خطاب العرش 2017.. تشخيص الأزمة، وصفة العلاج، والمهام الدستورية للملك الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش لهذه السنة يشخص أوضاعا اجتماعية وسياسية متأزمة، ويوجه سهام النقد اللاذع إلى الإدارة وإلى الحزب السياسي؛ لكن خلف هاتين البنيتين تعتبر المؤسسة الملكية أن المسؤولية الرئيسية تتحملها عقليات سلبية أنانية، وذهنية غير متشبعة بالوطنية وغياب التخطيط الإستراتيجي. خطاب العرش 2017 يحمل دلالات متعددة تصب كلها في اتجاه التغيير؛ تغيير منهجية التدبير في القطاع العام، وتغيير ذهنية السياسي والمنتخب والموظف. يتناول هذا المقال بالتحليل دلالات الخطاب المتعلقة بالشق الاجتماعي والتنموي أولا، ثم الدلالات ذات البعد السياسي ثانيا. فيما يخص الشق الاجتماعي والتنموي، يرصد الخطاب الملكي ثلاث مفارقات مترابطة: المفارقة الأولى تبدو - وفقا لتصور المؤسسة الملكية- أنها المفارقة الأم أو أصل الداء، وتتمثل في عدم كفاءة القطاع العام في التدبير والمردودية وافتقاده للنجاعة وآليات التتبع والمراقبة مقارنة مع القطاع الخاص. المفارقتان الثانية والثالثة يقدمهما الخطاب أنهما نتيجة حتمية للأولى. وهكذا، فمفارقة التفاوت في التنمية المجالية بين جهات ومناطق المغرب ترجع إلى ضعف استقطاب الجهات الأقل حظا في التنمية للاستثمارات الخاصة. أما مفارقة نجاح المخططات القطاعية الأكثر انفتاحا على الرأسمال الخاص (الصناعة والطاقات المتجددة مثلا) وتعثر مخططات التنمية البشرية والاجتماعية الأكثر اعتمادا على الإنفاق العمومي (الصحة والتعليم نموذجا) فذلك مرده إلى الآفات التدبيرية التي تنخر جسم القطاع العام من قبيل البيروقراطية وضعف روح المسؤولية وعدم الاعتناء بمعايير الجودة والمردودية. المثال الذي ساقه الخطاب للبرهنة على ضعف الإدارة العمومية ليس اعتباطيا، لأن المراكز الجهوية للاستثمار تجسد وظيفة الدولة الميسرة والمحفزة للاستثمارات الخاصة على المستوى الجهوي. وبتركيز الخطاب الملكي على هذه الإدارة، ففحوى الرسالة يتضمن التأكيد على الدور الحاسم للإدارة العمومية في توفير شروط التنمية الاقتصادية وتشجيع المبادرة الخاصة. إن عرض الخطاب لهذه المفارقات وتشخيصه للداء بهذا الشكل يرمز إلى منظور ملكي للإصلاح ذي بعدين محوريين؛ أولهما الإصلاح القديم الجديد وذو الراهنية الكبرى باستمرار.. يتعلق الأمر بتحديث الإدارة العمومية ويستشف من الخطاب أن العاهل المغربي يلح على ضرورة وضع هندسة جديدة للإدارة العمومية تحاكي نموذج القطاع الخاص على مستوى التسيير وعقلنة الموارد والمردودية. المحور الثاني يرتبط بتموقع المغرب على صعيد المنافسة الدولية للاستفادة من حركية الرأسمال الخاص وتوجيهه إلى خدمة أهداف التنمية الاجتماعية. الشق الثاني يخص الدلالات السياسية للخطاب الملكي، إذ لم يكتف هذا الخطاب بتقديم تشخيص الوضع السياسي المنحرف؛ بل رسم له بعض الحلول.. وأبعد من ذلك، فالعاهل المغربي يلتزم بما تمليه عليه مهامه الدستورية في هذا الإطار. فيما يتعلق بالجانب التشخيصي، فهو يتمحور حول أزمتين مترابطتين. الأولى تحيلنا إلى فجوة الثقة بين المواطن وبين النخب السياسية، وهنا يلح العاهل المغربي على أن ردم هوة الثقة رهين بعودة السياسي إلى القيام بواجبه الأول وتحمل مسؤوليته الكاملة في خدمة المواطن وتتبع وإنجاح المشاريع التنموية. الأزمة الثانية تتجسد في نزوع السياسي نحو البناء للمجهول واختلاق الأعذار والتواري خلفها للتملص من المسؤولية. الجدير بالإشارة أن الخطاب لم يتوقف عند التشخيص؛ بل أكد على ضرورة تفعيل المحاسبة والقطع مع معضلة الإفلات من العقاب. وألح الخطاب على أن مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة لا يجب أن يستثني أحدا، أشخاصا كانوا أو مؤسسات. اللهجة الصارمة في الخطاب والتطرق للاختصاصات الدستورية للملك في هذا الصدد ينبئ باحتمال حدوث هزات قوية في الحقل السياسي المغربي، وسنشهد بكل تأكيد سلسلة من الإعفاءات والإقالات والعقوبات في حق المسؤولين عن فشل المشاريع التنموية، وربما قد يصل الأمر إلى تشكيل حكومة جديدة ذات غالبية تكنوقراطية. وهذا ما يرمز إليه قول الملك في معرض خطابه أن المغرب فوق الجميع، فوق الأحزاب، وفوق الانتخابات، وفوق المناصب الإدارية. *أستاذ التعليم العالي بجامعة ابن زهر