يشيع القول بأن المصريين أصحاب دعابة، وأن غيرهم من سكان شمال إفريقيا، خصوصا الجزائريون والمغاربة، هم أكثر ميلاً في سلوكهم الجمعي إلى الجدية والصرامة، بل إلى صلافة الطبع وغلظته أحياناً. وهو دون شك تصور استشراقي عن النكتة لدى العرب ما يزال يردده عدد من الغربيين ومن يدور في فلكهم إلى اليوم، في الأدب وغيره، ولن يسع المجال لتبيانه الآن. مدار الحديث هنا متعلق بحصص هزلية تكاد تصير مألوفة في الإعلام الفرنسي، أبطالها كتّاب وصحافيون ومثقفون، مغاربيون ومصريون وشاميون، يمكن تسميتهم دون حذر ولا تردد ببهلوانات الصالونات الباريسية. لقد سبق لي، في مقال نشره موقع "المدن" في العام الفائت، تحت عنوان "الغونكور.. مثالب الجوائز وبورجوازية الأدب"، أن تعرّضت لظاهرة المشيخة الأدبية للطاهر بن جلون الداعمة لشكل أدبي يجمع البورجوازية والبوهيمية بالولاء لفرنسا، تناسلت منه أقلام صاعدة معلومة. لكن كمال داود ليس من هؤلاء المريدين، مع أنه يتقاطع معهم في مناهج التجارة والبروباغندا والزهد الروحي. نحن إذن بصدد خطاب غير أدبي، قد يتصل بالنص كما قد ينفصل عنه، لا بصدد متون وشخصيات وتبئير حكائي، أي أن الرد متعلق بسياق ميديولوجي وإديولوجي نفعي، مطبوع بالانفصام والالتباس وكره الذات، وجدت المؤسسة الرسمية الفرنسية فيه ضالتها، وفتحت له جميع مرافقها الصحية من صحف ومواقع وتلفزيونات؛ فيكفي مثلا أن تضرط الروائية الأنيقة ليلى سليماني في باريس ليرتد الصدى من هناك حتى الرباط وبيروت، أو أن يفسو الصحافي الحذق كمال داود في الجزائر لنسمع الفرنسيين ينتشون بالشم: ما أطيبه من عطر، ولا قطر الزهر! من الطبيعي أن يتلقف بعض مواليد السبعينات من الكتاب كل فرص النشر والبروز والتبرز علي(نا)، "نحن" العربوفونيون المتأسلمون، لكننا نتفهم دوافع تصرفاتهم تلك: أزمة الأربعين التي يتخبطون بها وسلطة بابا موليير والخوف من ضياع المجد مع مجيء الخمسين، وطبعا عشق كامو والإكثار من أكل التين الشوكي، ثم بناء المستقبل البهيج للمتوسط. لندع الهزل ونتبيّن الجد: ما الذي يريده حقا هؤلاء الفرانكوفونيون الطيبون والمتنورون؟ النكت الخاسرة منذ بزوغ نجم تلك الأسماء الإعلامية الأدبية، بعد ما أضحى يعرف ب"الربيع العربي" عام 2011، تراجع حضور الفكاهيين من أصول مغاربية على شاشات التلفزيون الفرنسي، وعلى رأسهم الفكاهي الجزائري المتميز محمد فلاق، صاحب المنخار الكبير والظل الخفيف والمسافة الهزلية النزقة. فلاق ليس مهرجا البتة، قد يكون متأثرا أحيانا بالتهريج الثاقب للفكاهي الفرنسي كوليش، لكنه يفترق عنه وعن التهريج الإيديولوجي لأولئك المثقفين والأدباء المتحذلقين، فتطرقه لمسائل الهوية واللغة والجنس متزن وجذري، لا يسقط في كليشيهات الفرنسيين وفانتزماتهم عن الشرق. إنّ تغييب الفكاهيين المغاربيين عن القنوات العمومية الفرنسية لصالح المثقفين ظاهرة تستحق الدراسة حقا! فمن الصعب علينا فصل انحطاط الذوق الكوميدي عند الفرنسيين، وتعمق سوء الفهم بينهم وبين المسلمين، والمغاربيين خاصة، عن تغوّل المنظومة التهريجية لمشيخة الطاهر بن جلون ومن تغذيهم من "محرّري" العقل العربي أمثال كمال دواد وليلى سليماني، وذلك كلما تعلق الأمر بالقضايا الحضارية والاجتماعية والسياسية للبلدان التي ينحدرون منها. مع الدخول الأدبي لعام 2017 بفرنسا، نشر داود مقالا يقدم فيه لكتاب صاحبة الشّعر المنفوش المعنون ب"جنس وأكاذيب: الحياة الجنسية في المغرب"، ومن المؤكد أن ذبح الأضحيات الإعلامية عند باب واحدة من المريدات المفضلات لدى بن جلون قد يكون مفيدا لصاحبنا. أياما قليلة بعد نشر المقال، اجتمع رفيقا النضال أثناء جلسة حميمية في برنامج "المكتبة الكبيرة" على قناة الفرنسية الخامسة، وبها سيطلق داود نكتته المبتكرة، تزامنا مع صدور روايته الثانية: "إنّ العربية ليست لغتنا في البلاد المغاربية. إنّه وهم فرنسي. فالعربية لغة السلطة ورجال الدين...". لو كان داود عالم لسانيات أو كانت نكته مروية على لسان إحدى شخصيات زابوره، لكان من الممكن أن نفهم القصد ونختلف أو نتفق معه، بيد أنه يتحدث في برنامج أدبي بلغة سياسوية مبتذلة غير جديرة بمؤلف يزعم الكونية والاتزان والتنوير. على أي، إنها نكتة فاشلة لا يآخذ عليها، فهو يقول الكلام ونقيضه كما سنرى، ويطابق في ذلك كتاب العربية الذين ينتقدهم وينتقدونه، كتاب يسعون بدورهم لحيازة ذات الامتيازات عبر الترجمة وغيرها. ولمّا يفشل هؤلاء، نظرا لعجزهم عن بلورة خطاب جمالي وسياسي في آن يساومون على أساسه، ينطلقون في شتم الفرنسية، خالطين بين أدب اللغة وسياسة الدولة. إنّ كلاهما، داود وأعداؤه، صنف من المؤلفة قلوبهم، يتقوى إيمانهم مع تقوي الفيودالية الثقافية، وهما بذلك انعكاس لنفس "الكمّارة" (الوجه) المفضوحة على مرآة الوصولية والسجال الرأسمالي. حكاية الثعلب والتيس في إحدى خرافات جان دو لافونتين عن الحيوانات الناطقة، يلتقي ثعلب وتيس ظمآنان ويقرران النزول معا إلى البئر للارتواء. يخاطب الثعلب بعد ذلك التيس قائلا: "لا يكفينا الشرب، علينا الخروج من هنا. ارفع حافريكَ إلى أعلى، وقرنيك أيضاً". هكذا يتسلق الثعلب ظهر البهيمة الساذجة بعد إقناعها بضرورة النجاة المشتركة ويدعها عالقة في القعر. فمن الثعلب ومن التيس يا ترى؟ تقتنص النظام الإعلامي الفرنسي مجموعة من الكتاب والفنانين الأجانب ويقبل أن يتبادل معهم دور الثعلب والتيس، يمنحهم الجاه ويستغبيهم به، وكل مرة يسقط واحد في الحفرة، لكن الغاية متحققة بتخصيص دور التيس التعيس ب"المبدع المستنير"، المتورط في خطاب لا يعنيه بالضرورة، والموعود بشهرة ومجد يدمّرانه من فرط الظهور والتدجين، خطابيا وأسلوبيا، كما حدث مع الروائي عبد الله الطايع، وغيره كثير. في حالة داود، تسمح ازدواجية اللسان بنسخ الخطاب السياسي وتحويره حسب تنوع المتلقي وتشعب المصالح، تماما كما يفعل مثقف إسلاموي منفصم يدعى طارق رمضان عندما يناقش ويساوم الغربيين انطلاقا من الخطاب الديني وأواهم تجديده. لا يكتفي الثعلب بالخداع فحسب، فقد تضطره الظروف للكذب، ما بيّنه الروائي الجزائري رشيد بوجدرة بخصوص ادعاءات أطلقها بوعلام صنصال، واحد من ثعالب برية الأدب المغاربي المفرنس عن منع روايته "2084: نهاية العالم" في الجزائر، بغية الظفر بشفقة الإمبراطورية الإعلامية الفرانكوفونية. على هذا النحو، قد يترتب عن ازدواجية اللسان خطابٌ مزدوج، ويمكننا أن نسمع داود على قناة جزائرية فرانكوفونية وهو يرد على المنشط: "... حب الفرنسية هو تعبيرك وليس تعبيري، قولي هو أني أحب هذه اللغة وأحب الكتابة بها، ولا عقدة لي بهذا الخصوص ولا ضرورة لتبريره، كما ليس على من يكتب بالعربية أو الفارسية تبرير ذلك". كلما تحدث داود بالعربية أو الفرنسية داخل بلده صار أقل سياسوية، بل وعبّر حتى عن مواقف جمالية وسياسية دقيقة، لكنه كلما خاطب الآخر الفرنسي تحوّل إلى ببغاء ديماغوجي رتيب. دور رفض أن يلعبه، ولنذكر ذلك من باب الاستئناس، كل من محمد شكري ومحمد خير الدين عندما شاركا في برنامج Apostrophes، ويسير على الممتع أن يرى كيف تمسّك كل واحد منهما بأناقة لغوية وأسلوبية وبتصوره الخالص المحلي للأدب، وكيف دافع عن عمل الأدبي أمام القراءة السطحية للمنشط دانييل بيفو، بل وأمام مركزية أوربية كاملة في فهم الأدب المغربي المترجم أو المكتوب بالفرنسية. لم يعد الوقت يسمح بالدخول في سجالات عقيمة حول الهوية اللغوية في شمال إفريقيا، حتى لا نتحدث عن أشياء أخرى، فقد أصبح باليا تناول هذه القضية بالاحتكام إلى مدارس علم الأعراق واللسانيات والأنثروبولوجيا المتهافتة التي تحولت إلى استعراض تسويقي مثير للضحك والازدراء. في العام 2012، كان لي اتصال أول مع هذه الهزليات الفرانكوفونية، عندما دعيت بالصدفة للمشاركة في مائدة نقاش بخصوص "الكاتب المغربي وتعدد اللغات". نُظم اللقاء ضمن فعالية "مغرب الكتب" السنوي المنعقد بقصر بلدية باريس. كان من بين المشاركين فؤاد العروي، أحد أعضاء مشيخة بن جلون، ومحمد نضالي الذي تغيّب. كانت القاعة فسيحة ومليئة عن آخرها بوجوه سياسية وثقافية فرنسية عهدت مشاهدتها على التلفاز. بدا العروي منزعجا من تواجد شاب مجهول إلى جنبه، وتأسف مرارا على غياب زميله نضالي، قبل أن يشرع في شرح نظريته العبقرية عن ال"المصيبة اللسانية المغربية"، وهو كلام يطابق كلية خطاب داود في حيله وتكتيكه. قرأت نصي متلعثما، كأن على قلبي قلفة، وانصرفت من القاعة حانقا أدعو: اللهم اشرح صدري ويسّر أمري واحلل عقدة من لساني.