لم تكن سناء (اسم مستعار بالنظر لرواج ملف طلاقها في القضاء)، تخال أن ميلاد ابنها، سيغير مجرى حياتها ويقلبها رأسا على عقب. كانت الفتاة العشرينية، تعتقد أن ولادة زكرياء ستمنح حياتها نفسا جديدا وتعمق الروابط بينها وبين زوجها، لكن مرض المولود الجديد وعدم تفهم أسرة الزوج لطبيعة الداء "الشبح" ستعجل بتحويل حياتها إلى جحيم، وتقرر الطلاق لتشرع في معركة علاج ابنها من حساسية من نوع خاص. خرج زكرياء بصعوبة إلى الوجود، وصعب حياة والدته سناء، التي وجدت نفسها في مواجهة محنة ثقيلة منذ أسابيعه الأولى، إذ لم يكن ينمو بشكل طبيعي ما جعلها تتنقل به بين المصحات لدى أطباء القطاع الخاص، لتكتشف أنه مصاب ب"السيلياك". "السيلياك" يهدم أسرة بمرارة تحكي سناء وهي تتحدث إلى جريدة هسبريس الإلكترونية، قصة تنقلها بين المستشفيات بالدارالبيضاء، بحثا عمن يشخص طبيعة مرض طفلها، بينما أسرة زوجها كانت ترفض هذه الخطوات وتعتبر إلحاحها على زيارة الأطباء يضر بالطفل أكثر ما يعالجه. لم تكترث سناء لكلام أم زوجها، فقد كان إحساسها قويا بأن صراخ ابنها ورفضه شرب الحليب وغيره لم يكن اعتباطيا، وإنما بقوة تفوق قدرته. بدأت الأم الشابة تتحسس طريقها إلى مرض ابنها، وبدأت تعرف أن الأمر يتعلق ب"حساسية" تصيب الأمعاء الدقيقة، لكن أسرة زوجها لم تعر الأمر اهتماما، معتبرة إياه "تبوحيط" من طرفها، وساهمت بكثرة الأدوية في مرضه أكثر من علاجه ! بعدما تبين للأم أن ابنها مصاب بمرض "السيلياك" الذي يصيب الأمعاء ويتطلب توفر مواد غذائية خالية من "الغلوتين" (مادة توجد في القمح، الشعير، الشوفان)، بدأت تتبع علاجات ووصفات طبية خاصة، لا سيما أن زكرياء، باتت مضاعفات المرض تظهر عليه بشكل جلي. في الوقت الذي سارعت فيه الأم إلى إتباع الوصفات الطبية الخاصة بمرض "السيلياك"، مع ما يفرضه من تحضيرات يومية للأكلات التي وجب على طفلها زكرياء تناولها، تجنبا لكل ما يحتوي على مادة "الغلوتين"، بدأت تجد صعوبات جمة مع أسرتها بدءا من زوجها المهندس، ليصبح الوضع مقلقا لها، بعد رفضهم تصرفاتها ومعاملتها لابنها ما دفعها إلى مغادرة بيت الزوجية عائدة إلى منزل أسرتها التي يمكنها تفهم وضعية الطفل. "الآن نحن في مرحلة الطلاق، لأن أسرة زوجي لا تتفهم طبيعة المرض"، تقول سناء بحسرة، قبل أن تردف "كنت مضطرة لمغادرة البيت، فقد كانت الأسرة لا تتقبل عزلي المواد وأدوات الطبخ بعيدا عن المواد التي يتم استعمالها من طرفهم تفاديا لانتقال مادة الغلوتين إلى ما سأطهوه للطفل، وبالتالي تضاعف مرضه". رغم الإمكانيات المادية الكبيرة التي تتطلبها الوجبات الغذائية الخاصة بالطفل زكرياء، إلا أن والدته سناء التي كانت تشتغل مهندسة في إحدى المؤسسات، وهي تتحدث إلينا، عبرت عن رغبتها في مقاومة المرض في سبيل شفاء ابنها منه. محنة طالبة لكل واحد من مرضى "السيلياك" حكايته ومعاناته مع هذا "المرض الحرباء" كما يطلقون عليه. اكتشافه ومعرفته تختلف من واحد لآخر، حتى فترة الإصابة به متفاوتة، بين من يصاب به صغيرا، ومن يكتشفه وقد قضى سنين من حياته. قصة الطالبة خديجة القادمة من مدينة الداخلة، لمتابعة دراستها بمدينة الدارالبيضاء في إحدى مؤسسات التعليم العالي، تبدو مغايرة لباقي الحالات التي إلتقتها الجريدة. "بدأت معاناتي وأنا صغيرة، حين تناولت حليبا آلمني في أمعائي، كان حينها الأطباء الذين زرتهم يؤكدون لوالدتي أن الأمر يتعلق بتسمم فقط"، تورد خديجة ثم تضيف" قضيت سنوات في العلاج، رغم