لعل المتوالية اللغوية ، التي تجري حاليا على ألسن المصريين ، ذاك الثناء الشهير عندهم ،(( يامَ انت ، كريم يارب )) ماداموا قد شاهدوا بأم أعينهم ،وفي واضحة النهار ، كيف بالرجل المرعب الذي بطش ونكل بهم أزيد من ثلاثين سنة ، وأذاقهم مختلف أصناف العذاب الجسدي والنفسي ، وحول بلدهم إلى حفرة من حفر جهنم ؟ منهار الآن كاملا ، بين قضبان قفص من حديد وليس حريركما اعتاد ، مثله مثل أي غوريلا مفترسة ، وقعت أخيرا في حبال صيادين مهرة ، بعد أن عاتت في الأرض جرما وجورا . لو قدر لأحد موتى الستينات و السبعينات ، أن يبعث من قبره ، فقادته الصدفة يوم الثالث أغسطس ، نحو باب أكاديمية الشرطة بالقاهرة ، ثم يكتشف فجأة بداية أطوار محاكمة رئيس ، لخطر بباله على الفور ، بأن الأمر يتعلق بوطني كبير ، من عيار القادة الذين ، صنعوا الاستقلالات لبلدانهم ، وتزعموا بعد ذلك مسيرات تحررية مست الميادين الفكرية والاقتصادية والاجتماعية ، تماما كما كانت شريعة حقبته مع ، ناصر وتيتو ونهرو وبن بلة ونكروما ولومومبا وجوليوس نيريري وسلفادور أليندي.. ، فتآمرت عليه خارجيا القوى الامبريالية وداخليا حليفتها الرجعية ، وأزاحته من الحكم بعد أن دبرت له خطة انقلاب عسكري دموي . بمعنى السيناريو القائم ، الذي أرست قواعده المخابرات الأمريكية ، بهدف اجتثات كل المشاريع الوطنية والتحررية . لكن، المفارقة العجيبة أن حسني مبارك ، يعتبر من أبرز وأنجب عملاء أمريكا وإسرائيل في المنطقة العربية ، خلال العقود الماضية ، بل ظل استراتيجيا محنكا ولبيبا ، بخصوص موضعة وتفعيل ، المآزق التي ستغمر العرب ، على الأقل منذ توليه كرسي الحكم بداية الثمانيات على جثة أنور السادات ومن قلب حادث المنصة الشهير ، وإن كانت بعض التقارير، قد أكدت تورط مبارك بشكل من الأشكال ، في اغتيال سيده وصاحب الفضل عليه . مشهد حقا، غريب وبكل المقاييس تقشعر له الأبدان، أعادني إلى وقائع المحاكمة السريعة لديكتاتور رومانيا تشاوسيسكو من قبل بعض ضباط جيشه بداية التسعينات، وإعدامه وزوجته رميا بالرصاص، بعد أن أفرغا كل ما في جعبتهما من دلائل دفاعية واهية . تختلط المشاعر بين الابتهاج فرحا واعتزازا بهذا الكائن العربي المولود، الذي استطاع أخيرا إعادة الاعتبار لأفق الدولة المدنية الحديثة حيث الحاكم والمحكوم ، مواطنان متساويان تماما يمتلكان حقوقا وواجبات بناء على تعاقد قانوني ، وبأن التأجيل إلى المحكمة الإلهية ، كما هو العزاء الوحيد للشعوب العربية ، لم يعد اليوم جائزا . لكنه ، أيضا شعور الحزن والعطف ، على مبارك وأمثاله ، ليس لأنه كهل ومريض و "ريس" كما يحلو للغوغاء والدهماء أن يرددوا، بل إشفاقا على ما فعل به مرض السلطة الخبيث ، والمصير ذاته الذي ينتظر عاجلا أم آجلا ، كل من افتتن بغباء نفسه حد الهذيان، متوهما بأنه يأتينا بالشمس من يمينه والقمر على يساره . إنه مكر التاريخ الذي لا يرحم . ربما لو خصص مبارك ، وإخوانه في البطش أصحاب الفخامة والمهابة ، فقط ساعة يومية من وقتهم الضائع، بغية تفحص كتب التاريخ واستيعاب ممكنات البيولوجيا ، لوفروا على أنفسهم كثيرا من عبث حروب الطواحين لكن ، مرضهم العضال ، يتجسد في كونهم (( لا يقرأون ، وإذا قرأوا لايفهمون وإذا فهموا فلا يطبقون)) كما استخلص ذات يوم عدوهم المفترض موشي ديان . لن يجد مبارك،مكانا في سجل البشرية ،إلا مزبلة التاريخ. وستبدأ مصر ومعها كل الشعوب العربية بعد حسم ثوراتها، كتابة واقع آدمي فعلا، يصنعه هذه المرة الشجعان أصحاب النفوس النقية. مبارك، وقد سعى بخطابات الإنقاذ قبل تنحيه استثمار بطولته في حرب 1973، وأنه امتداد لمؤسسة الضباط الأحرار ، هوأساسا اللاوطني بامتياز، الذي حفز 20 % من بطانته الفاسدة ، كي تنهب بشراهة ووحشية ثروة 80% من المصريين، فأضحى أفراد الشعب يتقاسمون بالكاد الفتات مع