مقدمة: عندما تقوم دولة متخلفة بتبني منظومة قانونية متطورة من خلال تنفيذها لضغوطات وتدخلات الأيادي غير الخفية في غالب الأحيان، نكون أمام دولة قزمية خبيثة بقفطان عارضة الأزياء ذات القامة الطويلة الجميلة أو بعبارة أدق وواضحة نكون أمام الدولة الرخوة أو دولة في طور الفشل. والدولة الرخوة كما سنبين لاحقا من أجل الحفاظ على صورتها داخل العرس السياسي وتحقيق استمراريتها رغم أن لباسها الديمقراطي والشرعي فضفاض، تسخر في ذلك مجموعة من الأساليب من أجل تحصين وحماية نخبها الفاسدة. فما المقصود بالدولة الرخوة؟ ما هي أساليب الدولة الرخوة في الحفاظ على استمراريتها؟ أولا: ماهية الدولة الرخوة أو الدولة الفاشلة - تعريف الدولة الرخوة: لقد طرح عالم الاقتصاد والاجتماع السياسي السويدي "جنار ميردال" في سنة 1970، نظرية "الدولة الرخوة"، وبحسب هذه النظرية يرى "ميردال" أن كثيرا من بلاد العالم الثالث يعاني من خضوعه لما أسماه بالدولة الرخوة، وان هذه الدول الرخوة تكاد تكون هي سر البلاء العظم، وسببا أساسيا من أسباب استمرار الفقر والتخلف. ويقصد "جنار" بالدولة الرخوة، "الدولة التي تصدر القوانين ولا تطبقها، ليس فقط لما فيها من ثغرات، ولكن لأن لا أحد يحترم القانون، الكبار لا يبالون به، لأن لديهم من المال والسلطة ما يحميهم منه، والصغار يتلقون الرشاوي لغض البصر عنه"، أما الفقراء الذين لا مال لهم ولا رشاوي فيتم ضبطهم بواسطة أساليب جديدة/قديمة من القمع والتهم. رخاوة الدولة تشجع على الفساد، وانتشار الفساد يزيدها رخاوة، والفساد ينتشر من السلطتين التنفيذية والسياسية إلى التشريعية، حتى يصل إلى القضاء والجامعات، صحيح أن الفساد والرشوة موجودان بدرجة أو أخرى في جميع البلاد، ولكنهما في ظل الدولة الرخوة يصبحان "نمط حياة". ويقدم "ميردال" وصفا للطبقة الحاكمة التي تتكون في هذه الدولة، فهي تجمع من أسباب القوة ما تستطيع بها فرض إرادتها على سائر فئات المجتمع، وهي وإن كانت تصدر قوانين وتشريعات تبدو وكأنها ديمقراطية في ظاهرها، فإن لهذه الطبقة من القوة ما يجعلها مطلقة التصرف في تطبيق ما في صالحها وتجاهل ما يضر بها، وأفراد هذه الطبقة لا يشعرون بالولاء لوطنهم بقدر ما يدينون بالولاء لعائلاتهم أو أقاربهم، أو عشائرهم ومحاسبيهم (أنظر: أحمد فهمي، مصر 2013 دراسة تحليلية لعملية التحول السياسي في مصر، ط1، ص 27). وتجدر الإشارة إلى أن هذه النظرية يمكن تطبيقها بنسبة المائة بالمائة (100%) على العديد من الدول الإفريقية الناطقة باللغة العربية، لأنها تجمع بين ترسانة قانونية متقدمة من جهة، ومن جهة أخرى تحتض في أركانها ما أصبح يسمى ب "الفساد الكبير" (للمزيد من التفاصيل حول الفساد الكبير، أنظر العدد 12/2012 من مجلة مسالك (تقديم) عمر زهرو. - خصائص الدولة الرخوة: تتميز الدولة الرخوة أو الفاشلة بالعديد من الخصائص، وعليه سنحاول توضيح بعضها في سياق موضوعنا محل الدراسة، ومن بين هذه الخصائص نذكر: - وجود ترسانة قانونية متقدمة بدون تطبيق: تتوفر الدولة الرخوة على ترسانة قانونية متطورة، غير أن هذه النصوص القانونية تبقى من