من أهم الطقوس والمظاهر البروتوكولية التي تمحور حولها الجدل بين الفرقاء السياسيين بالمغرب، طيلة ما ينيف عن أربعة عقود، مراسيم تقبيل يد الملك؛ فقد سادت في ظل النظام المخزني مراسيم خاصة تهم تقبيل يد الملك أو التمسح بأطرافه، وذلك منذ تكريس الحكم الشرفاوي وانتشار التأثير التركي بالمغرب. وهكذا، أورد المؤرخ المغربي أحمد بن خالد الناصري أن بعض القادة الأتراك الذين كانوا محيطين بالسلطان السعدي محمد الشيخ "كانوا يدخلون عليه كل صباح لتقبيل يده على عادة الترك في ذلك". وقد بقيت هذه العادة متبعة حتى في عهد الحماية. وهكذا، صرح الأستاذ عبد الهادي بوطالب في مؤلفه (نصف قرن من السياسة ) بذلك من خلال ما يلي: "فعلا أخذني الوزير إلى قاعة العرش، حيث جعلنا في مدخلها الحذاء كما تقضي بذلك المراسم. ووجدت السلطان جالسا على عرشه وسبحته في يديه، وقد استقبلنا إثر صلاة المغرب. وعندما كنا نتخطى مدخل القاعة قال لي الوزير: لاحظ كيف سأنحني أمام السلطان وكيف سأقبل يده لتفعل مثلما أفعل.. وكان الأمر كذلك. فأشار إلينا السلطان بالجلوس على السجاد الزربية المبسوطة. ولم يكن آنذاك مسموحا بالجلوس أمام السلطان على الكراسي". لكن بعد الاستقلال بدأت هذه العادة تثير نوعا من الجدل الضمني، وإن كان لم يتحول إلى نقاش سياسي وعلني. ففي عهد الملك الراحل الحسن الثاني كانت هناك عدة شخصيات تتحفظ على استمرار العمل بهذه العادة ضمن المراسيم المخزنية وأثناء الاستقبالات الرسمية. وقد ظهر ذلك بشكل غير مباشر من خلال السؤال الذي وضعه على الملك الراحل الحسن الثاني أحد صحفيي أسبوعية (Nouvel observateur) بتاريخ 6 يونيو 1970 حول استمرار تطبيق هذه العادة، فبرر العاهل المغربي ذلك بالرد التالي: "لنأخذ ظاهرة عبادة الشخصية، فهي لا توجد بالمغرب. فليس الحسن الثاني الذي يقدس، بل وريث أسرة، التي تعتبر حلقة ضمن سلسلة طويلة. فأنا لست إلا حلقة. فقد يحدث أن تقبل يدي الشيء الذي يصدم التقدميين. فأنا أستطيع أن أقول لك بأن دلالة ذلك توازي دلالة الانحناءة التي تقدم أمام ملكة بريطانيا. بل أكثر من هذا فإن ذلك يرجع إلى تقليد ديني. فالكل ينحني ليس أمامي، بل أمام سلسلة من الشرفاء الذين ينتمون إلى النبي. فالشعب المغربي هو ملكي في عمقه. لكن كل شيء قابل للتطور. لكن اليوم فهذه حقيقة مترسخة. فقد تلتقي بتقدميين مغاربة بل بعضهم وشيوعيين لكنهم ملكيون بحكم الواقع". ولتدعيم هذا المنظور الملكي، أشار محمد العلمي في مؤلفه ( Le protocole et les usages au Maroc) إلى أن عادة تقبيل يد الملك مرتبطة بعدة عوامل من أهمها: - تعود المغاربة على تقبيل يد الكبير سنا أو علما أو شرفا؛ "فنحن نقبل يد شخص مسن، سواء كان ذكرا أو أنثى؛ ونقبل يد العالم والفقيه، ونقبل يد شخص محترم وبالأخص إذا كانت يد العاهل المغربي. فهذه الحركة تعبر عن التقدير والاحترام إذا ما كان الشخص عاديا؛ أما إذا كان الأمر يتعلق بالملك؛ فهذه الحركة تأخذ بعدا دينيا وتبركيا. وهي بالدرجة الأولى حركة تعبر عن الولاء". والشرعية الدينية التي يتمتع بها الملوك المغاربة، وذلك على غرار ما يتم عادة في الكنيسة الكاثوليكية؛ فالكاثوليك تعودوا على تقبيل خاتم البابا وخاتم الكاردينالات والأساقفة، دون أن يثير ذلك أدنى تحفظ. - النزعة الأبوية السائدة بين المغاربة؛ "فالملك، كيفما كان سنه، يعتبر بمثابة أب للأمة. فالاحترام الذي يحظى به الآباء، والأشخاص المسنون هو الذي يتوجه بشكل طبيعي إلى الملك لاعتباره بمثابة أب للأمة والزعيم الروحي للأمة الإسلامية بالمغرب". وفي مقابل هذا الطرح، كان هناك من يتحفظ على هذه العادة، ويرى أنها لم تعد متلائمة مع التطورات السياسية التي عرفها المغرب. وفي