونات السياسية في الحفاظ على التوافق السياسي كمنهج دائم حكم مختلف المحطات الحساسة في زمن ما بعد الثورة، فهو الذي حسم ولادة الدستور التونسي بعد مخاض عسير، وجمع الغريمين نداء تونس وحركة النهضة في حكومة واحدة، وعدد كبير من القرارات التي لم تتخذ بناء على الأغلبية العددية أو الديمقراطية الشكلية، بل بالتشاور والحوار وتقديم التنازلات، لاسيما من طرف الإسلاميين بغرض الحفاظ على مكتسبات الثورة واستقرار الوضع الأمني بدل الدخول في متاهات كبرى جديدة. وبين الرغبتين المتناقضتين لكل من الفاعل السياسي والفاعل المدني بتونس، يظل المواطن يشتعل بين نارين، نار الظروف الاجتماعية القاسية بسبب تراجع المؤشرات الاقتصادية، ونار حرقته وغيرته على بلده الذي هبت منه رياح التغيير في المنطقة العربية. ويبقى هذا التدافع المذكور أحد الشروط الأساسية للحفاظ على روح الديمقراطية بالبلد وعدم العودة إلى أجواء ديكتاتورية بن علي التي تظل كوابيس مزعجة تقض مضجع المواطن التونسي.