بعدما شهدت سنة 2016 توترا حادا وغير مسبوق بين الدبلوماسية المغربية من جهة، والأمين العام للأمم المتحدة وممثله الشخصي من جهة أخرى، تشهد سنة 2017 تحولات جذرية، خاصة على مستوى تركيبة الفريق الأممي الذي يشرف على ملف الصحراء. فبعد تعيين البرتغالي السيد أنطونيو غوتيرتس أمينا عاما للأمم المتحدة مطلع السنة الجارية، جاء الدور على الرئيس الألماني الأسبق كولر، بعد تعيينه مبعوثا أمميا إلى الصحراء. وفي ظل هذه المتغيرات، فقد أصبحت أوروبا تمسك بزمام الأمور في هذا الملف المعقد، بعد سنوات طويلة من الغياب، منذ إقالة الدبلوماسي الهولندي بيتر فان والسوم، الذي خلص من خلال متابعته للملف، بشكل موضوعي ودقيق، إلى استحالة تنظيم استفتاء بشأن الصحراء المغربية. صحيح أن كلا المنصبين لا يلعبان أدوارا تقريرية في ملف الصحراء؛ لكن المواقف الأخيرة لكل من بان كي مون و كريستوفر روس أرهقت كثيرا الدبلوماسية المغربية، وكادت أن تؤدي بملف الصحراء إلى ما لا تحمد عقباه. فالأول، وعبر التقارير التي كان يرفعها إلى مجلس الأمن الدولي، أعطى للإدارة الأمريكية، هامشا كبيرا للمناورة، من أجل الضغط على المغرب وفق مصالحها الخاصة. كما عمل على تبني مواقف جديدة للأمانة العامة للأمم المتحدة، سعى جاهدا إلى فرضها كأمر واقع، من خلال تضمينها تقارير مجلس الأمن الدولي؛ وهو ما جعل مهمة خلفه أكثر تعقيدا وتشعبا. أما المسؤول الثاني، فمواقفه المعلنة لم تكن تمثل إرادة الأممالمتحدة والمنتظم الدولي لحل المشكل؛ بل كان تمثل بشكل واضح المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة في التعاطي مع ملف الصحراء. أكثر من ذلك، فالأمين العام السابق، وبالرغم من التسلسل الإداري والدبلوماسي، فقد كان مجرد أداة طيعة في يد مبعوثه الشخصي، وفي أيدي جهات تعلن في السر والعلن مواقفها المعادية من الوحدة الترابية للمملكة. في ظل هذه المتغيرات الجيواستراتيجية، هل تستطيع الدبلوماسية المغربية إصلاح ما أفسده العطار الكوري، وتحقق بالموازاة مع ذلك المزيد من المكاسب الدبلوماسية؟ إذا ما أخدنا بعين الاعتبار طبيعة المواقف الأوروبية، والتي كانت تتجنب على العموم التصادم مع الدبلوماسية المغربية في ملف الصحراء، فهناك ثلاثة مؤشرات رئيسة، يمكن أن تسهم في تقوية الموقف المغربي في قضية الصحراء، بعد إمساك الجانب الأوروبي بزمام الأمور، على الأقل في المدى القريب، وبالمعطيات المتوفرة إلى حد الساعة. المؤشر الأول يتعلق بالقناعة التي ترسخت لدى الوافدين الجديدين بالدور المشبوه للنظام الجزائري ملف الصحراء، وكذا في زعزعة الاستقرار بكامل منطقة الساحل والصحراء. وبالتالي، فقد يعملان بشكل مشترك على جعل الجزائر طرفا رئيسا في ملف الصحراء، وإخراجها من جحرها التي ظلت تتخفى خلفه، قصد إجلاسها على طاولة المفاوضات كطرف رئيس ومباشر، بعدما ظلت لعقود طويلة تدير الملف بالوكالة. ولعل ما سيساعد في التسريع بهذه الخطوة، خاصة خلال المؤشر الثاني، هي قناعة الرجلين، من خلال إلمامهما بالتحديات الأمنية وبالرهانات الجديدة للسياسة الخارجية الأوروبية، أن استمرار مشكل الصحراء ودخوله منعطفات خطيرة كتلك التي مهد لها بان كي مون قد تعصف بالفضاء الأوروبي بأكمله. الرجلان يدركان تمام الإدراك حجم الثمن الذي يمكن أن تدفعه القارة العجوز إذا ما استمر ملف الصحراء نحو المزيد من التصعيد، أو على الأقل إذا ما حاد عن سكته الصحيحة. ولذلك، فقد سارع الاتحاد الأوروبي، وكذا جل الدول الوازنة من داخل القارة الأوروبية، إلى الترحيب بتعيين المبعوث الجديد، معربة عن استعدادها لتقديم الدعم اللازم للمبعوث الجديد، ومؤكدة تشبثها بالمواقف الثابتة للأمم المتحدة. المؤشر الثالث يتعلق بمسار الرجلين الطويل في دواليب صنع القرار، والذي أكسبهما مصداقية كبيرة داخل المنتظم الدولي. فبالإضافة إلى انتمائهما إلى دولتين عريقتين في الديمقراطية، فكلا الرجلين مشهود لهما بالكفاءة والنزاهة، كما أن كليهما قد تقلدا أرفع المناصب، الدبلوماسية منها والاقتصادية والسياسية، على المستويين الإقليمي والدولي. وبالتالي، فمن الصعب على بعض الجهات المعروفة بمناوراتها أن تعمل على اختراقهما، كما تعودت على ذلك في السابق. في اعتقادنا، فإن هذه المؤشرات وعلى أهميتها لن تلعب في صالح المملكة ما لم تقم الدبلوماسية المغربية بتبني إستراتيجية واضحة ومندمجة في تدبير المرحلة الجديدة، وتواصل العمل بسياسة الحزم التي تبنتها في الآونة الأخيرة، من خلال عدم إبداء حسن النية في التعامل مع ملف الصحراء، مهما كانت المتغيرات. وبالتالي، فقبل الدخول في مفاوضات مباشرة، أو فرض تصور جديد لملف الصحراء، هناك أربعة محاور رئيسة، قد تعمل الدبلوماسية المغربية على تبينها على المدى القريب، في تدبير المرحلة المقبلة. المحور الأول يقوم على التشبث القوي وغير المشروط بالتوصية المتعلقة بإحصاء ساكنة تندوف، خاصة أن التقارير الخمسة الأخيرة لمجلس الأمن قد نصت صراحة على ضرورة تفعيلها. وفي هذا السياق، أعتقد أن تجربة المبعوث الأممي الجديد، ومن خلال اطلاعه الجيد على ملف المساعدات التي تقدمها أوروبا إلى تندوف، وصدور تقرير المكتب الأوروبي لمكافحة الفساد، والذي يدين تواطؤ النظام الجزائري مع قيادات البوليساريو في اختلاس المساعدات، قد تقوي الموقف المغرب أكثر فأكثر في تفعيل هذه التوصية، خاصة في ظل مؤشرات قوية عن قرب إطلاق مفاوضات جديدة. المحور الثاني يتعلق بمطالبة المغرب، عبر مجلس الأمن، باتخاذ التدابير اللازمة لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه، خلال تنفيذ اتفاقيات وقف إطلاق النار. فإذا كان الأمين العام الجديد، وبضغط كبير من المغرب وحلفائه من داخل مجلس الأمن، قد تمكن من إعادة الأمور إلى نصابها بمنطقة "الكركرات"، فإن هناك مناطق أخرى تخضع للإشكال القانوني والسيادي نفسه؛ وهو ما قد ينهي بصفة نهائية ما اعتبره الملك محمد السادس في خطابة الأخير ب"وهم الأراضي المحررة". المحور الثالث يرتكز على التحرك الدبلوماسي القوي لإعادة الزخم إلى مخطط الحكم الذاتي، خاصة داخل أوساط القوى الدولية الوازنة؛ فقد حاول الأمين العام السابق، وبشتى الوسائل، التبخيس من قيمته، وحتى تغييبه من داخل قرارات مجلس الأمن. المحور الرابع ينبني أساسا على العمل، بجانب حلفاء المملكة، على إبعاد الاتحاد الإفريقي جملة وتفصيلا عن ملف الصحراء، على الأقل في الوقت الراهن، والضغط من أجل إبقاء ملف الصحراء برمته بيد الأممالمتحدة، خاصة أن هناك اتجاهات من داخل الاتحاد، تتزعمها الجزائر، تحاول استغلال الوقت من أجل أن يلعب الاتحاد الإفريقي دورا موازيا مع جهود الأممالمتحدة، خشية من حتمية تنامي تأثير المملكة من داخل الاتحاد، في السنوات القليلة المقبلة. هذا المحور الرابع، بالإضافة على المحورين الثاني والثالث، شدد الخطاب الملكي الأخير بمناسبة ثورة الملك والشعب على أهميتها الإستراتيجية في تدبير ملف الصحراء. وأعتقد أن الملك محمدا السادس قد قدم، من خلال هذه المحاور، رسائل مباشرة إلى كل الأطراف المعنية بملف الصحراء، بمن فيهم المبعوث الأممي الجديد. المعطيات الآنية تؤكد أن التحدي الأبرز للدبلوماسية المغربية على المدى القريب هو تثمين الدور الأوربي الجديد لأوروبا في ملف الصحراء المغربية، من خلال تصحيح الأوضاع المختلة التي تركها كل من روس وكي مون. وفي المسار نفسه، فهي مطالبة بالحفاظ على مصالحها من داخل مؤسسات الأممالمتحدة؛ وذلك بعدما عجزت عن الحفاظ عن الدبلوماسي الهولندي بيتر فان والسوم، وعجزت بعد ذلك، ولسنوات طويلة، عن إزاحة روس، بالرغم من كل مناوراته ضد مصالح المملكة. على المدى المتوسط، فالدبلوماسية المغربية مطالبة باتخاذ كافة التدابير اللازمة، القانونية منها والسياسية والإستراتجية، لتفعيل المحورين الأول والثاني، من أجل تفادي الدخول في مفاوضات جديدة مع البوليساريو، وبالتالي إمكانية فرض حلول جديدة على المغرب. أما على المدى البعيد، والذي يشكل حسب اعتقادي التحدي الأبرز والأصعب، فيتمثل في إعادة النظر في الآليات ووالوسائل الكفيلة بتقوية الجبهة الداخلية للمملكة، وعبر جميع المستويات الممكنة، وذلك حتى تتمكن الدبلوماسية الملكية من جعلها ورقة رابحة ومستدامة في تدبير ملف الصحراء المغربية، مهما كانت جنسيات المتعاقبين على إدارة الملف، ومهما كانت التوجهات السياسية والمصالح الإستراتيجية للأطراف الأخرى. *أستاذ باحث بجامعة القاضي عياض