إقبال كبير فاق توقعات اللجنة المنظمة لموسم الولي الصالح سيدي محمد ابن ابراهيم الشيخ التمنارتي الذي يقام سنويا في جماعة تمنارت القروية بإقليم طاطا، خلال الخميس الأول من شهر شتنبر الفلاحي من كل سنة. واحة تمنارت الجميلة تنزوي وسط سلاسل جبلية متموجة ذات اليمين وذات الشمال، فيما موسمها يتجذر في ذاكرة محلية تقاوم الإهمال والنسيان، وإماطة اللثام عن عادات وتقاليد ظلت وما تزال راسخة تتحدى عاديات الزمان. كرم بطعم خاص لهف وشوق يدفعان لاكتشاف غياهب منطقة ما يزال أفرادها يكنون كل التقدير والاحترام اللائقين لرموزها الدينية وفعالياتها الصوفية.. إنها واحة تمنارت التي كُتب للجريدة أن تحط رحالها بموسم وليها الصالح، الشيخ سيدي محمد بن إبراهيم التمنارتي، أحد رموز البلاط السعدي في عهد السلطان المنصور الذهبي. بيوت التمنارتين مفتوحة أبوابها طيلة أيام الموسم تستقبل وتأوي الزوار الذين يقصدون الموسم من كل صوب وحدب بنوايا صادقة ملؤها الخشوع والإيمان العميق.. كم تكون فرحة المرء كبيرة وهو يحس بأنه بين أناس طيبين سماتهم التواضع والتسابق نحو فعل الخيرات. قلما تجد بيتا تمنارتيا يخلو أيام الموسم من الضيوف، فعادة الإطعام والإيواء سمة من سمات أهل تمنارت المشهود لهم بالكرم وحسن الضيافة... يتساوى الجميع داخل فناء تلك المنازل الجميلة التي تجعل المرء ينتابه شعور روحي لا يوصف وهو يتجاذب أطراف الحديث مع أناس يخيل إليه أنه يعرفهم كما يعرفونه منذ أمد بعيد. "التبوريدا".. لهف إلى ماض عريق تسمع طلقات البارود من حين إلى آخر في ساحة "تغزوت" بدوار قصبة أيت حربيل وبدوار أكرض، إنها "التبوريدا" التي تؤثث موسم تمنارت كل سنة، والتي تخرجك من رتابة الحياة اليومية... فرسان شجعان يتسابقون بخيولهم الأصيلة في تباه بين فرق لا يخفي أفرادها ولعهم بركوب الفرس وعشق الفروسية، والاستمتاع بصوت البارود ورائحته الممزوجة بالتراب. قيل لنا من بعض من تحدثنا إليهم في تغزوت بالقصبة، حيث عدد الفرق والفرسان أكبر بكثير من أكرض، بأن سماع تلك الطلقات يساعد على التغلب على الخوف، وقيل لنا أيضا إن شم رائحة البارود تزيل السحر وما علق بالذات من مس وشعوذة قديمة... من ذا الذي يستطيع أن يتمالك نفسه وهو يعاين عن قرب تفاصيل تلك العلاقة الوطيدة التي تجمع الفارس بفرسه وببندقيته أيضا.. إنها دروس في الانضباط والشجاعة ونكران الذات، إلى جانب قيم نبيلة يوم سخرت تلك البنادق والخيول في "حركات" للدفاع عن القبيلة من أي انتهاك خارجي أو عدو يتربص بها. سوق "ألموكار" تشرف على تسيير فعاليات موسم الولي الصالح سيدي محمد ابن إبراهيم الشيخ التمنارتي بتعاون مع الجماعة القروية لتمنارت جمعيتان: جمعية أكرض للتنمية والتعاون بدوار أكرض، وجمعية ألموكار بدوار قصبة ايت حربيل. وبمجرد الوصول إلى أكرض حيث يقام السوق تنجلي مظاهر الحرص على حسن التنظيم، إذ يوجد شباب في مقتبل العمر ببذلتهم الخاصة