معاناتي اليومية مع المرض دون أن أعرف ماهيته، إلى حدود السنة الماضية حين زرت طبيبة انتابها الشك في وضعيتي ليتبين بعد التحاليل التي أجريتها أني مصابة بالسيلياك". بعد معرفتها بالمرض، شرعت خديجة كما حكت لهسبريس بتتبع نظام حمية خاص، وبدأت تمتنع عن أكل ما يحتوي على مادة "الغلوتين". لا تبحث خديجة القادمة من أقصى الجنوب المغربي، إلى العاصمة الاقتصادية لاستكمال دراستها، حين تخرج رفقة صديقاتها عن "سندويش" تسد به رمقها، أو عن "بيتزا" على غرار باقي قريناتها. "إنها المعاناة الحقيقية، وأنت تبحث عن أكلة خالية من الغلوتين، لكن دون جدوى"، تقول هذه الشابة العشرينية. وجدت خديجة في بداية حلولها بالقسم الداخلي الذي تقطن به، صعوبة كبيرة، خاصة أن المرض يمنع عليها تناول الخبز والمواد النشوية، وكل ما يتناوله إنسان عادي، بل الأكثر من ذلك، لا يجب أن يشارك مكان طهيه للخضرات وإعداد رغيفه، الأمكنة التي يستعملها الأشخاص العاديون تفاديا لانتقال الغلوتين إليها، فبالأحرى بالنسبة لطالبة تقطن بالقسم الداخلي ! لحسن حظ الطالبة، كما حكت لجريدة هسبريس، فإن الإدارة تفهمت مرضها، بعدما قدمت شواهد طبية وشرحت طبيعته التي يجهلها المغاربة، وسمحت لها بتحضير أكلتها، كما بدأت تساعدها إذ تخصص لعا بعض الوجبات. مرضى مربحون معاناة مرضى "السيلياك" لا تتوقف عند آلامه والأعراض التي يخلفها على الجسم، بل تتجاوزها إلى ما هو مادي، خاصة أن المأكولات التي يتناولوها تبقى باهضة الثمن، ولا تقوى عليها الأسر الميسورة فبالأحرى ضعيفة الدخل. يقول رضوان عافي، رئيس جمعية بسمة الوطنية لمرضى السيلياك وحساسية القمح، في حديثه للجريدة، وهو الذي لا زال يقاوم المرض الذي لم يعلم بإصابته إلا في حدود سنة 2014، بعدما قضى سنوات جاهلا بما ينخر جسده (يقول) "إن مرضى السيلياك بالمغرب يعانون من ارتفاع أسعار الخاصة بالمواد الخالية من مادة الغلوتين". لكن الأمر أكثر مما نتصوره، بحسب رئيس الجمعية الذي استطاع بفضل نظام الحمية الذي يتبعه من هزم المرض معنويا وبات متأقلما معه وينصح باقي المرضى في الجمعية بحذو طريقه، إذ يقول "المشكل أنه إن كانت هذه المواد غالية الثمن بالنسبة لنا هنا في الدارالبيضاء والرباط وبعض مدن الشمال، فإن مرضى للأسف لا يحصلون عليها بالمرة في عدة مدن خاصة بمراكش ونواحيها ومدن الجنوب"، مضيفا "المرضى هناك لا يجدون ما يأكلونه البتة !". خلال زيارة إلى أحد المحلات بدرب عمر وسط الدارالبيضاء، اطلعت هسبريس على الأثمنة التي يستقبل بها التجار هؤلاء المرضى. وبالرغم من تأكيد رضوان على أن صاحبها يحاول التخفيض منها مقارنة مع بعض المحلات، إلا أن السلع وأثمنتها تؤكد أن معاناة المرضى مضاعفة. يضطر هؤلاء المرضى بحسب ما عاينته الجريدة في المحل المذكور، إلى اقتناء نصف كيلوغرام من "سباكيتي" بما قدره 35 درهما، أما بالنسبة للأسر التي يوجد ضمنها طفل مريض ب"السيلياك"، فإن اقتناء بسكويت خال من الغلوتين سيكلفها 55 درهما، بينما يصل ثمن "باريزيانتين" 62 درهما ! وبحسب ما أكده رضوان الذي خبر المرض وبات مرجعا بالنسبة لمئات المرضى على الصعيد الوطني، فإن "غالبية المدن لا تتوفر على دقيق لإعداد خبز خال من الغلوتين، وحتى إن توفر فإن ثمنه باهض جدا يصل إلى 75 درهما للكيلوغرام"، أما الذرة التي تستعمل في الخبز والحلويات وغيرها يضيف متحدثنا فإنها تصل إلى 30 درهما للكيلوغرام، بينما يصل ثمن الأرز 20 درهما. "إننا كمرضى محرومون من