يُقر المفكر المغربي عبد الله العروي، بمعرفته التاريخية الرصينة، بأن الدولة في بلادنا متقدمةٌ على المجتمع (لأسباب معروفة)، ولهذا السبب بالذات يقع على عاتقها أمر تحديثه وتطويره، ما يجعل الحاجة إليها تاريخية. غير أن العروي، بنباهته المعهودة، يستدرك ويضيف إلى هذه الحقيقة اشتراطا تاريخيا آخر، وهو ما أسماه القطيعة المنهجية مع العوامل التي كانت سبباً في تأخرنا التاريخي. والقطيعة هنا ليست سوى ذلك الفعل الثوري الممتد في الزمن، والذي يجُبُّ المجتمع الذي قبله، الغارق في متاهات التقليد. ولبلوغ هذه الغاية، لا مناص من تدشين ثورة في نظام الشرعيات، أي العمل على إعادة بناء شرعيات الدولة والمجتمع على قوام جديد. والثورة، تعريفاً، تعني بناء نظام اجتماعي جديد خرج من رحم نظام قديم قد يكون فقد أسباب استمراريته بفعل تآكل موارد شرعيته التي هزّتْ كيانه وشلّتْ توازنه وفاعليته، وأضعفت مقبوليته والحاجة التاريخية إليه. لذلك، لم تتردد الكثير من المجتمعات الواقعة تحت ضغط التحولات الاجتماعية الكبرى في الاجتهاد في البحث عن مصادر جديدة للشرعية أو تجديد أخرى، تكون حاملة لطاقة مُولدة لديناميات مجتمعية دافعة لتحولات عميقة ونقلات نوعية، تحدث ثورات وقطائع مع الوضع السابق الذي استنفذ صلاحيته أو يكاد. والثورة لا تتحقق بمجرد صياغة خطاطة ذهنية أو الاستئناس بشبكة معيارية وقع استيراد تفاصيلها من خارج زمانها ومكانها، بغية إسقاطها أو توطينها في مجتمعاتٍ ببنياتٍ وذهنياتٍ وسياقاتٍ مختلفة من حيث تكوينها وطبيعة أنظمتها السياسية وإيقاع تطورها التاريخي. وهذه الحقيقة تمت معاينتها واستنتاجها من وحي تحولات المجتمعات وأحكام التاريخ، ما يصبغ على مفهوم الثورة تاريخيتها، أي خضوعها لزمنية المجتمع والسياق الذي أفرزها. وقد أسهب رواد فكر الحداثة والتاريخ، وبخاصة منهم علماء الاجتماع والسياسة، في بسط نظريات وأطروحات مُجددة ومُغايرة للمفهوم الكلاسيكي للتغيير الاجتماعي، الذي لم يكن يرى سوى العنف كوسيلةٍ وحيدةٍ للتغيير. وقد جرت أمام أعيننا وقائع سياسية وانفجارات اجتماعية وتغيرات اقتصادية، محمولة على موجة العولمة الكاسحة، وأحدثت هزات في البديهيات والقناعات كما في البنى والإطارات الاجتماعية. وقع ذلك في العالم بأسره، إذ لم يعد التغيير الاجتماعي هنا يتوسل الأساليب والأدوات العنيفة نفسها، وإن كان يُبقي، ظاهريا، على الأهداف العليا نفسها للثورة عبر الحفاظ على مضامينها الاجتماعية والثقافية والسياسية ذات الصلة بالديمقراطية والحرية وقيم المواطنة والتنمية الاجتماعية. والمغرب لا يشذ عن هذه القاعدة بعد أن اهتدى إلى تدشين ثورته الخاصة، الهادئة والمتدرجة، إذ تعاقبت حلقاتها وتراكمت منجزاتها على امتداد فترات زمنية متباينة، رغم أنها لم تخضع في مجملها لقطائع كبرى بالمفهوم التاريخي الذي ذكرناه أعلاه. يكفي أن نقارن مغرب الأمس بمغرب اليوم، حتى يتبين لنا حجم التحولات الكبيرة التي مست عمق البنى الاقتصادية والمؤسساتية والثقافية والقيمية والذهنية، والتي أضحت تُعبد الطريق نحو ولادة مجتمع جديد يختلف عن سابقه في تمثل تجليات الحداثة في الدولة والديمقراطية ونظام القيم والمواطنة والنمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية. وبما أن في جوف كل ثورة تنمو ثورةٌ مضادة، فإن أكبر عائق يعترض عملية التحول التاريخي هذه هو ثقل المواريث التقليدية وتجلياتها في المجال السياسي، متمثلة في سطوة ثقافة محافظة محمولة على صهوة قوى اجتماعية مؤثرة في مستويات ومسارات إنتاج القرار العمومي، وتقوم بأدوار معاكسةٍ للخطوات الإصلاحية ومقاومةٍ للدعوات التحديثية التي تفرض نفسها في لحظةٍ ما من تاريخ الانتقال الثوري الهادئ ذاك. إنها حركية كابحة لأي فعل تنموي يراد له أن يتبلور داخل المجال السياسي، وفي القلب منه مجال السلطة، تُجليها ثقافة عوجاء وسلوكات عرجاء، لا تلبث أن تفيض عن مجالها الأم وتقذف بشظايا عنفها وتوتراتها إلى المجالين الاقتصادي والثقافي؛ وهي لحظة الانحراف الوظيفي الخطير في سلوك الفاعل السياسي، الذي ينتقل فيه الأفراد والمؤسسات من لعب دور المنقذ من حالة الانسداد، إلى استعارة دور الكابح والممتنع عن التطور. ولأن المجال السياسي هنا، هو مجال الدولة باعتباره المختبر والإطار المرجعي الحاضن والمولد للشرعيات الحديثة المبنية على ثالوث الديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية، بحسبانها عوامل مُهيكلة لما يصطلح عليه بالتنمية الديمقراطية الشاملة، فإن أي تجاهل لهذه الشروط التاريخية المتصلة بالدولة، تكويناً واستمراراً وتطوراً، إنما هو مغامرةٌ تاريخيةٌ ومقامرةٌ سياسيةٌ بوحدة الاجتماع الوطني، وضربٌ لمشروعية الكيان الجامع. ولنا في ما يقع في البلاد العربية من ضروب الفتن ومآسي الاحتراب الداخلي، الدليل التاريخي القاطع الذي لا تخطئه العين.