وعلامة تميزهم عن العموم، يجتهدون دون كلل في تنظيم حركة المرور ورسو سيارات الزوار، ثم تقديم الإرشادات. كما تبصر عين الزائر المعتاد لموسم التمنارتي علامات التحول الذي يشهده تنظيمه خلال دورته لسنة 2013 على غرار الدورات السابقة، فبمدخل دوار أكرض تم نصب حواجز حديدية لمنع السيارات من اقتحام السوق وعرقلة حركة الزوار، لكن رغم كل هذا الحرص الذي يبديه المنظمون، تجد بين الناس حالات نشاز يضربون كل ذلك بعرض الحائط، ولا تكاد تعلم من أين تتسلل سياراتهم وسط الزوار الذين يكتظ بهم المكان على هيئة الأسواق بالمدن الكبرى. الشارع الرئيسي لأكرض مركز جماعة تمنارت لم تنته به أشغال الهيكلة إلا مؤخرا، على أرصفته العصرية الواسعة تم تثبيت خيام الباعة والعارضين، تاركين المعبر الرئيسي للمارة من الزوار الذين يقصدون تمنارت من كل فج عميق. من بينهم الوافد من دواوير إقليم طاطا، خاصة التابعة لجماعة تمنارت أو القريبة منها إلى حدود أقا، ومنهم من رمت به الأقدار من مناطق أداي، وتغجيجت، وإفران، والخصاص، وإمجاض، وبيويزكارن، وكلها قرى كانت تدين بالولاء تاريخيا للتمنارتيين، ثم من كل ربوع سوس، خاصة تفراوت وتزنيت ونواحيهما. وسط السوق تجد كل ما مال إليه الفؤاد، من ملابس ومجوهرات وأفرشة وأواني ثم منتوجات فلاحية محلية وغيرها، كما أنه مؤثث هذه السنة بمعارض لجمعيات مبدعة ومجتهدة، وقد عاينا كيف اقتحمه الإشهار، ففي أكرض رست عربة بجانبها منصة تنبعث منها الموسيقى وصخب كل مساء لإشهار منتوج الكوكا كولا، بينما في الساحة المخصصة للعروض بقصبة أيت حربيل وفي مشهد مماثل ترتفع أصوات التشهير لشاي السبع، لتعلم أن موسم التمنارتي أضحى قبلة لرجال أعمال مغاربة كبار بعدما كان يسعد بحضوره الكثير من صغار التجار فقط. الدور "التحكيمي" في ساحة الموسم الفسيحة بقصبة "أيت حربيل" تعالت دعوات مخلصة، تطالب برفع أكف الضراعة إلى الله العلي القدير أن يجنب البلاد والعباد من شر الفتن، وتسأل الله أن يتحقق السلم والهناء بين قبيلتين دخلتا في قتال عنيف حول الأرض، ولم تفلح السلطات بالجهة في إقرار السلم بينهما، لا بل باءت جميع مبادرات الصلح بين القبيلتين المتناحرتين بالفشل. هناك من الحاضرين من بكى وتحسر على وقوع إصابات وقتلى في ذلك الصراع الذي تغذيه قبلية مقيتة، لكن الجميل أن ترصد بين الحضور من ينحدر من القبيلتين اللتين نزغ الشيطان بينهما، شابة من إدوزكري، إحدى فروع قبيلة أيت النص، تتحدث بنبرات حزينة وتتوسم في الدعاء خيرا، وتأمل في عودة السلم والسكينة إلى المنطقة، وأن يتم تغليب منطق العقل والحكمة في مثل تلك الصراعات التافهة. حينها تعود بك الذاكرة قليلا إلى الوراء، لما كان موسم تمنارت وكغيره من المواسم الكبرى قبلة القبائل المتناحرة فيما بينها، ومحج الزعامات القبلية التي تحتكم إلى الولي محمد اوابراهيم الشيخ وإلى أحفاده، وتطلب من تلك الأسرة الصوفية التي تتمتع بسلطة