الدبلوماسية المغربية في شخص وزير الخارجية تعرضت لهجوم عنيف في الموزمبيق، واستفزاز خطير، أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه يحمل كرها وينم عن حقد لا مثيل له تجاه بلدنا المغرب؛ فهو ليس بحادث عرضي يمكن تجاوزه بسهولة والتغاضي عنه وكأن شيئا لم يطرأ ولم يمس هبة ومكانة المغرب، على الصعيد الدولي وفي علاقاته الإفريقية بشكل خاص، بل هي واقعة يمكن استنطاق مكنونها وحيثياتها من خلال استنتاجات تتمحور حول الأبعاد التالية: البعد الأول: معطى البوليساريو لازال حاضرا بقوة في أجندات العديد من الرؤساء الأفارقة، خاصة "الخصوم" التقليديون للمغرب؛ فرغم المجهود الذي تبذله الدبلوماسية المغربية لتصحيح الوضع وإعادة ترتيب العديد من العلاقات الإفريقية المغربية، سواء عبر العلاقات الثنائية أو من خلال منظمة الاتحاد الإفريقي، فإن الدبلوماسية المغربية لازالت تواجه مشاكل في هذا الصدد. البعد الثاني: الدبلوماسية المغربية تواجه رؤساء أفارقة بلغوا من السن عتيا، ولازالوا يفكرون بعقلية سبعينيات القرن الماضي وبمنطق الإمبراطور الذي تتجسد فيه الدولة؛ لذلك من الصعب إقناع بعض هؤلاء، كالرئيس الموزمبيقي، بأن العالم قد شهد تحولات جذرية منذ تسعينيات القرن العشرين، وبأن عالم اليوم لم يعد يؤمن بوجود أو بالأحرى تشكل دويلات مجهريه فاشلة من أساسها، ونموذج جنوب السودان أبرز مثال في هذا الإطار، خاصة في القارة الإفريقية التي أنهكتها الحروب والتوجهات القبلية. ومن ثمة فما على الدبلوماسية المغربية إلا أن تفكر في ابتكار أدوات مستحدثة لمجابهة هؤلاء الشيوخ الأفارقة الذين هرموا فوق كراسي الحكم، وهم في حقيقة الأمر يوظفون أورق عدة، كورقة البوليساريو، في محاولة منهم لإثبات شرعية الحكم في بلادهم وتحويل الأنظار صوب الخارج للتغطية على الفظائع والانتهاكات الداخلية التي تقع في دولهم. البعد الثالث: الدبلوماسية المغربية لم تستطع إلى حد الآن أن تخلخل التحالف الكلاسيكي الجزائريالجنوب إفريقي والدول "الصغيرة" التي تدور في فلكه. ورغم "الانتصار" على الحلف ذاته في مواجهة العودة إلى منظمة الاتحاد الإفريقي، فواقعة الموزمبيق، وما طرأ في بعض المناسبات ذات البعد الإفريقي، تبين بالملموس أن هذا الحلف لازال قائما وحاضرا في التفاعلات التي تتم في إطار القارة السمراء، ومن ثمة لازال يشكل حجرة عثرة أمام العودة الكاملة للملكة المغربية إلى الحضن الإفريقي. البعد الرابع: إذا كانت إفريقيا تشكل عمقا إستراتيجيا لا محيد عنه بالنسبة للمغرب، كما تعبر عن ذلك الدبلوماسية المغربية، فهذا يعني أن مصالح المغرب ومصيره المستقبلي يرتبط بدون شك بالوضع القائم في بلدان القارة، وأيضا بما تفرزه تفاعلات المجابهة مع التيار/ الحلف المعاكس لمصالح المملكة في القارة الإفريقية. ومن ثمة فواقعة الموزمبيق تؤكد من جديد أن العمق الإفريقي للمغرب تشاركه فيه وتتقاسمه معه لا محالة قوى جهوية منافسة، بل أكثر من ذلك عدائية، دون أن نغفل القوى الفاعلة