الياغورت والمعلبات، فالشركات الصناعية لا تهتم ولا تكترث لهذه الفئة من المغاربة"، يعاتب رضوان المصنعين ثم يضيف "حتى وإن أعدت منتوجات لا تحتوي على الغلوتين، فإننا لا نتوفر على ضمانات ذلك، على اعتبار أن نفس الآلات التي تصنع موادا مضرة لنا يتم توظيفها لإنتاج هذه المواد التي يقولون إنها خالية من هذه المادة". حلم هؤلاء المرضى بسيط كما يقول رئيس الجمعية، ويتمثل أساسا في عبارة "خال من الغلوتين " التي يرغبون في قراءتها على جميع المستلزمات الغذائية وتحديد ما إن كانت هذه المواد إذا كانت تحتوي على منتجات القمح أو الشعير إسوة بجميع الدول المتقدمة. انزواء وعزلة كثير من الفتيات والطالبات تفضلن مراجعة دروسهن بشكل جماعي في المقاهي، بدل الانزواء في مكان في المنزل، لكن الطالبة خديجة، تفكر كثيرا حين تقترح عليها زميلاتها الجلوس بالمقهى أو الخروج لتناول وجبة بعيدا عن القسم الداخلي، للإحراج الذي ستضع نفسها فيه وهي تمتنع عن الأكل رفقتهن. تحكي الطالبة، أن معاناتها لا تقتصر فقط في رحلة العلاج والأدوية التي تستعملها، وكذا في نظام الحمية الذي يجب أن تلتزم به، بل تصل إلى ما هو اجتماعي، خاصة أن هذا المرض قد يلزم الشخص منزله ويبقى حبيس جدرانه. وتشير المتحدثة نفسها، إلى أنها باتت تقاطع المناسبات العائلية والأعراس والخروج مع الأصدقاء إلى المطاعم، لعلمها أنها لن تحصل على وجباتها الغذائية الخالية من مادة الغلوتين، وتفاديا لأي تأثير نفسي عليها. رضوان رئيس الجمعية، بدوره أكد على أن العديد من مرضى "السيلياك" يدخلون في أزمات نفسية لهذا السبب، ويصبحون انطوائيين بالنظر إلى عدم رغبتهم في الخروج وحضور المناسبات وغيرها، لكون المجتمع والأسر المغربية لم تستوعب طبيعة هذا المرض. ويحرص هذا الشاب الذي استطاع أن يتبع نظام حمية لمواجهة المرض، على حمل مأونته في حقيبة يدوية أينما حل وارتحل، لا يجد إحراجا وهو يمتنع عن الأكل في المناسبات وخلال زيارته للأهل والأقارب، إذ يصر على تناول وجبته الخالية من الغلوتين. "كثيرا ما تتم دعوتي للمناسبات، وأحضر أعراسا بشكل كبير بالنظر إلى طبيعة عملي، لكنني أمتنع عن الأكل فيها، وأحرص على استخراج أكلتي الصغيرة وتناولها"، يقول رضوان الذي بدا متفائلا وعازما على قهر "الداء الشبح" مضيفا "شخصيا لا أكترث لكلام الآخرين، أحاول أن أشرح لهم سبب امتناعي عن الأكل لكن إن لم يتفهموا فإنني لا أبالي بهم". وقف الحمية.. الانتحار ! كثير من الحالات التي تعاني من هذا المرض، لم تلتزم بنظام الحمية الغذائية، إذ بمجرد ما يتبادر لذهن بعضهم أنه تماثل للشفاء يسارع إلى تناول ما وجده في طريقه. بعض الحالات كما أكد رضوان عافي، رئيس جمعية بسمة الوطنية لمرضى السيلياك وحساسية القمح، في حديثه للجريدة، تضطر إلى إيقاف نظام الحمية الذي كانت تتبعه وهو الأمر الذي يضاعف من معاناتها ويعد "انتحارا"، مضيفا "بعض السيلياكيين وبالنظر إلى معاناتهم فهم يهددون بوقف النظام الذي يتبعونه، وهذا بمثابة إعلان عن انتحار". الدكتورة الكويتية سعاد فهد الفريح، صاحبة كتاب "قصتي مع السيلياك" وهي تتحدث إلى جريدة هسبريس الإلكترونية، وجهت نصيحتها إلى المرضى ب"الالتزام بالحميّة مدى الحياة وعدم الرضوخ للضغوط بالتغاضي عنها مرة كل فترة". وأوضحت سفيرة مرضى "السيلياك"، التي فاز كتابها بجائزة "الكويت للمحتوى الإلكتروني" سنة 2015-2016، أن أسر وأهالي المرضى، باتوا مطالبين بتفهم طبيعة مرضهم، مضيفة أنه "وجب عليهم