وسط حي "الناصر" بالخميسات، يلفت انتباهك مسكن مهجور تفوح منه روائح كريهة تزكم أنوف الجيران والمارة. تعتقد للوهلة الأولى أنك على أعتاب مطرح للنفايات أو "كوري" للبهائم، ولكن الأمر ليس هذا أو ذاك؛ إذ سرعان ما تصاب بالصدمة حينما تكتشف أن هذه الجدران الخربة تقطن فيها منذ عشرات السنين امرأة مسنة من ذوي الاحتياجات الخاصة، لم تعد تبالي بالحياة، بعدما خطفت منها الأقدار زوجها وأبناءها الأربعة، لتتخذ من الفئران والكلاب خير ونيس لها. تبلغ حدوم حمادي من الكبر عتيا، وهي واحدة من بين أكثر من 20 ألف ضحية كانوا على موعد في القرن الماضي مع أكبر كارثة غذائية في تاريخ المغرب، ويتعلق الأمر بضحايا الزيوت المسمومة عام 1959، التي خلفت وراءها آلاف الضحايا، منهم من قضى نحبه، ومنهم من نالت منهم الأمراض، ليُصابوا بإعاقاتٍ جسدية حولت حياتهم إلى جحيمٍ لا زال مستعراً في دواخلهم المكلومة إلى يومنا هذا. زارت هسبريس ضحايا الزيوت المسمومة، أو ضحايا "زيت الطائرات" بالخميسات، ووقفت على فظاعة معاناة من تبقوا أحياء بعدها، ينتظرون إنصافهم وجبر الضرر الذي أصابهم منذ أزيد من نصف قرن من الزمان. منكوبون من القرن الماضي حدوم حمادي التي بالكاد تستطيع الوقوف على قديمها أو ترى بعينيها، لازالت تملك ذاكرة قوية لم تتآكل بفعل الشيخوخة، تروي ما حدث سنة 1959، عندما استفاق المغاربة على كارثة تردّد صداها في جميع أنحاء العالم، وتقول وهي تسترجع الماضي الموجع: "اشترينا أنا وزوجي لتراً من زيت كان يدعى (الغزال)، قيل إنه جديد وسيوفر لنا الصحة والعافية، وعندما استعملناه في طهي أولى وجباتنا، لاحظنا رغوة غريبة تطفو على سطحها، غير أن نداء الجوع دفعنا إلى عدم الاكتراث. لمّا تناولناها، لم تمض إلا بضع ساعات حتى سقطنا أرضا وفقدنا الحركة والقدرة على المشي. ومنذ ذلك اليوم بدأ مسلسل طويل من المعاناة لن ينتهي إلا بوفاتي لأرتاح وألحق بأولادي". بعد الواقعة، تحكي "مّي حدوم" أن فرقاً أجنبية تدخلت بعدما عجز المغرب عن تطويق الكارثة الوطنية، "أتى أناس من الخارج وقاموا بإنقاذنا ورعايتنا ببعض التمارين الرياضية. غير أنه ومنذ أن تكلف المغاربة بنا ونحن بدون رعاية طبية، ونحن لا حول لنا ولا قوة.. حقنا ضاع وخّا محمد الخامس وصّى علينا!" الأقدار كانت قاسية مع "عجوز الخميسات"، فبعد إصابتها بالأمراض التي حبل بها الزيت الملعون، التهمت النيران ذات يوم حارق منزلها، ليذهب معه كل ما تملك من حلي وملابس ووثائق، وتبدأ رحلة التشرد والتسول في شوارع الخميسات. تحكي لنا بمرارة وهي ترفع رأسها إلى السماء بشرود: "توفي ولدي البكر بسبب معاناة مع المرض القبيح (السرطان تقصد)، ثم توفيت ابنتي في حادثة سير بالسعودية حيث كانت تعمل خادمة هناك، وآخر دفنته في شهر شعبان الماضي، أما البنت المتبقية فهجرتني واستقرت بالرباط.. لم تعد تزورني.. مابقاتش ترضى بيا!" "بالكاد أوفر قوت يومي من عملي كمتسولة قرب المساجد، نهار يجيب الله ونهار نرجع لهاذ الكوري خاوية الوفاض"، تقول ضحية الزيوت المسمومة، وهي تنتظر ساعة الرحيل لترتاح من حياتها التي يُلفّعها السواد منذ عقود، وتضيف: "من يعرف؟! قد يكون هذا آخر أسبوع لي والتحق بأولادي وزوجي، فلم تعد صحتي تحتمل بعدما تركوني أواجه مصيري وحيدة". وعن التعويض الذي تنتظره منذ نصف قرن، تقول وهي تشير إلى الأزبال المتناثرة على حدود مسكنها المتداعي: "لن ينفع التعويض الآن ولن يُعوض ما فات، الله ياخذ فيهم الحق". حياة تحولت إلى جحيم خلفت حادثة الزيوت المسمومة في صفوف الضحايا أمراضاً شخصها الأطباء الأجانب حينها بصعوبة ما بين شلل نصفي وشلل كلي، فضلاً عن أمراض عصبية أخرى؛ وهو ما حول حياة الأبناء أو الذين يرعونهم إلى جحيم، فغالبية الضحايا تجاوز سنهم الآن السبعين سنة. وسط ساحة "العودان" بالخميسات، تجمهر ضحايا المدينة عندما علموا بقدوم هسبريس للاستماع إلى قصصهم المتفرقة. منهم هاكور حكيمة، ابنة أحد الضحايا بالمدينة، التي حكت لنا سنوات من معاناة الأسرة مع أبيها، وقالت: "من أين سأبدأ؟ هل من الرضاعة التي حُرمت منها بسبب إصابة أبي وأمي بهذا الزيت، أم من الأزمات النفسية التي نشأت معي وأنا الآن أبلغ سن الخمسين؟". وتستطرد حكيمة بحُرقة: "أبي لا يستطيع الحراك أو قضاء حاجياته منذ أزيد من نصف قرن، فهل تُوجد مأساة أكثر من هذه؟ لقد حُرموا من أبسط حقوقهم ولم يتمتعوا بحياتهم". يُقاطعها أبوها المقعد ويتحدث عن نفسه رغم معاناته مع مخارج الحروف ليروي بصعوبة بالغة: "خمسون عاماً وأنا مريض، منذ أن أكلت الزيت المسمومة لم يعد هناك ما يقال؛ فالفضيحة يعرفها الصغير قبل الكبير!". ثم أضاف ليوضح: "حتى الحرب العالمية لم تترك وراءها مثل كوارثنا. واش الراجل اللي يتبول ويقضي حاجته في الفراش هذا راجل؟ واش الراجل لي مبقاوش عندو العينين والرجلين، واللي خرج من المدرسة وهو عنده عشر سنوات بسبب الزيت بينما صحابو في سنه تخرجوا أطباء ومهندسين، واش هذا راجل؟"، بهذه الكلمات الجارحة لعن الهاكور محمد حياته، ليُطلق رجاءً إلى خالقه بإلحاقه به حتى لا تطول أيام عذابه أكثر مما طالت. فضلاً عن هذه المعاناة، شكّلت تعويضات الضحايا جزء رئيسيا من المشكلة الذي لم تُحل إلى حدود يومنا هذا، وما زال الضحايا المتبقون على قيد الحياة، وعددهم يصل إلى 331 بعدما كانوا أكثر من 20 ألفاً، تتقاذفهم وزارة الصحة ومؤسسة الحسن الثاني للأعمال الاجتماعية ووزارة المالية، بسبب اختلاف الحكومات المتعاقبة حول حجم المبالغ المالية الواجب منحها للناجين منهم. ووسط هذه الفوضى، ضاعت حقوقهم كما ضاعت أحلامهم. أبناء القصر المنسيون مباشرة بعد وقوع الفاجعة، صدر ظهير ملكي سنة 1960 يعتبر ضحايا الزيوت المسمومة بالمغرب أبناء للقصر الملكي، مثلهم تماما مثل ضحايا زلزال أكادير؛ حيث صدر قرار حينها ينص على منح مستحقات تنبر أربعة دراهم، يثبت في البطاقات الرمادية للسيارات والشاحنات لصالح الضحايا، كما تم فتح حساب بنكي منذ ذلك الحين، أي قبل 57 سنة والملايير تضخ في خزينة الدولة، وإلى حدود اليوم لا يُعرف مصيرها، ما عدا إعانات شهرية قيمتها 50 درهما تمنح لكل فرد، غير أنها هي الأخرى تلاشت منذ سنوات. وفي سنة 2010، عرف الملف الغامض انفراجاً، حين أعطى الملك محمد السادس أوامره ليتم توقيع اتفاقية بين وزير الاقتصاد، ووزيرة الصحة، والوزير المكلف بإدارة الدفاع الوطني، وممثل مؤسسة الحسن الثاني للأعمال الاجتماعية لقدماء العسكريين وقدماء المحاربين، تتعلق بتكليف مؤسسة الحسن الثاني بتدبير منح تعويضات مالية شهرية لضحايا الزيوت المسممة، وإنجاز مشاريع بهدف "إدماجهم السوسيو-اقتصادي". وبحسب الشهادات التي سجلناها من الضحايا ومسؤولين في الجمعية الوطنية لضحايا الزيوت المسمومة، فإنه لم يتم صرف أي منحٍ، أو دعمٍ لإنجاز المشاريع، أو سكنٍ اقتصادي كما راج، ما عدا استفادة البعض منهم من تعويض شهري قدره ألف درهم، وإقصاء جزء آخر لم يستفد بعد لدوافع مجهولة. ووفقا لما عاينته هسبريس، فإن الفئة الأكثر فقراً هي التي لم تستفد من الإعانات، ولا زالت تنتظر الهبة التي أوصى بها الملك محمد السادس، غير أن هذا الحيف في حق هؤلاء يطرح الكثير من التساؤلات وعلامات الاستفهام، بينما يقول المتضررون إن الجواب تملكه وزارة المالية التي ترفض صرف الدعم. وبسبب عدم وصول الهبة الملكية إلى أصحابها، تعيش شمران جعة، وكرطيط عمر، وآخرون، جحيمهم اليومي وهم جثث حية على الفراش، لا من يعيلهم لشراء الدواء، ولا من يمد إليهم شربة ماء أو كسرة خبز. تقول بلخير زهرة، التي زارتها هسبريس في بيتها: "ها أنتم ترون، زوجي طريح الفراش بسبب الزيت المسموم، ومنذ 20 عاما لم يعد يقوى على المشي، وهو يقضي حاجته فوق هذا السرير"، وتضيف الزوجة المثابرة: "الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل والدتي أيضا كانت إحدى ضحايا الزيت المسموم قبل أن تسلم الروح قبل سنواتٍ". تُوفر بلخير بعض الدريهمات، بعد بيعها للخبز على جوانب الطرقات وفي الأسواق، وتقول وهي تبكي حالها: "ما كاينش اللي يطل علينا أو يعطينا شي مساعدة، إلى ما خدمتش.. غادي يبقاو الدراري والراجل بالجوع". لتُضيف بنفاد صبر: "عيينا بالطلوع إلى الرباط منذ سنة 2010. أما إذا كانوا ينتظرون انقراضنا، فهذا شأنٌ آخر!". لماذا لم يُطبق القانون؟ المثير في قضية ضحايا الزيوت المسمومة أنه على الرغم من صدور ظهير ملكي، وما رافقه من اتفاقيات وصرف للإعانات لبعضهم، إلا أن ما راكمته خزينة الدولة من عائدات مبيعات التنبر المخصص لضحايا الزيوت منذ سنة 1960 قُدر قبل سنوات ب35 مليار درهم، لم تجد طريقها بعد إلى جيوب الضحايا المُستضعفين. في هذا الصدد، قال العربي عضيضو، أحد الضحايا الذين استفادوا من منحة الألف درهم، بأنه "سبق وتشكلت لجنة برلمانية في الحكومة السابقة لطي هذا الملف؛ حيث تم الاتفاق على توزيع تعويض مالي يستفيد منه كل فردٍ متضرر، ولكن إلى حدود الساعة، لم يُراوح هذا القرار أدراج الجهات المسؤولة". وأشار العربي إلى أن الدولة مطالبة بجبر الضرر الإنساني؛ "لأن هذا الملف لا يقل فظاعة عن نظرائه من الملفات المتعلقة بتعويض ضحايا سنوات الرصاص. فالأمر هنا يتعلق بجريمة ضد الإنسانية اقترفها عناصر أغلبهم لم تنلهُم يد العدالة، فيما تمّ الإفراج عن المدانين القلة الذين حوكموا بسببها!". ووجه العربي، الذي ناضل لسنوات لإسماع صوت الضحايا، بحكم انتمائه إلى حزب "تقدمي"، نداء إلى الملك محمد السادس، قائلاً: "نشكرك أيها الملك على اهتمامك وعنايتك بضحايا الزيوت المسمومة حين أعطيت أوامرك لحكوماتك المتعاقبة لمساعدتنا، ولكن رغم إعطائك لتلك الأوامر، لم تُطبق هذه الحكومات ما أمرت به، فالضحايا لا زالوا يُعانون وحقوقهم ضائعة، لم يتوصلوا بعد بتعويضاتهم المادية، كما أن القدر المادي الشهري الذي يوزع على بعض الأفراد منهم غير كافٍ". هو إذن، ملف عمّر زُهاء ستين عاماً دون أن يجد طريقه إلى الحل، رغم أن الضحايا المعنيين به باتوا معدودين على رؤوس الأصابع، رفع بعضهم دعاوى قضائية ضد الدولة المغربية في شخص عدد من الشخصيات والمسؤولين الذين تعاقبوا على هذا الملف. "في الجارة الإسبانية وقع حدث مماثل سنوات التسعينات، حين تسمم أزيد من ألف شخص، وبعد سنوات قليلة حكمت إحدى محاكم البلاد بإنصاف الضحايا وجبر الضرر، بينما في المغرب، ورغم صدور القوانين، لا شيء تغير على أرض الواقع"، هكذا أنهى أحد الضحايا حديثه مع هسبريس.