الحراك الشعبي ومستقبل الإصلاح في المغرب....ماذا تقول مراكز الأبحاث الأمريكية؟ لقد أثار الحراك الشعبي الذي عرفه الوطن العربي عموما منذ اندلاع الثورة التونسية والمصرية اهتمام الباحثين ومراكز البحث الغربية، فبقدر ما تفاجئ الجميع بهذه الثورات، بقدر ما جعلت النماذج التحليلية التي كان يعتمدها جل الدارسين للوطن العربي في المحك، فأغلب المقولات التي كانت تردد على لسان وأقلام الباحثين الغربيين حول المنطقة قد تهاوت. فقد كانت الأطر التحليلية التي يعتمد عليها أغلب الباحثين تستند على مقولة استمرارية الأنظمة الاستبدادية في الحكم في المنطقة، وأن التغيير العميق والجذري للنظم الإستبدادية القائمة أمر مستبعد إم لم يكن مستحيلا، وبالتالي فقد كانت الإستعدادات النفسية والفكرية لمعظم الباحثين مجهزة للتكيف مع الوضع الحالي والعمل على تبريره. ولم تستطع المراكز التنبؤ بأن تقوم الثورات العربية على هذا الشكل في مصر وتونس، من خلال اعتمادها على مبدأ النزول السلمي إلى الشوارع. ونتيجة لهذا الحراك الشعبي القوي، سعت العديد من المؤسسات البحثية عبر العالم، وبالخصوص في الولاياتالمتحدة إلى العمل على فهم "الربيع العربي" وتحديد اسبابه ووصف أبعاده وتدعياته الراهنة والمستقبلية، ورسم خريطة لأهم الفاعلين فيه، ومحاولة التنبؤ بمستقبل هذا الحراك. المغرب: نموذج خاص في التغيير لقد كان المغرب أحد أبرز الدول التي تناولتها مراكز البحث الأمريكية بالبحث والتحليل، فقد تم إنجاز عشرات المقالات الصحفية والدراسات التحليلية، حاولت كلها أن تعمل على فهم الحراك الشعبي الذي عاشه ويعيشه المغرب، على ضوء الثورات العربية، والعمل على إجراء مقارنات بينه وبين ما يقع في دول أخرى، ورصد نقاط الإلتقاء ونقاط الإختلاف، وخصوصيات كل تجربة على حدة. من خلال استقراء أهم الدراسات والأبحاث التي أنجزت من طرف مؤسسات بحثية مرموقة في الولاياتالمتحدة، والتي وصلت إلى حوالي 10 دراسات منذ انطلاق الحراك الشعبي في المغرب، تبرز خلاصة أولية مفادها أن التجربة المغربية في الإصلاح بقدر ما تأثرت بالواقع الإقليمي الذي تعيشه، بقدر ما تمتلك من الخصوصية، والفكرة العامة التي أجمعت حولها هذه الدراسات هي أن الإصلاحات المنجزة حاليا في المغرب وإن كانت تبدو جدية في عدد من عناوينها، إلا أنها لا تدعو أن تكون محاولة وقائية من اجل تفادي الوقوع في خطا مواجهة المطالب الشعبية بالقمع، مما يؤجج الوضع أكثر، وقدرة النظام السياسي في المغرب على التفاعل مع محيطه المحلي والإقليمي وقدرته على امتصاص الغضب الشعبي من دون أن يؤثر ذلك على الإستقرار. فقد عبر أحمد شادي (مدير أبحاث في مركز بروكينز الدوحة) في دراسة منشورة لمعهد بروكينز بان النظام السياسي في المغرب عرف كيف يدبر هذه المرحلة الحرجة، فعلى العكس من الأنظمة السياسية الأخرى في كل من مصر وتونس، والتي ألقت باللوم على شعوبها، وبالمؤامرات الخارجية، عبر خرجات تلفزية كارثية، سعى الملك محمد السادس إلى تقديم "نموذج" مختلف، إعلان سلسلة من الإصلاحات السياسية والدستورية، بالرغم من انها لا ترقى إلى ملكية برلمانية في صيغتها البريطانية، إلا أن أحمد شادي يعتبرها تعبيرا عن الرغبة في الحفاظ على السلطة، فالتنازلات التي قام بها الملك يمكن التعبير عنها بكونها نموذج إصلاحي "استباقي". في هذا النموذج من الإصلاحات، يأخذ المستبدون الإحتجاجات محمل الجد، ولهذا فإنهم يقومون بإعلان إصلاحات كبيرة-مثل الإتجاه نحو حكومات منتخبة وإطلاق المعتقلين السياسيين، وتعيين لجان حقيقية من أجل تقديم توصيات فعالة. ويعطون الناس الأمل عبر استعمال كلمات رنانة مثل: التغيير، الديمقراطية، الإصلاح، المؤسسات، المسائلة. وبهذه الطريقة نجح النظام في المغرب من أن يسرق بعض الزخم من حركة 20 فبراير، خصوصا وأن تصويت نسبة كبيرة من الناس ب "نعم" على الدستور الجديد، سيجعل الملكية تقول بأن الآلاف متشبثون بالعرش. الإصلاح الدستوري: خطوة ضرورية ولكنها غير كافية لقد أبرز هؤلاء الباحثون بأن الخطوة الإستباقية التي قام بها النظام السياسي في المغرب، تحسب له، فقد استبق الأحداث وعمل على إجراءات تحد من ارتفاع حدة المطالب الشعبية، وانتقالها من مطالب إصلاحية إلى مطالب ثورية، مثلما وقع في كل من مصر وتونس حين صم النظام السياسي أذنيه عن الشارع، وانتقل إلى التهديد والتخوين وفكر المؤامرة. لقد تجلت أبرز تجليات الإصلاح التي نهجها المغرب في الإصلاحات الدستورية التي أطلق ورشها بسبب الضغط الشعبي الذي مارسته حركة 20 فبراير، وعجلت بخروجه إلى الواقع. في نفس الإتجاه تذهب دراسة أخرى منجزة من طرف مارينا أوتاواي (مديرة برنامج الشرق الأوسط في معهد كارنيجي) من خلال دراسة منشورة في معهد كارنيجي خلال شهر يونيو الماضي، حاولت من خلالها الإجابة على السؤال التالي، هل يعتبر الإصلاح الدستوري الجديد تغييرا حقيقيا، ام لا يعدو أن يكون مجرد مراوحة في نفس المكان. وقد اعتبرت بأن الطريقة التي تم بها صياغة الدستور الحالي لا تختلف عن الطريقة التي تمت في السابق، أي عن طريق لجنة من الخبراء المعيّنين من الملك، وليس من خلال جمعية تأسيسية مُنتَخَبة أو هيئة تمثيلية أخرى. ولذا تعتبر أوتاواي بأن الدستور الحالي يُصنَّف ضمن فئة الدساتير الممنوحة إلى الشعب من الملك، وليس تلك التي تم صوغها بواسطة منظمة تمثيلية تجسّد السيادة الشعبية. باعتبار أن المبادئ التوجيهية للدستور الجديد حُدِّدت في خطاب ألقاه الملك محمد السادس في 9 مارس حيث عملت اللجنة لاحقاً على تجسيد مسودّة مقدّمة من القصر، أو كما يقول المغاربة، "المخزن". كانت اللجنة برئاسة عبد اللطيف المنوني، أحد مستشاري الملك، وهو ما لايدع مجالاً لأي شك بشأن الجهة التي كانت تأتي منها التوجيهات. وتضيف الباحثة بأنه بالرغم من كون عملية التشاور والمشاركة محدودة في صياغة الدستور الحالي، باعتبار أن أعضاء "الآلية" لم يروا مسودّة مكتوبة إلا في 16 يونيو، أي قبل يوم واحد من عرض الملك لها على الأمة في خطاب تلفزيوني. إلا أنها تعتبر بأن هذه العملية تبدو أكثر انفتاحاً من سابقتها. فقد قبلت الأحزاب السياسية الرئيسة الممثّلة في البرلمان العملية وأوضحت أنها ستقوم بحملة من أجل التصويت ب"نعم" في الاستفتاء. سلطات الملك؟ تؤكد مارينا أوتاواي الباحثة في معهد كارنيجي، بأن الدستور الجديد لم يقم بإضعاف دور الملك، بل بالعكس، فقد أبقى للملك ثلاثة مجالات بوصفها مجاله الحصري: قضايا الدين والأمن، والخيارات الاستراتيجية الرئيسة للسياسة العامة. فهو الذي يترأس المجلس الوزاري، والمجلس العلمي الأعلى والمجلس الأعلى للأمن، وبالإضافة إلى ذلك، بقيت للملك صفة التحكيم بين القوى السياسية. وهو ما يجعله بموجب هذه الألقاب أن يسيطر تماماً على جميع القرارات الهامة، إذا اختار ذلك. إلا ان الباحثة لا تذهب على إعطاء الملك صلاحيات واسعة بدون قيود، فقد أكدت على أن ثمّة قيود أساسية جديدة على سلطة الملك. فهو غير قادر على اختيار أي رئيس للوزراء يريده، بل يتعيّن عليه احترام نتائج الانتخابات وتسمية "رئيس الحكومة"، كما يسمّى رئيس الوزراء الآن، من الحزب الذي حصل على أكبر عدد من الأصوات. ولن يشارك الملك بعد الآن في جلسات مجلس الوزراء ويترأسّها، وإنما رئيس الحكومة هو الذي يترأس الآن ما أُعيدت تسميته بمجلس الحكومة. ومع ذلك، فإن الملك يرأس مجلس الوزراء، وهو في هذه الحالة لايزال يسمّى مجلس الوزراء، عندما تكون القضايا الأمنية أو القرارات السياسية الاستراتيجية على المحكّ. وبما أن الدستور لايحدّد بوضوح مايمكن أن يشكّل قراراً استراتيجياً، يبدو أن القرار متروك للملك نفسه. فموقعه كحَكَم يمنحه أيضاً سلطة المشاركة في القضايا الأكثر