الإلمام بذلك كثيرا وبشكل دقيق من مصادر طبية موثوقة وليست أية مصادر متوفرة على الأنترنت، لما في ذلك من خطورة على صحة المرضى". وإذا كان الدكتور السعودي الدكتور سامي الوهيبي الأكاديمي والمتخصص في الإدارة الإستراتيجية والأعمال العائلية، يرى أن مرضى "السيلياك" مثل "الذي يسير في الصحراء بلا زاد ويبحث عنه ولا يجد إلا السراب"، فإن الدكتورة الفريح اعتبرت أن "التعايش مع المرض ليس بالسهل أبدا في الدول العربية وذلك راجع بالأساس إلى ندرة المنتجات المتوفرة في الأسواق وثمنها المرتفع المبالغ فيه". مواد ممنوعة على المرضى وصف البروفيسور عبد الحق عبقري، اختصاصي في الجهاز الهضمي والتغذية عند الأطفال، مرض "السيلياك" بالداء الذي يصيب الجهاز الهضمي والأمعاء تحديدا لدى الأشخاص الذين لهم قابلية جينية لذلك. وأكد الدكتور عبقري في حديثه إلى جريدة هسبريس، أن أعراض هذا المرض عديدة، من بينها الإسهال المزمن، ألم في البطن، انتفاخ في البطن، ضعف النمو على مستوى الوزن، قصر القامة وغيرها، مشيرا إلى أن التيقن من الإصابة بالمرض، تقتضي إجراء فحص للكشف عن الأجسام المضادة لمادة الغلوتين في الدم. وشدد الدكتور، على أن الحمية الغذائية الخالية من مادة الغلوتين، تبقى أهم وسيلة للعلاج والتخلص من أعراض "السيلياك"، ذلك أن هذا الأمر يمكن المصاب من البدء في استعادة النمو والعودة إلى وضعه الطبيعي، غير أنه يضيف البروفيسور عبقري "في حالة ما تم تناول الأغذية المحتوية على المادة المذكورة، فإن الأمور تعود إلى ما كانت عليه، وبالتالي فإن الحمية يجب أن تكون بشكل دائم دون انقطاع". وحذر عبقري، المصابين بالمرض، من جميع المواد التي لها علاقة بالقمح، والشعير سواء كان دقيقا أو كسكسا أو مقرونة، إلى جانب المواد المعلبة لأنه تكون هناك شكوك حول استعمال الغلوتين فيها أو في الأماكن التي تصنع بها، في المقابل، اعتبر أن المرضى بإمكانهم تناول الفواكه والخضر والقطاني لكونها لا تؤثر عليهم، داعيا في الوقت نفسه كل من بدت عليه الأعراض إلى زيارة الطبيب لتشخيص المرض. إحصائيات غائبة بالنسبة لوزارة الصحة المغربية، فإن مرض "السيلياك" يبقى غير مصنف مقارنة مع باقي الأمراض الأخرى، إذ أكدت مصادر من الوزارة هذا الأمر في اتصال هاتفي بجريدة هسبريس. وفي الوقت الذي يطالب فيه مرضى "السيلياك" من الحكومة العمل على تخفيض أسعار المواد وكذا إدراج الأدوية ضمن المنتجات الطبية التي يتم تعويضها عبر صندوق الضمان الاجتماعي، فإن المصادر نفسها تشير إلى أن هذا المرض لا يتوفر على برنامج خاص من طرف وزارة الصحة للتحسيس به وبخطورته وبالطريقة التي يمكن مواجهته بها. وأكد مصدر الجريدة، على عدم وجود إحصائيات من طرف الوزارة تخص هذا المرض الذي ينخر الآلاف من المغاربة بحسب تأكيد عدد من الجمعيات النشيطة في المجال. وبحسب رئيس جمعية بسمة الوطنية لمرضى السيلياك وحساسية القمح، فإن النسبة ستكون كبيرة جدا، على اعتبار وجود أكثر من 5000 مصاب يتواصلون مع الجمعية عبر منصات التواصل الاجتماعية. ولا يختلف وضع مرضى السيلياك بالمغرب كثيرا عن مرضى معظم الدول العربية، إذ أن الإحصائيات في هذا الجانب تظل غائبة، بالرغم من كون النسب تبقى متقاربة بحسب عدد من المختصين، بالنظر إلى كون المواد المستعملة في الأكل متشابهة. وتشير التوقعات بحسب المتتبعين، إلى دول المغرب العربي تعرف نسبة إصابة بالمرض تصل إلى 1 في المائة بالنظر إلى تناول المواد تحتوي على مادة الغلوتين.