دون تطبيق بمعنى آخر تظل حبر على الورق، وعليه يكون وجودها كعدمها، إلا في حالة محددة، حيث يمكن استعمالها لمعاقبة مناهضي الفساد أو المطالبين بحقوقهم أو المجرمين واللصوص من الطبقات المسحوقة. - وجود مؤسسات دستورية أكثر من اللازم بدون دور واضح: في الدولة الرخوة يلاحظ وجود تعدد وتنوع في المؤسسات الدستورية وغيرها إلى درجة تتداخل وتتشابه معها صلاحيات والمؤسسات، غير أن الهدف من هذه المؤسسات يبقى بعيد عن خدمة المصلحة العامة، بل وجودها في غالب الأحيان يكون إرضاء للنخب السياسية والبيروقراطيين...فمن الأشخاص الذين يشكلونها في غالب الأحيان يتبين أنها مجرد مؤسسات لخلق مناصب للأعيان، وستر المكشوف أمام عيون المجتمعات الديمقراطية. - وجود نخبة فاسدة تسعى لتحقيق مصالحها الشخصية أولا: ويراد بها مجموعة من الأفراد يمتلكون مصادر وأدوات القوة السياسية في المجتمع، وبالتالي يصغون السياسات العامة على مقياسهم ولصالحهم . - تفشي الفقر والتخلف: توجد الفئات الاجتماعية الهشة والضعيفة التي لن تستفيد من العدالة الاجتماعية والعدالة المجالية في وضعية فقر وتخلف، بسبب سياسات الإقصاء المتعمد. - انقسام المجتمع إلى طبقات متعددة أو طبقتين: تؤدي سياسة الدولة الرخوة إلى تقسيم المجتمع إلى طبقتين أو أكثر، الشيء الذي ينتج عنه وجود فوارق كبرى وواسعة بين أفراد المجتمع الواحد. بالإضافة إلى استشراء الفساد بمختلف أنواعه، وغلبة التسلط على الحوار، وتأزم علاقة الدولة بالمجتمع، وضعف التنمية أو غيابها. ثانيا: أساليب الدولة الرخوة في ضمان استقرارها تلجأ السلطات السياسية في الدولة الرخوة في ظل عجزها عن القيام بأدوارها التي وجدت من أجلها، وانتخبت من أجلها بالرغم من أن أسلوب الانتخابات غير معترف به من طرف فئات واسعة من أفراد المجتمع، نظرا لما يطاله من تزوير إلى استعرض عضلاتها القمعية واستخدامها خصوصا أمام تزايد مطالب الشعب وغياب الاستجابة بشكل مطلق، لكون الفساد لم يترك للفئات الاجتماعية الفئات غير المحظوظة من وجهة نظر الدولة التي لا تنتمي لعائلة الحاكم أو الرئيس أو الوزير أو الوزير المنتدب أو جماعات الضغط...أي محاولة للعيش الكريم. وأمام تزايد مطالب الفئات الاجتماعية المقصية واحتجاجها على وضعية اللامبالاة والإقصاء، وتفاقم البطالة التي تعتبر مصدر طبيعي لعدم الإستقرار والعنف داخل الإسلام خصوصا في فئات الشباب (أنظر: صامويل هنتنجتون، صدام الحضارات إعادة صنع النظام العالمي، ط2، 1999، ص 430)، فإن الدولة تجند كافة أساليبها لإرغام هذه الفئات على الصمت والقول بأن كل شيء سير في أعنته، ومن بين هذه الأساليب نذكر: - استعراض القوة واستخدامها: في هذا السياق تستخدم القوة لفض الاحتجاجات الشعبية في كثير من الأحيان، وعلى نحو مبرمج بهدف يتجاوز إنهاء احتجاج أو فض تظاهرة، إذا المقصود من هذه الأساليب "الردع النفسي" الذي يقلص فرص الاحتجاج مستقبليا، كما تلجأ إلى الوزارة المعنية باستعراض قوتها البشرية والآليات قبل أي تظاهر أو احتجاج بيومين أو ثلاثة أيام (أنظر: أحمد فهمي، مرجع سابق، ص 37). - دعم الأحزاب والنواب والمستشارين