تولى الرئيس التونسي الراحل، الباجي قايد السبسي (92 عاما) المعروف بنزعته الليبرالية سدة الرئاسة في دجنبر عام 2014 بعد فوزه في أول انتخابات رئاسية جرت بعد الإطاحة بحكم زين العابدين بن علي عام 2011. وفاز السبسي على منافسه المعارض لحكم بن علي لفترة طويلة والشخصية المدافعة عن حقوق الانسان، منصف المرزوقي، في انتخابات شهدت استقطاباً حاداً بين الإسلاميين ومعارضيهم من مختلف التيارات. كما حصل حزب السبسي، نداء تونس، الذي تشكل منذ فترة قريبة على أغلبية مقاعد البرلمان وقتها ليتجاوز حركة النهضة بزعامة راشد الغنوشي. وأكد السبسي في خطاب الفوز في أعقاب حملة انتخابية شرسة على أهمية المصالحة الوطنية متعهداً بأن يكون رئيساً لكل “التونسيين رجالا ونساء”. ونظر البعض لفوز السبسي برئاسة البلاد على أنه رجوع لرموز مرحلة بن علي للساحة السياسية خاصة في ظل تبنيه “قانون المصالحة الوطنية” ودفاعه عنه. ولد السبسي في 29 نوفمبر 1926 بضاحية سيدي بوسعيد شمالي العاصمة التونسية. ويشير تاريخ أسرته إلى أنه من أحفاد أحد المماليك الوافدين من جزيرة سردينيا (الإيطالية حاليا)، والذي كان مكلفا بتنظيم طقوس تدخين التبغ لباي تونس حينها، وحاز الرجل ثقة حاشية الباي، وتزوج إحدى قريباته، وصار من أعيان البلاد. ولم يكن السبسي، بعيدا عن الحركة الوطنية التونسية إبان الاستعمار الفرنسي (1881 1956)، حيث تقول حركة “نداء تونس”، في سيرة ذاتية للسبسي نشرتها إبان انتخابات 2014، إنه انخرط في الحزب “الحر الدستوري التونسي” حين كان في ال 15 من عمره. وللسبسي بنتان وولدان، أبرزهما حافظ، الذي يقود حزب “نداء تونس” الذي أسسه الأب في يونيو 2012. ومنذ فجر الاستقلال، وتحديدا في أبريل 1956، أصبح السبسي موظفا ساميا مكلفا بالشؤون الاجتماعية، في ديوان الحبيب بورقيبة، الذي كان حينها يتقلد منصب رئيس وزراء أول حكومة تونسية. وطوال العهد “البورقيبي”، تقلد السبسي عدة مهام سامية (1956 1987)، حيث عيّن مديرا للأمن في يناير 1963، إثر محاولة انقلابية فاشلة حاول تنفيذها بعض معارضي بورقيبة في دجنبر 1962. وفي 1969، شغل مهام وزير الدفاع، فسفيرا لدى فرنسا عام 1970، ثم وزيرا للخارجية عام 1981. ولم يبتعد السبسي، المحسوب على “البلْدية” (أرستقراطية العاصمة الذين تنحدر منهم وسيلة بن عمار زوجة بورقيبة)، عن المهام السامية لأكثر من 5 سنوات، حين طرده بورقيبة من الحزب عام 1974، بسبب “خلافات حول دمقرطة الحزب من الداخل”، ولم يعف عنه حتى عام 1979. ومع صعود زين العابدين بن علي للسلطة، لم يشغل السبسي مناصب هامة سوى رئاسة مجلس النواب (البرلمان)، في الفترة من 1989 إلى 1991. غير أن السبسي لم يغادر الحزب الذي أصبح مع وصول بن علي للسلطة، يسمى “التجمع الدستوري الديمقراطي”، بدلا من “الحزب الاشتراكي الدستوري”، حيث حافظ السبسي على عضويته، وكان في لجنته المركزية حتى 2003. الثورة والسبسي قبل 14 يناير 2011، تاريخ هروب بن علي، من تونس وسقوط نظامه، لم يكن السبسي، الذي اقتصر نشاطه منذ 1991 على الاهتمام بشؤون مكتب محاماته الكبير بالعاصمة التونسية، يحلم بالعودة إلى أروقة قصر الحكومة، ومنها إلى قصر قرطاج. ومع إصرار المعتصمين بمحيط قصر الحكومة، في فبراير 2011، على استقالة رئيس الحكومة حينها، محمد الغنوشي، دعا الرئيس المؤقت الناطق الإعلامي في وزارة التربية والتعليم، وهو رفيق السبسي في الحكم منذ خمسينيات القرن، الباجي قايد السبسي، إلى ترؤس حكومة مؤقتة تمهيدا لانتخابات مجلس تأسيسي يكتب دستورا جديدا للبلاد. انتخابات 2011 تقول روايات، إن حركة “النهضة” (إسلامية) التي فازت بانتخابات المجلس التأسيسي في أكتوبر 2011، وعدت السبسي بالرئاسة، شريطة ضمان عدم تزييف النتائج. غير أن ضرورة تشكيل ائتلاف حكومي التي فرضتها نتائج تلك الانتخابات، جعلت الحركة عاجزة عن الوفاء بوعدها، وأسندت الرئاسة إلى “المنصف المرزوقي”، رئيس حزب “المؤتمر من أجل الجمهورية” (يسار قومي) صاحب المركز الثاني بالاقتراع. أما منصب رئيس المجلس التأسيسي، فقد آل إلى مصطفى بن جعفر، الأمين العام لحزب “التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات”، الذي حل ثالثا بالاقتراع نفسه. “مقلب” لم يتأخر السبسي في الثأر ممن تسبب فيه، حيث دعا بعد شهر واحد من تسلم حكومة حمادي الجبالي (الأمين العام لحركة النهضة) مقاليد السلطة، في بيان صدر في يناير 2012، إلى “ضرورة العمل من أجل تصحيح المسار”. وفي يونيو 2012، أسس السبسي حزب “نداء تونس” الذي جمع الرافضين لحكم “الترويكا” (نسبة للثلاثي الحاكم: حركة النهضة، وحزبي المؤتمر من أجل الجمهورية، والتكتل). وضم حزب السبسي، يساريين قدامى ونقابيين ومنتسبين إلى حزب التجمع المنحل، من أجل الدفاع عن “المشروع الحداثي”، حتى أن جزءا هاما من قيادة حزب المسار الديمقراطي الاجتماعي، وريث الحزب الشيوعي التونسي، انسلخوا من حزبهم ليساهموا في تأسيس “نداء تونس”. وفي طريقه نحو الحكم، نسج السبسي، الخبير بالساحة السياسية التونسية وتناقضاتها، علاقات وتحالفات علنية وسرية، تمهيدا لمساره نحو قصر الرئاسة. وإثر العمليات الإرهابية التي هزت البلاد، واغتيال معارضين بارزين في فبراير، ويوليوز 2013، تم إعلان تشكيل جبهة للإنقاذ، ضمت “نداء تونس”، والجبهة الشعبية (ائتلاف يساري)، من أجل إنهاء حكم “الترويكا”. فيما أطلقت 4 منظمات محلية، أبرزها “الاتحاد العام التونسي للشغل” (المركزية العمالية)، في أكتوبر 2013، حوارا وطنيا كانت أهم مخرجاته تشكيل حكومة تكنوقراط تعوّض حكومة “الترويكا”. “الخطان المتوازيان” يلتقيان أثناء التصعيد بين النهضة وخصومها في جبهة الإنقاذ، عُقد في باريس منتصف غشت 2013، لقاء سري بين الباجي قايد السبسي، ورئيس حركة “النهضة” راشد الغنوشي، صيغت فيه، بحسب مراقبين، توجهات المرحلة المقبلة بالبلاد. وتخلت “النهضة” عن قانون تحصين الثورة، الذي كان سيمنع كل من تحمل مسؤولية في حزب بن علي، من الترشح للانتخابات. كما جرى التخلي عن شرط السن الأقصى للترشح للرئاسة (75 عاما)، وهو ما كان سيجهض، في المهد، حلم السبسي برئاسة تونس، في خطوات ساهمت إلى حد كبير في إيجاد مناخ ملائم للتعايش بين حزبي “نداء تونس” و”النهضة”. ورغم انحياز قواعد “النهضة” لمنافس السبسي “المرزوقي”، في الدور الثاني من انتخابات الرئاسة في ديسمبر 2014، إلا أن الاقتراع انتهى بفرش السجاد لعبور السبسي نحو قصر قرطاج. “الدولة” بدل “المغامرة” ضغوط وإغراءات عديدة حاولت زعزعة تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، وفق تقارير إعلامية تحدثت عن “قوى معادية لثورات الربيع العربي”، وقوى محلية “استئصالية”، إلا أن السبسي لم يتخل عن خيار التعايش، وتجنيب البلاد صراعات شبيهة بتلك التي عصفت ببلدان قريبة. ويجمع خبراء كثيرون على أن تونس، بعد انتخابات 2014 قادها “الشيخان”، في إشارة إلى السبسي والغنوشي. تعايش غالبا يستحضر من خلاله التونسيون تصريحا عقب الثورة، قال فيه السبسي: “النداء والنهضة عبارة عن خطين متوازيين لا يلتقيان إلا بإذن الله.. وإذا التقيا فلا حول ولا قوة إلا بالله”. وعن ذلك “اللقاء”، يعتبر السبسي أن مصلحة تونس هي التي اقتضت التوافق، وصنعت التقاطع.