على الصعيد الدولي في هذا المجال الإفريقي الحيوي.. لذلك فكل هاته القوى تعمل، بمفردها أو بتنسيق بينها، على ألا يشتغل المغرب بهدوء في علاقته الدولية الإفريقية، فتروم من موقعها نسف أي إستراتجية ينسجها للتموقع جيدا في القارة الإفريقية. البعد الخامس: واقعة الموزمبيق قد يعتبرها البعض مجرد ردة فعل على خطاب 20 غشت، لكون الملك أفرد فيه هامشا كبيرا لعلاقة المغرب بإفريقيا وأهميتها بالنسبة للمملكة المغربية، لكن ذلك التصرف الأرعن من قبل الموزمبيقيين ليس بالحدث المعزول، بل يظهر وجود سياسة ممنهجة مخطط لها في إطار إستراتيجية إرباك موجهة ضد المملكة، ليس فقط في المؤتمرات ذي البعد الإفريقي، بل في كل المناسبات الدولية التي تتاح فيها الفرصة لأعداء الوحدة الترابية؛ فهي إستراتيجية تهدف كل مرة إلى إثارة ضجة حول قضية الصحراء ومحاولة البوليساريو لعب دور المظلومية وإظهار المغرب على أنه لا يحترم "حقوق الصحراويين"؛ وهو لعب صبياني جبان ومعتاد ومكشوف، تلعب فيه الجزائر دورا كبيرا لإفشال أي محاولة مغربية تذهب في اتجاه حل قضية الصحراء. البعد السادس: لم نلمس إدانات واضحة وقوية لدول إفريقية بخصوص السلوك الموزمبيقي غير المقبول تجاه الوفد المغربي؛ كما لم نشهد تعاطفا أو تضامنا واسعا يليه تصحيح الوضع وطرد كل جهة لم تتوفر فيها الشروط اللازمة لحضور المؤتمر الياباني الإفريقي، فقد حدث ما يشبه غض الطرف عن كل الممارسات المشينة في حق الوفد المغربي. فلا تكفي التصفيقات على الدخول إلى قاعة الاجتماعات أو حتى الاعتذار في أمور مستفزة كهذه، استهدفت شخصا يمثل الدولة المغربية، في خرق سافر لكل القواعد والأعراف الدولية، وكل ما تفرضه الممارسة الدولية من برتوكول في مثل هكذا مناسبات. من كل هذا نرى أن حادثة الموزمبيق يمكن اعتمادها من طرف الدبلوماسية المغربية كترمومتر لتقيس به درجة ومكانة العلاقات المغربية مع تلك الدول التي يعتبرها المغرب من أصدقائه وحلفائه في القارة الإفريقية. إنها واقعة قد تفيد الدبلوماسية المغربية في الوقوف عند درجة الصداقة وإعادة تقييمها وكشف حقيقتها سياسيا واقتصاديا؛ فليس هنالك أصدقاء دائمون، بل مصالح دائمة. البعد السابع: تصرف الوفد المغربي لم يظهر أن هناك استعداد قبليا لمثل هكذا مواقف، فالاحتكاك إلى حد التشابك بالأيدي لم يكن ليقع فيه الوفد المغربي، وإن دفع لذلك عنوة؛ فلو وضعت بشكلي قبلي استباقي الخطة ألف، وباء، وجيم، لمواجهة حالات كهذه، لما تم تعنيف الوفد، خاصة أن الموزمبيق لم تكن تدرج ضمن لائحة الدول الأصدقاء للملكة المغربية، إذ كانت ولازالت تدعم أطروحة الانفصال؛ ومن ثمة كان حري بالدبلوماسية المغربية أن تتوقع احتمالات أن تصدر منها تصرفات غير لائقة تجاه الوفد المغربي، كي تتفادى الوقوع في مثل هذه المواقف التي تتطلب ربما ردا أقوى وأفضل من فعل يعتمد القوة الجسدية عوض تسجيل مواقف سياسية أكثر رصانة. البعد الثامن: يجب الانتباه إلى أن افتعال أحداث كواقعة الموزمبيق يدفع في