روحية قوية الوساطة والتحكيم في الصراعات القبلية. وبر الناقة ذبح الأنعام وكثرة الذبائح سمة تميز جل المواسم المغربية، لكن الأمر مختلف بالنسبة لموسم الولي الصالح سيدي امحمد اوبراهيم التمنارتي؛ فنحر ناقتين على بعد أمتار من ضريح الولي "بأكرض" لا يمر من دون طقوس ومقدمات مثيرة. قبل النحر بساعات تحاط الناقتان من طرف نسوة همهن الوحيد التبرك بوبرهما، على اعتقاد منهن بأن الاحتفاظ به يطرد النحس، ويجلب "السعد" واليمن. فتيات يرغبن في التخلص من "العنوسة" الملازمة لهن، أو نساء يندبن "حظهن العاثر"، وأخريات همهن الوحيد إنجاب الأطفال أو التحكم في حركات وسكنات الزوج. لا يحس بمرارة الألم غير تلك الناقة التي لا حول لها ولا قوة أمام كثرة الأيادي التي تنتصر لمعتقدات راسخة في الأذهان رسوخ الشمس في السماء، دون أن تتسلل الشفقة والرحمة إلى القلوب التي سخرت تلك الأيادي لتفعل فعلتها بتلك الناقة المسكينة. حاولنا أن نخبر إحداهن بأن الناقة تتألم وتتعذب جراء فعلهن المشين، لكن قاطعتنا زميلة لها بالقول: "إنها وهبت نفسها لسيدي محمد اوبراهيم الذي سخرها لتحمل همومنا وتخفف من معاناتنا، وإن النحر الذي ينتظرها أهون مما نقوم به". الضريح يتبدى ضريح الولي الصالح محمد ابن إبراهيم الشيخ التمنارتي ضاحيا أسفل مقبرة أكرض، وهي مقبرة واطئة وفسيحة، فيما يرقد موتى أكرض بها منذ قرون، ويشقها وسطها طريق يملؤه زوار الضريح كالحجيج جيئة وذهابا. ستصاب بالذهول في باحة ضريح التمنارتي من كثرة عدد الزوار، ومن معتقداتهم في سعيهم لنيل بركة الشيخ دفينه، ذكورا وإناثا، رجالا ونساء، وحتى الفتيان والصغار، الكل في صمت وخشوع، كما ترى المرضى والمعاقين والباحثات عن زوج فارس أحلام يتشبثن بأمل مجيئه يوما ما، أو حلم إنجاب طال انتظاره، يفترشون تلك الباحة، ففيها يعملون على طهي طعامهم، وفيها مبيتهم ومأواهم طيلة أيام الموسم، آملين أن يتحقق ما هاجروا إليه ببركة هذا الولي الصالح. وعلى طول المعبر الذي يربط مدخل باحة الضريح بفنائه يجلس بعض الفقهاء، أغلبهم من تزروالت وأداي والنواحي، وقد نبهنا بعض العارفين بخبايا المواسم الدينية إلى أن بينهم متفيقهين، يتلون القرآن وترتفع أصواتهم بالدعاء خاصة في يوم الختم الجمعة، أما غاية أغلبهم فهي كسب المال بالدرجة الأولى، بعضهم يحصل عليه بذكاء، ببيع بعض الأشياء كالشموع عربون بركة الشيخ بأكثر من سعرها الحقيقي أحيانا، ومنهم من يتفضل بالدعاء للزائرين خاصة إن لمحوا أن له سمعة وأنه ممن يتمتعون بسمعة طيبة. الذين لا يترددون يقصدون مباشرة وسط فناء الضريح، فيضعون قسطا وما تيسر من المال بصندوق حديدي يداعب مدفن الولي الصالح التمنارتي، وفي أغلب الظن أنه سيختزن ملايين السنتيمات بمضي ذلك الأسبوع فقط، فيجلسون لحظة لختم الزيارة بالدعاء وما يطلبونه في سريرتهم أمام ذلك المدفن المكسو بثياب خضراء أنيقة. للتصوف تقدير واعتبار حين يسألك أحد سكان