أثارت حادثة الفتاة التي تعرّضت لمحاولة اغتصابٍ أمام أعين الركّاب في إحدى حافلات النقل الحضري للدار البيضاء، الكثير من القيل والقال، وخلقت نقاشاَ داخل العالم الافتراضي وخارجه. طرحت الكثير من الأسئلة وبعثرت العديد من علامات استفهام. بعضُ المتتبعين ينشدُ إنزال أشدّ العقوبات على المتحرّشين، آخرُ يلومُ الركاب المتواجدين داخل الحافلة الذين اكتفوا بالتصوير والمشاهدة. تعالت أصواتٌ كثيرة شرقاً وغرباً، كلّها تصبّ في منحى واحدٍ يستنكرُ ويندد دونَ أن يقدّمَ حلاً أو يفكّر في أساسِ المشكل وأسبابه. طالما اعتبرتْ الأخلاقُ مصدرَ قوّة الأمم وأسباب حياتها، إذ يقولُ الشّاعر : إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا والفردُ لا يمكن أن يتخلّق دون تربية، والتربية لن تتوفّر دونَ تحقيق أسبابها التي من أسسها التعليم والأسرة، مجتمع يحتضنُ الطفل، ينشئه على مبادئ الانسان الخلوق وشارعُ يصنعُ جيلاً مفكراً. هذا، وتتحمّل الدولة بكلّ مؤسساتها مسؤولية احتضان الناشئة والشباب وتربيتهم. وتتحمّل مؤسسات المجتمع المدني القسط الكبير من المسؤولية في توجيه الشباب والناشئة وتربيتهم. إنّ الاخلال بالمسؤولية الأخلاقية من طرف مؤسسات المجتمع المدني والمجتمع بأكمله، بالاضافة إلى مؤسسات الدولة معنية بالتعليم، خلقَ نوعاً من الفراغ وأنتجَ نسباً من القاصرين دون تربية ولجوا الشارع في سنّ مبكرة دونَ تعليم، فأصبحوا أرضاَ خصبة لكل أنواع التطرف الفكري والأخلاقي والتربوي. تطرّفُ مردّه إلى انعدام الوازع الأخلاقي لدى مسؤولي المؤسسات المعنية بالشباب وفقدانهم حسّ المسؤولية أمام ما يحدث من اغتصاب لحق الطفولة وحاجياتها أخص بالذكر هنا أطفال الشارع. ليسَ من الغريب أو المفاجئ أن ينتجَ المجتمع الذي لا يهتم بالتعليم أفراداً وجماعات متخلفة فكراً وأخلاقاً، فئات مستعدة لأن تخرجَ عن إطار الأخلاق وتمارسَ الاغتصاب كردّ فعل عن اغتصاب حقّها في التعليم والصحة والدراسة وتعلم مبادئ الحياة الانسانية. وليسَ الأطفال القاصرون الذين أقدموا علىى محاولة اغتصاب فتاة تعاني مرض التوحد سوى نموذج بسيط عمّا يحدث في المجتمع من حراك ضد التيار ، ما يدور في عمقِه من تيّارات معاكسة للتطور. إنّ الذينَ قاموا بهذه الأفعال المشينة كانوا يعيشون في الشارع، يفتقدون حسّ المسؤولية تجاه المجتمع، تنعدم لديهم مشاعر المواطنة الحقّة، وكلّ ذلك ليس سبباً بل نتيجة. هُم نتاجُ مجتمعٍ اغتصبَ حقّهم في الطفولة، حقهم في الحصول على الرعاية الاجتماعية الحقّة، حقهم في الولوج مدرسة تقيهم هلاك الجهل، حقّهم في التمتع بحقوق المواطنة والعيش الكريم، كلّ ذلك لأن الشارع ينظرُ إليهم كالحيوانات التي تعبرُ الطريق، إذ لا فرقَ بينَ حمارٍ يقف إلى جانبِ حاوية قمامة و طفلٍ يتغدّى منها وينظر إليه الجميع نظرة مقتٍ واحتقار. الفردُ في مجتمعنا لا يشعرُ بأنه مسؤول أمام كلّ ما يحدث وأمام هذه الفئات، بل تعدّى ذلك إلى كونه لا يحسّ بمسؤولية الدفاع عن الفتاة التي تتعرّض للاغتصاب دون أن يتحرّك ليخلّصها من براثن المتحرشين، اكتفى الجميع بالتفرج بل غالبيتهم حملَ هاتفاً وبدأ يصور كأنه في مشهد سينمائي وليسَ معنياً بأمر الفتاة. الخلل ليسَ في نماذجنا التعليمية، مدارسنا، مدراء مؤسساتنا.. بل الخلل الكبير يكمن في كلّ شيءٍ، في لبنات المجتمع المدني، في التأطير والاحتضان. لأن مهمّة الدولة تقتصر على توفير الأرضية والمؤسسات بينما تظل مسؤولية التأطير والتوجيه على عاتق المجتمع المدني ومكوناته. مجتمع خرجَ ليندد ويستنكر خلفَ شاشة حاسوب والهواتف الذكية دون أن يشعرَ بضرورة تحرّكه من أجل تصحيح المسار الذي تسيرُ إليه الأمور. مجتمعنا يبرعُ في التنديد والاستنكار بينما يظلّ عاجزاً عن تقديم بدائل وحلول، لأن الفئة القليلة التي لم تتعلم رغمَ قلّتها أخطرُ على المجتمع نفسه، بل تشكل تهديداً ومادة خام للتطرف اللفظي والفعلي وكلّ أشكال العنف المضاد. فالطفل الذي يخرجُ عن السرب و يغرد وحيداً في الشارع يتعرّض لكلّ أنواع الميز والاغتصاب اليومي. لا مؤسسة تحتضن طاقته التي يسخّرها في الاتجاه المعاكس للتيار الاجتماعي، لا كفاءات تهتم بهِ كفرد من المجتمع وجبَ تقويمه وتصحيح مساره. يجدُ نفسهُ أمام العنف والتشرد، ثمّ يكبرُ ليفرّغ طاقاته السلبية عبرَ ممارسة الاغتصاب كرد فعل مضاد. فهوَ الذي لم يتلقّ تعليماً كي يفرّق بينَ الحق والواجب، وهوَ الذي لم يشعر بالأمان داخل المجتمع ليتحوّل هو نفسه إلى مصدر تهديد، وهوَ الذي لم يشعر بدفء المجتمع وحضنه ليفرّغ حرمانه على شكل عنفٍ وتحرّش وكل أشكال التعنيف المادي والمعنوي. هوَ الذي لم يشعر أنه معني بالتطور والتنمية والواجب اتجاه الوطن ليتحولّ بسبب جهله إلى آلة تخريب تدمّر الوطن. وأمام كلّ هذا الخراب الذي يمسّ الأخلاق تظلّ الدولة وحيدة في مواجهة هذه المعضلة بينما يقف المجتمع متفرجاً غيرَ معني بالنقاش بل همّه فقط التفرج وتصوير مقاطع فيديو يحصد بها عدداً من الإعجاب وعلامات الاستنكار في الواقع الافتراضي. إنّنا نعيشُ أزمة أخلاق، أزمة كينونة وأزمة سؤال. أزمنتنا الأخلاقية ناتجة عن فكرٍ يقومُ على الاغتصاب. مجتمع يغتصبُ العلمَ والثقافة، جمعيات تغتصبُ المال العام وتسخّره في سبيل أشياء لا تعود على النفع على المجتمع بل تزيد من أزمته، مسئولون سياسيون غيرُ معنيين بالأخلاق بل يضربون مثلاً في الانحطاط والتخاذل. ودولةٌ لا تسخّر جهوداً قصوى في مواجهة الانحطاط الاجتماعي بالعلم