كنت أحاول جمع ما تبقى لي من شتات الورق المنسي... وأنا أقرأ ما كتبت، خلال هذه الرحلة، عن رحيلي من حضن الأحبة... أقرأ وأكتب، وأطلق العنان للسمع والبصر.. وأنا أتذكر ما قرأته ذات يوم عن الشرق حين كان ضد الغرب، وحرب النجوم تتجاوز الكواكب البعيدة... يوم كانت جمهوريات الاتحاد السوفياتي ترقد تحت معطف جورباتشوف الأنيق... يوم كانت ألمانيا تنشطر بسور برلين إلى لونين ناصعين... ويوم كان النظام الدولي الجديد جنينا يقترب من المخاض، وكانت براغ تستعيد بكاء ياروسلاف سيفرت، وهو يحكي تفاصيل أرصفتها ومعالمها وشتائها ولياليها وناهاراتها... يوم شمرت الصين على ساعديها لتقتل عزالا في الشوارع المزدحمة وفي ساحة تيا نانمين.... في هذا الوقت بالذات، كانت "التيمة زموري" تحكي لي عن شهر آذار الغدار، وهو يوزع اللقاح على الغصون العارية، في حدائق السفرجل وبساتين البرتقال... وتطل علي من عتبة الغياب، لتؤطد جسر التواصل الذي لا يتحمل النسيان... ولتذكرني بفبراير الذي سحبني من دائرة العشق وسلاليم الأحبة، دون أن تنسى تهنأتي بعيد ميلاد معشوقتي. كل القبل ورسائل الأهل والأصحاب كانت تأخذني من حيث لا أدري... لعبور المسافات ولمشاركة أهل القرية أفراحهم، وأحزانهم وأمسياتهم التعبوية والثقافية... مثل تلك الأيام التي نظمها المكتب المحلي لنقابة رجال التعليم بغفساي، بمناسبة الأسبوع الثقافي الثالث، والذي كان محوره "حقوق الإنسان واقع وآفاق". وقبل أن استعد للرجوع إلى السجن المركزي، جاءنا خبر إطلاق سراح ما تبقى من معتقلي السجن المركزي -حي أ-.. عبد الله الحريف، وأيت بناصر والحبيب بن مالك... فرحنا بالخبر، وتمنينا لو تم إطلاق سراح كل المعتقلين. أما عائلات ما تبقى من المعتقلين القابعين خلف القضبان، فرفعت من وثيرة تحركاتها ونضالها، مطالبة بإطلاق المعتقلين السياسيين. كنا، في مختلف السجون، على اتصال مستمر فيما بيننا. وهكذا كاتبني من سجن عكاشة عبد المومن الشباري، ليخبرني بأحوال الرفاق هناك، والنقاشات السياسية حول التغيرات الدستورية والسياسية المرتقبة في المدى المنظور، متسائلا عن مدى تتبعنا لهذه النقاشات على المستوى الحزبي أو الرسمي، وهل هناك من نقاش حول هذه القضايا... أما عبد الحق المصدق فأخبرنا بأن «أحمد خيار يخوض إضرابات متقطعة... احتجاجا على ما تعرض له من إقصائه من الحق في التطبيب...». "عمو" هو الآخر يخبرنا بين الحين والآخر بأحوال طنجة، وبالوضعية الصحية ل"الشيباني" الذي يخوض إضرابا عن الطعام... وأما على المستوى المحلي، فكان الحزن يخيم على جناحنا بعد الأحكام القاسية التي صدرت في حق رفاقنا نورالدين جرير (10 سنوات)، واعوينتي سلام (7 سنوات)... كان ذلك يوم الخميس 12 مارس 1992... تألمنا من جديد.. خاصة وأن رفيقنا نورالدين كان قد نجى من الموت المحقق بأعجوبة، بسبب ما تعرض له من تعذيب، وتنكيل وتشويه من طرف عناصر ظلامية، اقتحمت الحرم الجامعي في واضحة النهار، مسلحة بالأسلحة البيضاء والهروات... كما أن اعتقال الرفيق اعوينتي سلام، كان قد تم في ظروف غامضة، وبعد مغادرته للساحة الجامعية بصفة نهائية. وعلى إثر هذه الحملة الجديدة ضد القاعديين، بادرنا جميعا لربط الاتصال مع الجمعيات الحقوقية في الداخل والخارج للتعريف بملف المعتقلين القاعديين بسجن فاس. وهو ما تحقق لنا، بفضل الحملة الحقوقية الكبرى التي أطلقتها منظمة العفو الدولية، وجمعية الدفاع عن حقوق الإنسان بالمغرب "لاصدوم"، وجمعية العمال المغاربة بفرنسا "أ.ط.م.ف"، و جمعية المغاربة بفرنسا "أم.ف"، وجمعية العمال المغاربة بهولاندا "الكمان"، وجمعية حقوق الإنسان بهولندا "كميمم"، وجمعية العمال المغاربة بإسبانيا "أ.ت.م"... وجمعيات أخرى حقوقية ببلجيكا، وعلى الصعيد الأوروبي... والتي جعلت مجموعتنا تستفيد هي الأخرى من حملات الدعم والمساندة على المستوى الدولي. ورغم حملات الاعتقالات الواسعة والمستمرة، لم يهدأ نبض الحركة الطلابية.. حيث عرف يوم 10 مارس 1992 مواجهة عنيفة مع قوات الأمن، أسفرت عن جرح العديد من الطلبة.. كما وصل عدد المعتقلين بسجن فاس إلى 85 معتقلا. كان سجن فاس قد أصبح ملحقة لجامعة ظهر المهراز، وكانت مدرسة القاضي عبد النور قد سارت متخصصة في ملفات الطلبة للزج بهم في السجن. وبعد ما قضيت ما يقرب من أربع سنوات، طالبتني محكمة القاضي عبد النور بأداء غرامة مالية للتعويض عن الخسائر التي تعرض لها المطعم الجامعي أيام إضرابات الطلبة، وهو ما جعلني أضرب عن الطعام لمدة 14 يوما، احتجاجا على هذا الحكم الجائر، إلى أن تدخلت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، فرع تاونات، ومنظمة العفو الدولية لتسوية الملف ماديا. كان أحمد المرزوقي من بين الأوائل الذين جاؤوا لزيارتي، مباشرة بعد وقف الإضراب عن الطعام في 17 ماي، كان منشرحا ومسرورا بلقائي من خلف القضبان، حكى أحمد في هذا اللقاء الأول من نوعه كثيرا عن أهل تازمامارت، الأحياء منهم والأموات... المريزق داخل الزنزانة