أكرض أو قصبة أيت حربيل عن زيارة الموسم كثيرا ما تصدر منهم عبارة بالأمازيغية السوسية، "إح أورتزريت هاوي هان أورتكيت ألموكار"، ومعناها باللسان العربي: زيارتك للموسم باطلة ما لم تشاهد طقوس "هاوي". ويكفي هذا الكلام لتعرف الأهمية التي يحظى بها هذا التقليد لدى أهل تمنارت. طقوس هاوي تنقل الزائر للموسم إلى عالم التصوف، وهو تقليد قديم كما أكد لنا ذلك بعض سكان أكرض والقصبة، تعود جذوره إلى الفترة التي عاشها الشيخ التمنارتي، أي القرن 16 الميلادي، وقد سنه ليشغل سكان تمنارت بأهواء الباطن حتى لا ينغرسوا في العادات المخالفة للشرع، وقد حافظ التمنارتيون على معظم طقوسه إلى اليوم. قيل لنا إن "هاوي" كان يقام سابقا بكل من أكرض والقصبة، بينما ينظم حاليا بأكرض فقط، كما تأكدنا من كونه كان حكرا على الذكور في السابق، لكن حاليا اقتحمت عالمه النساء بدورهن حيث يبدأن في الصباح بأهازيج وايقاعات الدفوف والطبل بمعية قلة من الذكور، وسط ساحة بالدوار القديم لأكرض على الضفة اليمنى لواد تمنارت. بعدها يأتي حشد من الذكور يطوفون بالمكان وبأبواب الدوار، وينشدون على هيئة المتصوفة أيام زمان: "هو الله، هو الله، هو الله..."، ومن كثرة ترديد هذه العبارة تحولت إلى "هاوي" اختصارا ومنها اقتبس اسم هذا التقليد الذي يقام قبل صلاة الجمعة. الدرست" .. تقام بدواوير تمنارت أيام الموسم، خاصة بقصبة أيت حربيل وأكرض، ليالي ساهرة للفنون التعبيرية المحلية، خاصة فن "الدرست" الذي تميزه الحوارات الشعرية الطويلة، فبدوار أكرض تنظم أكبر حلقة ل "الدرست" يوم الأربعاء، بينما تقام بالقصبة يوم الخميس. ويقصد هذه السهرات شعراء أمازيغ لهم شهرة كبيرة في كل أرجاء سوس ولدى السوسيين في أي مكان، من بينهم الذين حضروا هذا الموسم: إحيا بوقدير، وعابد أوطاطا، وأحمد عصيد، وعثمان أزوليض، والمحجوب العباسي، والحاج الحبيب، والبشير أحداد، ثم علال وغيرهم، بل وحتى الناشئين منهم. كما يلتئم فيها عدد يفوق 200 مشارك من عشاق هذا الفن الرفيع، كما يحضرها جمهور غفير من المعجبين، وقد كنا حرصين على معاينة ذلك بقرية القصبة يوم الخميس 19 شتنبر، بعدما فاتنا المشهد يوم الأربعاء بأكرض. صوت مقدم السهرة بقصبة أيت حربيل المنشط الذي يفيض حيوية، ابن أقا مولاي أحمد الجعفري، ألهب حماس الجمهور الحاضر. وانخرط الشعراء الحاضرون بحماس في مناقشة مواضيع الساعة، من قبيل الأزمة الحكومية وقرار الزيادة في أسعار المحروقات، وأخطاء ومزايدات الأحزاب، وخطاب الملك حول قطاع التعليم، ثم مواقف عصيد حول الرسول عليه الصلاة والسلام. غادرنا تمنارت مجبرين بأجسادنا لهموم ومهام تنتظرنا، ولم تنسها أفئدتنا التي تحن للعودة إليها من جديد، لا يزال يجذبنا سحرها وجمال طبيعتها وطيبوبة أهلها وكرمهم. ولن يزول أثر هذا الانجذاب إلى أن نرى يوما ما موسم سيدي محمد ابن إبراهيم الشيخ التمنارتي مدونا ضمن لائحة التراث الإنساني العالمي.