أبدى السيد وزير الدولة في حقوق الإنسان، الأستاذ المصطفى الرميد، من موقعه كوزير للعدل سابقا، رأيه بخصوص مسطرة تقديم المواطنين لشكاياتهم أمام المجلس الأعلى للسلطة القضائية، منتقدا نقطة فريدة وهي "اشتراط تضمين بيان هوية المشتكي في الشكاية"، وذلك بقوله في تدوينة له بتاريخ 11-09-2017، ما يلي: "معلوم أن الشكايات التي تقدم في هذا الباب، أشكال وألوان. نعم حينما يتعلق الأمر بشكاية بسبب الخرق الخطير لقانون الشكل أو الموضوع، مثلا، فإنه من الطبيعي أن يعلن المشتكي عن نفسه، لأنه في هذه الحالة ليس له من سبيل غير ذلك، لكن ما العمل إذا كان هناك مواطن يشتغل إلى جانب قاض فاسد، وأراد أن يبلغ عن فساده؟ هل نلزمه بذكر اسمه والإمضاء بتوقيعه ؟ وهل مع هذه الاشتراطات سنضمن وجود من يبلغ عن الفساد من الوسط القضائي والإداري ؟ ومثل ذلك معارف القاضي الفاسد وجيرانه !!! مع العلم أن حالات التبليغ عن الفساد يكون مصدرها في الغالب هذه الأوساط كما جرى العمل على ذلك عقودا من الزمن يعرفها كل من اشتغل في المؤسسات التي تعنى بشان القضاة". وبصرف النظر عن الخلط الذي وقع فيه قائل هذا الكلام بين الشكاية والوشاية، نظرا إلى الفوارق القانونية التي تميزهما عن بعضهما البعض، فقد أسس موقفه على مجموعة من المؤيدات، في كثير منها تغبيشٌ على المواطن وتشويش على عمل المجلس الأعلى للسلطة القضائية الجديد، بل في بعضها تلبيسٌ وتدليس، وبيان ذلك من عدة وجوه: أولها: أن قول الداعي إلى هذا الرأي: "لكن ما العمل إذا كان هناك مواطن يشتغل إلى جانب قاض فاسد، وأراد أن يبلغ عن فساده؟ هل نلزمه بذكر اسمه والإمضاء بتوقيعه ؟ وهل مع هذه الاشتراطات سنضمن وجود من يبلغ عن الفساد من الوسط القضائي والإداري ؟"، فيه تهويل عظيم للقضية، ذلك أن أجهزة الدولة تعلم جيدا الفاسد من الطالح في كل المؤسسات دون حاجة لأي مواطن في إرشادها، ومن ذلك وزارة العدل والحريات التي كان على رأسها الأستاذ مصطفى الرميد نفسه، وكانت بيده ملفات كل قضاة المملكة قاطبة، ولم نسمع يوما أنه أمر بالبحث فيما قد وصل إلى علمه من معطيات ومعلومات، سواء من خلال ما قد يكون مضمنا بالملفات المذكورة، أو ما رفعه إليه بعض المواطنين، أو ما أشارت بعض سائل الإعلام، بل ؛ كلنا يتذكر ما بات يعرف بقضية "قاضي العيون"، وكيف تم تدبيرها من طرف وزير العدل حينها رغم أن اسم المعني بها كان مكشوفا وليس مجهولا. ثانيها: ومما اعتُمد في التأسيس لهذا الرأي، أن الفصل 154 من الدستور نص على أنه: "تخضع المرافق العمومية لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية"، وقد علق على مضمونها الأستاذ الرميد بما يلي: "ولا أشك قيد أنملة في أن اشتراط بيان هوية المشتكي، سيمس في الصميم ما ينبغي أن يخضع له مرفق القضاء من محاسبة ومسؤولية". وفي هذا الاستدلال كفاية لتهافت الموقف المذكور، نظرا إلى أمرين اثنين: الأول: أن النص على إخضاع المرافق العمومية للمعايير الأربعة المتمثلة في: الجودة، والشفافية، والمحاسبة، والمسؤولية، لا يفيد في شيء القول بجواز تقديم شكاية ضد قاضي من طرف شخص مجهول ألبتة. الثاني: أن المعايير المذكورة متكاملة فيما بينها ومتعاضدة، ولا يجوز تجزيئها بما يوافق غرض النفس وهواها، بل ؛ يتعين أخذها كلية، بما فيها معيار الشفافية الذي لا مناص منه حتى في مواجهة القاضي، إذ كيف لعاقل أن يتصور العمل بمعيار الشفافية رغم أن من يشتكي بالقاضي أمام المرفق العمومي مجهول الهوية ولم يمتثل لذات المعيار ؟ ثالثها: علاوة على الفصل الآنف، تأسس الرأي محل التعليق على الفصل 156 من الدستور، الذي ينص على أنه: "تتلقى المرافق العمومية ملاحظات مرتفقيها واقتراحاتهم وتظلماتهم، وتؤمن تتبعها". متكلما عنه الداعي لذلك الموقف بقوله: "فمن أين لأحد أن يقيد حقا مطلقا ورد به نص الدستور بقيد يفرغ الحق من مضمونه بمقتضى نظام داخلي؟ إن واجب المرافق العمومية يقتضي تلقي التظلمات، كل التظلمات وتتبعها وليس وضع الموانع القانونية أمامها". فبغض النظر عما يكتنف هذا القول من تناقض مع الفكرة الأساس التي يدافع عنها القائل بهذا الرأي -المتمحورة حول جواز تقديم شكاية (وشاية) من طرف مواطن يشتغل مع القاضي بهذا الأخير وليس من طرف المرتفق-، فإن ما قيل عن سابقه ينطبق عليه تمام المطابقة، إذ إن النص المذكور، لا يدل، بأي حال من الأحوال، على جواز تقديم شكاية بهوية مجهولة، ذلك أن مؤدى لفظ "المرتفق" المنصوص عليه في الفصل 156 أعلاه، يدل على معنى كل من أراد الانتفاع أو الاستعانة بمرفق عمومي، وهو ما يتوجب معه أن يكون هذا الأخير معينا تعيينا نافيا للجهالة، وإلا سقطت عنه صفة "المرتفق" بالأساس، وافتقد مع ذلك صفة تقديم الشكاية من الأصل. رابعها: أن من مستند هذا الرأي، أيضا، المادة 86 من القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، التي تنص على أنه: "يتلقى الرئيس المنتدب للمجلس ما ينسب إلى القاضي من إخلال يمكن أن يكون محل متابعة تأديبية". معلقا على ذلك صاحبه بقوله: "معلوم أن المطلق يبقى على إطلاقه، ولا يمكن لقانون أدنى من مستوى النظام الداخلي أن يقيد مطلق الحق الوارد به قانون تنظيمي يكمل الدستور". وفي هذا المنحى من التأويل تدليسٌ وتلبيسٌ مشهودين بَيِّنَين، ذلك أن الفقرة الثانية من المادة المستشهد بها، والتي وقف عليها الأستاذ المصطفى الرميد دون أن يورد نصها تدليسا على القارئ من ذوي الاختصاصات غير القضائية والقانونية، تُقرر، بكل وضوح، أن المقصود من جملة "ما قد ينسب إلى القاضي من إخلال"، هو ما يتلقاه الرئيس المنتدب من "تظلمات وشكايات"، وأن مسطرة تدبير هاتين الأخيرتين يحددها النظام الداخلي للمجلس دون غيره من القوانين مهما علت رتبتها أو دنت، بخلاف ما جاء في الكلام أعلاه، ونصها كما يلي: "يحدد النظام الداخلي للمجلس كيفية تدبير ومعالجة التظلمات والشكايات". خامسها: استشهد صاحب هذا الرأي بنص المادة 13 من اتفاقية مكافحة الفساد التي صادق عليها المغرب، وأصبحت جزءا من قانونه الوطني، إذ جاء فيها أنه يتعين على: "كل دولة طرف أن توفر للناس سبل الاتصال بهيئات مكافحة الفساد"، وقد علق على ذلك، بقوله: "وهي هنا المجلس الأعلى للسلطة القضائية، دون بيان هوياتهم". وهذا انحراف بينٌ في الاستدلال، طالما أن المقصود بهيآت مكافحة الفساد، هو مختلف المؤسسات التي أنشأتها الدولة خصيصا لمحاربة كل أشكال الفساد المالي والاقتصادي، أما المجلس الأعلى للسلطة القضائية، فقد تحددت مهمته بصراحة نص الفصل 113 من الدستور، قائلا: "يسهر المجلس الأعلى للسلطة القضائية على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة، ولا سيما فيما يخص استقلالهم وتعيينهم وترقيتهم وتقاعدهم وتأديبهم"، فلا يمكن بأي حال من الأحوال، بدليل هذا الفصل، اعتبار المجلس الأعلى للسلطة القضائية هيأة من الهيآت المذكورة ألبتة. بيد أن ما قد يجترح من تساؤل في طرح هذا الرأي، هو: لماذا كل هذا الخوف والتوجس من كشف هوية المبلغ على فساد بعض القضاة ؟ أَوَليس من النجاعة محاربة الفساد في منظومة العدالة وفق معيار الشفافية والنزاهة بعيدا عن المزايدات السياسوية ؟