هذا السياق، أشار الأستاذ محمد عابد الجابري إلى أن بعض الشخصيات السياسية قد أرجعت الأسباب التي كانت من وراء الانقلابات العسكرية التي عرفها المغرب إلى طبيعة الحكم الفردي وكذا إلى بعض مراسيمه المخزنية العتيقة والتي من بينها عادة تقبيل اليد. وبهذا الصدد، كتب الأستاذ الجابري ما يلي: "من الأجوبة التي قدمت لجلالة المرحوم الملك الحسن الثاني حول أسباب الانقلاب جواب مقاوم كبير واسع الاطلاع قال لجلالته ما معناه: إن من الأمور التي يحسن التخلي عنها مظاهر تقبيل اليد أثناء الاحتفالات الرسمية. هناك من لا يكون متعودا على هذه العادة، فتتراكم في نفسه وقد يخرج عن طوره". وبالرغم من هذا الجدل، فقد استمرت هذه العادة متواصلة؛ بل تم التشبث بها ضمن مظاهر البروتوكول المخزني طيلة فترة حكم الملك الحسن الثاني الذي كان لا يتساهل في عدم اتباعها حتى في نهاية حكمه. وقد ظهر ذلك جليا من خلال غضبه على اكتفاء محمد بن سعيد آيت إيدر بمصافحته في الوقت الذي قبل باقي زعماء الأحزاب يد الملك لدى استقبالهم بقصره بإيفران، حيث قال له: "دار المخزن عندها أصولها التي يجب أن تحترم، ويلا ما بغيتيش تحترمها راها ما محتاجاكش". ولعل حرص الملك الراحل على هذه العادة البروتوكولية وتشدده في تطبيقها هو ما أدى إلى تكريسها وانتشارها بين الطبقة السياسية وبين رجال السلطة، خاصة في عهد وزير الداخلية السابق السيد إدريس البصري. فكثيرا ما لوحظ أن أتباعه من رجال السلطة (من عمال وقواد) كانوا يتسابقون على تقبيل يده. وبهذا الصدد، أوردت إحدى الصحف المغربية خبرا مفاده "أن شجارا حادا نشب بين وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري وبين وزير الداخلية السابق مصطفى الساهل؛ حيث ذكر الأول الثاني بأنه عليه ألا ينسى يوم كان "يبوس" له يده". وقد طرح هذا الجدل من جديد بعد تولي الملك محمد السادس الحكم. فبعدما تم نقل مراسيم التوقيع على وثيقة بيعة هذا الأخير على شاشة التلفزة، حيث كانت الشخصيات السياسية والعسكرية تتقدم لتقبيل يد الملك الجديد، دعت بعض الشخصيات السياسية إلى التفكير في إلغاء هذه المراسيم في إطار تحديث المؤسسة الملكية "وترسيم ملكية برلمانية حداثية". وفي هذا السياق، دعا محمد الساسي، أحد القياديين السابقين في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، في استجواب صحافي معه أجري بتاريخ 7 غشت 1999، إلى ضرورة إلغاء ظاهرة تقبيل يد الملك بوصفها تمثل ترسبا من ترسبات النظام المخزني القائم على الخضوع والطاعة؛ لكن يبدو أن هذا الاستجواب قد أثار عدة ردود فعل سلبية انعكست من خلال توقيف الصحافي الذي أجرى هذا الاستجواب. وقد أبدى الملك الشاب نوعا من التفتح المتسامح مع هذه العادة المخزنية، حيث كان في بداية عهده لا يتشدد في اتباعها في الاستقبالات التي يترأسها. وهكذا، سمح باستقبال أعضاء المجلس الإداري للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية الذين أصروا على عدم الخضوع لهذا التقليد؛ وهو ما أثار استياء بعض حاشيته، حيث مُنع الأعضاء المعينون من أخذ صورة جماعية مع الملك، كما جرت العادة بذلك، في الوقت الذي تجاهل التلفزيون بقناتيه حدث استقبال الملك لهؤلاء الأعضاء من خلال نقله بعجالة مريبة. كما انعكس ذلك أيضا من خلال انتقاد بعض الفعاليات الحزبية كحزب الحركة الشعبية لهذا الحدث، حيث كتب أحد أعضاء لجنتها المركزية بهذا الخصوص ما يلي: "التعلق بشخص الملك جعل المغاربة يقدسونه ويعظمونه، وقد تجلى ذلك من خلال البروتوكولات السلطانية، حيث واجب الطاعة بمقتضى عقد البيعة يستلزم الانحناء أمام المقام العالي بالله، وتقبيل يديه الكريمتين احتراما لسبط الرسول (ص)… لكن الملاحظ هو أنه وقع تراجع في هذا الشكل من البروتوكول الذي يقضى بالاحترام الواجب لشخص العاهل المغربي، نلاحظ اليوم أن بعض الأشخاص يعرضون عن تقبيل يديه الكريمين المعطاءتين، وهو في نظرنا إخلال بالاحترام والولاء الواجبين لشخص جلالة الملك". وقد تم الرد على هذا الموقف بأن "صاحب المقال، الذي يبدو ملكيا أكثر من الملك، يختصر احترام الملك في تقبيل يديه وينسى أن أوفقير كان يقبل يد الراحل الحسن الثاني بتفان؛ لكنه كان أكبر من أساء إلى الملك وحاول الانقلاب عليه. وقياسا على ذلك، يبدو صاحب المقال كمن استيقظ من كهف وتخلف به قطار الزمن، حيث يستيقظ بيننا اليوم بعد نوم عميق ويقيم أحوالنا بالعوائد والسنين الخالية، واللهم ابق لنا ملكا لا عقدة له مع إزالة الطقوس التقليدية للمخزن المهنية للكرامة البشرية". وقد بقي هذا الجدل متواصلا بين مكونات النخبة السياسية، حيث اقترح محمد اليازغي، الكاتب الأول السابق لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وزير الدولة بدون حقيبة في حكومة إدريس جطو، ابتكار بروتوكول ملكي جديد يحترم كرامة المغاربة داعيا مدير التشريفات والأوسمة إلى تقديم مشروع جديد للبروتوكول يحظى بقبول الملك والمجتمع المغربين ضمن إعفاء المغاربة -مسؤولين ومواطنين- من تقبيل يد الملك . وقد أشار هذا القيادي، في تصريح أدلى به إلى جريدة "الاتحاد الاشتراكي"، إلى أن الملكية اليوم في حاجة إلى بروتوكول أكثر بساطة ومرونة. وفي السياق نفسه، دعا إسماعيل العلوي، الأمين السابق لحزب التقدم والاشتراكية، مديرية التشريفات والأوسمة إلى إصدار نظام جديد يضبط البروتوكول ويلغي الأمور المتجاوزة. بينما اقترح علال بلعربي وعبد الرحمان العزوزي وضع بروتوكول جديد يخرج من الثقافة المخزنية المهيمنة والتي تصل حد العبودية إلى بروتوكول حديث يحترم كرامة الفرد بالمملكة. وكيفما كان الحال، فسيبقى هذا الجدل مطروحا ما دام أن المؤسسة الملكية لم تحسم فيه، إذ في إمكان الملك أن يصدر ظهيرا بإلغاء هذه العادة المخزنية العتيقة؛ وذلك على غرار ما قام به الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز، الذي أصدر بلاغا في شتنبر 2005 يعلن فيه رفضه القاطع لظاهرة تقبيل اليدين، لا سيما أنه قد سبق بهذا الصدد أن تم إلغاء عدة مظاهر بروتوكولية مخزنية تماشيا مع التطورات السياسية والاجتماعية التي عرفتها مؤسسة الحكم بالمغرب. فتقبيل ركاب السلطان أو رجليه أو الركوع أمامه… كلها مظاهر تم إلغاؤها تدريجيا من مراسيم البروتوكول المخزني. بالتالي ، فعلى الرغم من تساهل الملك محمد السادس، فيما يتعلق بتقبيل يده، حيث لوحظ منذ بداية حكمه أنه في مجموعة من استقبالاته للمثقفين يجري السلام عليه باليد، بينما السياسيون، بمن فيهم بعض أعضاء الحكومة كانوا يسلمون عليه في الكتف، فيبدو أن محيط الملك ما زال منقسما حول التعامل مع هذا الطقس المخزني، حيث إن "هناك أطرافا في مواقع الدولة تدفع في اتجاه تحديث مجموعة من أنماط ممارسة الحكم، بالموازاة مع أطراف أخرى تصر على المحافظة على هذه الطقوس، لأنها ترى أنها جوهرية في الحكم ومرتبطة بتصور عام لمنظومة السلطة في المغرب"؛ غير أن هذا الانقسام بين النخب السياسية واستمرار الجدال بين مكوناتها لا ينبغي أن يغفل بأن المغرب هو جزء من قرية معولمة تلعب فيها الصورة دورا أساسيا وخطيرا سواء في التنافس أو الصراع من خلال تسويق الصور الخارجية للدول في خضم منظومات ثقافية مختلفة تستند إلى العصرنة الحقوقية والحداثة السياسية، وهو ما سيجعل من الصعوبة بمكان الدفاع عن طقوس تقبيل اليد الملكية أو تبرير مظاهر حفل الولاء بطقوسها الموغلة في القدم والغارقة في زمنية القصور السلطانية المغلقة.