اتجاه تشتيت تركيز الدبلوماسية المغربية والتشويش عليها، فهي خطوة تكتيكية تجعل مجهود الدبلوماسية المغربية ينصرف في الدفاع عن نفسها دون أن يترك لها المجال لإمكانية التفكير في نهج دبلوماسية هجومية وترتيب اتخاذ خطوات استباقية من شأنها حماية مصالح المغرب، سواء منها ما يتعلق بملف الوحدة الترابية أو المصالح السياسية والاقتصادية في إفريقيا. ففي وقت كانت الدبلوماسية المغربية منشغلة بهذه الواقعة، كانت البوليساريو تحصل على مساعدات "إنسانية" من الاتحاد الأوروبي- وإن كنا لسنا ضد مسألة المساعدات الإنسانية لإخواننا المحتجزين في مخيمات تندوف- ورغم أنها ستقدم في إطار برنامج للأمم المتحدة، لكن المثير أنها سوف تتم عبر الجزائر. هذا بالرغم من أن أحد المكاتب الأوروبية المختصة في مكافحة الفساد سبق أن ضبط اختلاسات وتهريبا من طرف جزائريين وقيادة البوليساريو للمساعدات التي توجه لمحتجزي تندوف.. فالجزائر لها سوابق في التلاعب بهذه المساعدات، كما أنها ليست طرفا محايدا في ملف الصحراء حتى يتم تحويل المساعدات عبرها إلى محتجزي تندوف، لذلك كان حريا أن يتم تحويلها عبر جهات مستقلة ومحايدة. هذا دون أن ننسى أن مسألة المساعدات الإنسانية يجب أن ترتبط بشكل أوتوماتيكي بإحصاء المحتجزين.. وهذه رواية أخرى لم توفق فيها الدبلوماسية المغربية، رغم أن الأممالمتحدة نفسها دعت في قراراتها إلى ضرورة إحصاء سكان مخيمات تندوف. البعد التاسع: العودة إلى إفريقيا بقوة رهان إستراتيجي بالنسبة للدبلوماسية المغربية، وتهدف من خلاله تحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية؛ فالتوجه نحو القارة الإفريقية مسألة مهمة، لكون التحليل الجيوسياسي للشأن الإفريقي يؤكد أن المستقبل يكمن في القارة السمراء، وهو ما يبرزه تزاحم القوى الكبرى حولها بشكل غير مسبوق بغرض التموقع في إطارها والحصول على جزء من الكعكة الإفريقية. وما التواجد الياباني عبر تنظيم مؤتمر "تيكاد" إلا تجسيد ملموس لهذا المنظور، ومن ثمة فعلى الفاعلين الجهويين الذين يطمحون إلى تحقيق مكانة إقليمية استحضار كون القوى الكبرى لن تسمح بمنافسة أو بتمدد عاد لهم في المنطقة، خاصة إذا كانت إستراتيجياتهم لا تنسجم أو لا تتوافق مع ما تريد أن تحصل عليه القوى الاقتصادية الكبرى في إفريقيا. ومن ثمة فصراع المصالح والتنافس في القارة السمراء سيبقي دون شك قضية الصحراء كورقة يستعملها خصوم المغرب على الصعيد الإفريقي، وقد توظفها القوى الكبرى في كل مرة لربح مكاسب اقتصادية وسياسية، أو حينما ترى أن السياسة الخارجية المغربية تجاه المنطقة لا تنسجم مع مصالحها الإستراتيجية. وهنا لا بد أن نستحضر فزاعة حقوق الإنسان التي تلجأ إليها أطراف دولية، فما مرة مثلا حاول جناح في الإدارة الأمريكية الضغط بها عبر الدفع في اتجاه إدراجها في مهام المينورسو، خاصة في الأوقات التي تحتاج أمريكا إلى تسهيلات جزائرية بخصوص مواردها الغازية والبترولية. *أستاذ جامعي بكلية الحقوق أكدال-الرباط