أهمية. وبالرغم من تأكيد الباحثة على أن الدستور وسّع سلطة البرلمان، وأعطاه إمكانية التشريع في عظم القضايا، وهو يتّخذ خطوات لحماية استقلال القضاء، وزاد دور عدد من اللجان المستقلة. لكنها تستطرد وتعتبر بأن ما لَم يفعله الدستور بشكل واضح لا لُبس فيه هو الحدّ من سلطة الملك. السيناريوهات المستقبلية هذا ما دفع بكل من أنور بوخرص وأحمد شادي في مقالة حول مستقبل الإصلاح في المغرب بمعهد بروكينز بالقول بأن بان هناك فرصة غير مسبوقة لكلا الجانبين-الملك والأحزاب-، فالدستور الجديد يقوي البرلمان والأحزاب من اجل أن تعلب دورا فعالا-إذا أرادوا القيام بذلك-. فخطر الثورة واللإستقرار-بالإضافة إلى حركاتهم الإحتجاجية الداخلية- تعطيهم قوة تفاوضية مع الملك. ويطرح الباحثان إمكانيتان أو سيناريوهين مستقبليين أمام مسار الإصلاح في المغرب، الأول يرتبط بكون الملك يمكنه أن يستعمل إمتيازاته التي يعطيها له الدستور ليعيق التغيير الحقيقي. فالذي يختاره، أو ما لا يريد فعله، يبدو حاسما. السيناريو الثاني، وإن كان يستبعده الباحثان، وهو الذي تم وصفه بأنه أحسن سيناريو، وهو ان يتبع الملك روح الدستور بدلا من حَرفية الدستور، واحترام إرادة شعبه، ومقاومة الرغبة في التدخل في شؤون الحكومة المنتخبة. بيستخلص الباحثان بانه إذا أدت هذه الإصلاحات الدستورية في المغرب إلى فصل للسلط، واستقلال التشريع والقضاء، وخروح الملكية من التدبير اليومي، فإن التأثيرات ستكون حينئذ دالة. هناك-وهناك فقط- يمكن اعتبار المغرب ك"نموذج". تتوصل الباحثة مارينا اوتاوي إلى نفس الإستنتاج، حيث تعتبر بأن المدى الذي يمكن أن يمضي إليه الإصلاح، الذي يقوم به الملك من أعلى إلى أسفل، ربما يعتمد أيضاً على قوة الدفع من أسفل إلى أعلى من جانب الأحزاب السياسية والمحتجّين. ملاحظات وانتقادات: انطلاقا من تركيب هذه الدراسات، يبدو أن الإتجاه العام الغالب لهذه الدراسات يتجه على اعتبار النموذج المغربي في الإصلاح مختلفا عن باقي النماذج الأخرى، من حيث قدرته على القيام بخطوات استباقية تخفف من الضغط الشعبي، عبر سلسلة من الإجراءات في المجال السياسي والإقتصادي والإجتماعي، الهادف إلى عزل حركة الشارع عن المجتمع، ومن جهة أخرى تؤكد هذه الدراسات على أن هذه الإصلاحات غير كافية للإنتقال من الإستبداد نحو الديمقراطية، باعتبار أن الوضع الحالي ما زال يراوح مكانه، وبأن السيناريوهات مفتوحة على كل الإحتمالات، بما فيها السيناريو التراجعي. وبالرغم من ان هذه الدراسات حاولت أن تكون متوازنة قدر الإمكان، إلا أنها لا تخلو من ملاحظات، تتجلى الأولى في كون الباحثين الذين أنجزوا هذه الدراسة، اعتمدوا في الغالب على ما نشر في وسائل الإعلام، ثم لقاءات مع الفاعلين (وقد أجرى كاتب هذه الدراسة عددا من المقابلات مع هؤلاء الباحثين)، إلا ان العديد من المعطيات والقضايا لم يتم التعمق فيها، أو تقديم دلائل كافية حولها، مثل بالإضافة إلى بعض الأخطاء في المعطيات المقدمة، مثل قول الباحثة مارينا اوتاواي بأن عبد اللطيف المنوني هو مستشار للملك، في حين أنه عضو بالمجلس الدستوري وأستاذ القانون الدستوري بكلية الحقوق بجامعة محمد الخامس، ورئيس الجمعية المغربية للقانون الدستوري. كما تبرز ملاحظة اخرى تتعلق بنفسية الكتابة، فالنفس العام الذي تمت كتابة هذه الدراسات يمكن تسميته ب"نصف تشاؤمي" وإن كانت جرعة التشاؤم في دراسة أحمد شادي أكثر دراسة مارينا اوتاواي، فقد اعتبر شادي بانه يوجد أسباب ضعيفة جدا للتفاؤل بمشروع الدستور الجديد، وبأن مسار الإصلاح في المغرب غير مضمون ومفتوح على إمكانية الإلتفاف عليه إذا ما أراد النظام القيام بذلك، وذلك باعتبار موضوعي يتجلى في عناصر الضعف الذاتي التي تميز الفاعل الحزبي وحركة المحتجين في الشارع والتي لم تستطع أن تغير من كفة موازين القوى لصالحها.