الجرذان في ظلمة مجاري المياه . لقد أطلق اليد الطولى لمن نعتوا بالقطط السمينة فترة حكم السادات ، وتحولوا مع مبارك إلى حيتان كبيرة ، لا ترحم صغيرا ولا كبيرا ، حولت مصر إلى قمامة للنفايات ، حينما ملأت أسواقها بالأغذية والأدوية الفاسدة ، وبدأت التقارير تكشف عن أرقام مهولة،بخصوص استشراء أمراض فتاكة، تنخر بدون حق أجساد المصريين، مثل الكبد الفيروسي والسرطان والقصور الكلوي ... . كانت البواخر ، تتنافس في التحلل وسط البحار كي تلقي بأطباق من لحم المصريين إلى أسماك القرش . حرائق القطارات بالجملة ، وسقوط العمارات على رؤوس ساكنيها كل صبيحة ... . هيمن سماسرة الحزب الوطني ، أذناب مبارك ، على كل شيء من السينما إلى الأغنية والصحافة والجامعة والثقافة، فازدهر إنتاج الضحالة . وستبقى السقطة المشينة ، لمثقف متمرس في حجم جابر عصفور ، أبدية لاتمحى حينما استصغر وضعه الاعتباري، وقبل أن يسخر منه مبارك وهو يحتضر، بتوليته حقيبة ثقافة لاتوجد أصلا ضمن هواجس الديكتاتور اللهم إلا ثقافة "الهشك بشك رقصني ياوله" . مبارك ملأ زنازن مصر بكل من تجرأ على مناقشته. لم يوقر شخصية تاريخية مثل سعد الدين الشاذلي قائده خلال حرب 1973، فألقى به كأي مجرم في السجن ولم يغادر بعد قاعة المطار، لما عاد من منفاه الجزائري .لماذا ؟ لأنه فضح بالوثائق الأخطاء العسكرية القاتلة للسادات ، وانتقد علانية توقيعه لمعاهدة كامب ديفيد. نفس المنطق السلطوي، تعامل به مبارك مع شخص أخر اعتبر من جيل الشباب اسمه أيمن نور لأنه ترشح، منافسا له في الانتخابات الرئاسية . عذّب حتى الموت الإسلاميين والناصريين والشيوعيين ، وجعل من الشرطة القانون الوحيد والأوحد باسم "أنا أوالعنف الأصولي " راكم ثروة فلكية قاربت السبعين مليار دولار ، مقابل قضائه على أحلام شباب مصر ، وآمالهم في العيش الكريم داخل وطنهم، بالتالي، لم يجدوا من ملاذ سوى المخدرات والعهارة والجريمة والانتحار... جسّد مبارك،بإتقان دور العراب الحكيم ، وهو يشحذ همم جيوش التحالف لضرب العراق والقضاء عليه ، فسعى بكل فهلوة عرقلة الحلول الدبلوماسية ، والاهتداء بصدام حسين إلى حبل المشنقة . حاصر غزة، أشد من إسرائيل، وعزلها عن العالم بالجدران الفولاذية. شتت الصف الفلسطيني وأدفأ بيوت الإسرائليين بغاز الكادح المصري . كبّل طموح مصر ، بدبلوماسية براغماتية المصالح الضيقة، فأوصلها إلى وضعية "آخر من يعلم " بعد ان انتمت فترة عبد الناصر إلى نادي الأسياد . نحت مبارك، بنبرته العسكرية مصطلحا مشهورا يوظفه بغية إخراس صوت المناوئين لإسرائيل فيتهكم عليهم بنعت" العنتريات " حينما تشتعل الجبهة اللبنانية أو الفلسطينية .عانق بحرارة، كل مجرمي تل أبيب واستضافهم بكرم حاتمي في منتجعه بشرم الشيخ ، نكاية بالشعب المصري الذي تعالت دائما صرخاته رفضا للتطبيع .لكن، مبارك تشبت ضد الجميع بمبرر وضع الفلسطنيين على سكة السبيل الصحيح من أجل تحقيق دولتهم، والنتيجة واضحة للعيان ، لا أراضي ولا بطيخ على حد تعبير الشاميين، وظل يتجر بالقضية ويتكسب منها ، بنزع التنازلات من ياسر عرفات والإسراع بها إلى الكنيست ... .غيض من فيض ، فبماذا سنترحم على هذا الرجل ؟ محاكمة مبارك ، ستنتقد لامحالة الربيع العربي ، وتعيده إلى بداية زخم شاعريته الثورية ، بعد النفق المظلم الذي وصله في ليبيا واليمن وسوريا. بمعنى، إن أدت من جهة إلى تصلب أكثر لمواقف القذافي وبشار وصالح ،لأن الثلاثة سيخشون على أنفسهم صورة الأقفاص المهينة جدا كما رسمها مبارك . فلابد من جهة أخرى ، لوقائع المحاكمة أن تزرع ثانية الآمال في النفوس العربية ، وفقا لقاعدة لايصح حتما إلا الصحيح . الآن، صارت مصر بالفعل أم الدنيا ،وليس مع هستيريا مباريات كرة القدم ، لما كانت الديكتاتورية توزع فتوحات وهمية. فلمن، المُلْك اليوم ؟؟. [email protected]