والفكر والثقافة. كلّ هذا الاغتصابِ أنتجَ فضاءً يعج بالكائنات التي لا يمكنُ تصنيفها داخل المجتمع بصفتها تعرّض الناس للتحرش والقتل و تقطع الطريق دون ضمير . تماماً كمسؤولوا المجتمع المدني الذين يقفون متفرجين دون حراك وبلا ضمير، تماماً كالمثقف الذي ينزوي بعيداً في ركن دون أن يشعر أنّه معني بتقديم حلول، تماماً كمدراء مؤسسات الرعاية الذين ينتظرون راتباً شهرياً دونَ تأدية واجب، تماماً كحكومة تعيشُ في المرّيخ وزحل والزهرة ولا تشعر بنبض الشارع ومسؤوليتها الأخلاقية فيما يحدث من اغتصاب لكلّ شيءٍ. الواقع يحتاج إلى تشخيص وتقديم وصفات بسيطة ناجعة يتبناها المسؤول والجمعوي والمثقف والمعلم وربّ الأسرة وكل فردٍ من أفراد المجتمع، وليسَ التذمر والبكاء والعويل دونَ طائل وبلا نتيجة، بينما ترك الجميع المسؤولية على عاتق الأمن والشرطة والقضاء الذي يواجه المعضلة بما أوتي من وسائل لكنها تظل وسائل عقابٍ وليسَت حلولاً. فالمتحرش عندما يتعرّض لعقوبة حبسية يتحوّل إلى سجين ليتدرّب على أشكال العنف، تمارس عليه أنواع الاغتصاب، يزداد احتقانه وتكبر لديه الر غبة في الانتقام. يقضي عقوبته ويخرجُ للمجتمع لواجهَ ميزاً يقضي على كلّ أحلام الاحتضان والتوبة فيتحوّل بعد ذلك إلى وحشٍ يقطع الطريق ويسرق و يغتصبُ .. ويقتل حتّى. لأنّ المُغتصَبَ لا يمكنهُ أن يقدّمَ شيئاً للمجتمع سوى أن يغتصِبَ بدوره مشبعاً رغبته في الانتقام. لذلك، فالكل معني بالنقاش من أجل إيجاد حلول. فماذا لو خرجت منظمات المجتمع المدني بحلول ناجعة عوضَ الخروج بتصريحات منددة ؟، ماذا لو طرحَت بدائل من لدن مؤسسات الرعاية عبرَ برامج تربوية تعيد إدماج طفل الشارع عوض أن تبقى متفرجة يسكنها موظفون أشباح ؟، ماذا لو منحت الدولة منحاً خاصة للمدارس الداخلية من أجل احتضان أطفال الشارع وإعادة توجيههم وتصحيح مسارهم ؟، ماذا لو مكّنت الدولة القاضي من مراكز خاصة للإدماج كما في أمريكا مثلاً، مراكز حقيقة تتبنى الفكر والعقل والأخلاق وليسَ مراكز سجن خاصة ؟، ماذا لو فكّرنا جميعاً في حلول بديلة وأنتجنا نقاشاً صحياً يوجّه النقاش في المسار الذي يتوجب أن يسير فيه ؟. ماذا لو وقفنا جميعا وقفةً مع الذات ونفكر كيف نبني مجتمعاً نقياً خالياً من شوائب الجهل والعنصرية والانتقام ؟. ماذا لو ... ؟. ماذا لو تأملنا صرخة الفتاة المسكينة التي تستنجدُ بنا جميعاً وتستجدي أفكارنا و حلولنا وكلّ شيءِ يمكننا أن نقدّمه في سبيل إنقاذها ؟، ماذا لو نظرنا في وجهِ الأطفال الذين قاموا بالاعتداد وسعينا إلى تقويمهم عوض سبهم وشتمهم لأن السبب في اعوجاجهم من يتحمّل اللوم وليسَ النتيجة ؟. إنّ صرخةَ تلك الفتاة المسكينة : صوتٌ يحاكم ضمائرنا جميعاً...