المستفيدين من الكعكة السياسية للاستخدام الوحشي للقوات العمومية ضد أبناء الشعب: هو أسلوب جديد من خلاله يتم تشجيع القوات الأمنية على ارتكاب المزيد من العنف والقمع في صفوف المطالبين بحقوقهم في مختلف أركان الدولة. - قيام جماعات الضغط بمعاتبة الفئات المطالبة بحقوقها والمناهضة للظلم والحكرة: تلجأ جماعات الضغط في الوقت الراهن إلى عتاب الفئات المتظاهرة المطالبة بحقوقها المختلفة، بكونها لا تحمد الله على نعمة الاستقرار، وتقوم جماعات الضغط بذلك لأنها تستفيد من العديد من الإمتيازات، وهذا لا يحتج لدليل في الدول المتخلفة. - استخدام مفهوم أمن الدولة كحجة للنيل من المطالبين بحقوقهم: لقد بدأ يستعمل هذا المصطلح في الآونة الأخيرة بشكل مفرط، حيث بدأ يكرر في كل الخطب، والنشرات الإخبارية، والصحف...غير أن هذا المفهوم أصبح "تهمة جاهزة" يمكن أن تلفق لأي مواطن بمجرد مطالبته بحقوقه، وبالتالي يتم تعريضه للاعتقال، والتعذيب، والتحقيق، واقتحام منزله والاعتداء عليه وعلى عائلته. - إهانة المواطنين والمواطنات: لقد أضحى امتهان الكرامة شتما أو ضربا أو تعذيبا أو تعريا أو تعذيبا أو تهديدا، أسلوب أمنيا لردع نفسية المواطنين، فبات من الصعب على رجل الأمن أن يمارسوا عملهم دون استخدام هذه الأساليب، ومع التكرار أصبح أسلوب التعامل بين المواطن والشرطي ينطوي على تبادل الإذعان والإهانة، حتى لو لم تكن هناك تهمة أو تحقيق (أحمد فهمي، نفس المرجع، ص 37). - ظاهرة البلطجية أداة لصد تحركات المحتجين والمتظاهرين: يتم الاستعانة ببعض المسجلين خطر حيث طبيعة تكوين معظمهم إما جنائيون مسجونين تستغلهم أجهزة الأمن، وتعدهم بعدم الملاحقة وإسقاط ما عليهم من أحكام... للقيام بأعمال من شأنها تخويف وترويع الناس، ويقوم البلطجيون باستخدام الأسلحة غير النارية، والبلطجيون في غالبيتهم أميين أو مستواهم التعليمي منخفض (الابتدائي أو الإعدادي..) وينتمون لأسر فقيرة ومفككة، يتم تسخيرهم من طرف السلطات في الدولة الفاشلة لردع السكان من أجل عدم القيام بتظاهرة أو تفريقها، بالإضافة إلى العديد من الأساليب اللاديمقراطية (للمزيد من التفاصيل أنظر: أحمد عادل عبد الحكيم، حرب الصدور العارية، استراتيجيات وتكتيكات التعامل مع القمع والعنف، سلسلة حرب اللاعنف (أكاديمية التغيير)، دون ذكر سنة النشر، ص 85). خاتمة: وأخيرا، يمكن القول بأن الشعب الواعي بحقوقه وحرياته والمتشبع بالفكر لا يمكن أن تنال منه الدولة الرخوة بإحدى أساليبها، فلم يعد الترهيب والتخويف والتعذيب يجدي نفعا، كما أن الإهانة وحشد مؤيدين كثر لصالح الدولة الرخوة لم يوقف احتجاجات المواطنات والمواطنين الأحرار عن مطالباتهم بمحاربة الفساد والمفسدين وإقرار العدالة الاجتماعية والكرامة، بل سيظلون وسيستمرون وسيزداد عددهم حتى تحقيق مطالبهم، وما على الدولة الرخوة إلا أن تستجيب وتتخلى عن أساليبها القمعية المكشوفة. ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه وبإلحاح هو: ما المقصود بالقمع كظاهرة سياسية؟ ما هي خصائصه؟ كيف يتولد؟ هل الدول الديكتاتورية وحدها من تحتضن القمع؟.