في ظل الاجتهاد القضائي والقانون رقم 49.16 يمكن القول إن النقاش حول مسائل الاختصاص القضائي، ولا سيما الاختصاص النوعي، لم يعرف فترة عمق ودينامية أكثر من تلك التي واكبت صدور القانون المحدث للمحاكم التجارية (1)، وظهور حالات تنازع الاختصاص بين هذه المحاكم من جهة، والمحاكم الإدارية والمحاكم الابتدائية من جهة ثانية؛ ذلك أن المشرع، ومن أجل توفير الجو الملائم لاطلاع القضاء التجاري بالمهمة المسندة إليه، عمل على حصر مجال تدخله، كي يتفرغ إلى نوع محدد من القضايا والمنازاعات. وقد توقع جانب من الفقه المغربي (2) في معرض تقديم قراءة أولية للقانون المحدث للمحاكم التجارية أن المادة ال5 التي تحدد الاختصاص النوعي لهذه المحاكم ستطرح مجموعة من الإشكالات بخصوص الفقرات الثانية والثالثة والرابعة، التي تتعلق على التوالي بالدعاوي التي تنشأ بين التجار والمتعلقة بأعمالهم التجارية، والدعاوي المتعلقة بالأوراق التجارية، ثم النزاعات الناشئة بين شركاء في شركة تجارية، ولم يتوقع هذا الفقه حينها أن تطرح الفقرة ال5 المخصصة للنزاعات المتعلقة بالأصول التجارية مشكلا في التفسير، إلا أن التجربة أثبتت أن الفقرة الخامسة المذكورة كانت أكثر فقرات المادة الخامسة من القانون المحدث للمحاكم التجارية إثارة للجدل، خاصة فيما يتعلق بتحديد المقصود بالمنازعات المتعلقة بالأصول التجارية وما إذا كانت قضايا الكراء التجاري تدخل ضمن هذا النوع من المنازعات أم لا؟ لذلك ومن أجل الوقوف على التفسير القضائي بخصوص مسألة الاختصاص النوعي بدعاوي الكراء التجاري وأثر ذلك على التشريع، سنتطرق إلى تضارب التفسيرات القضائية بهذا الخصوص (أولا)، ثم نتطرق لدور قضاء النقض في توحيد التفسير القضائي في الموضوع وأثره على التشريع (ثانيا). أولا: تضارب التفسيرات القضائية بشأن الاختصاص بقضايا الكراء التجاري إن دراسة مجموع التفسيرات القضائية بخصوص الاختصاص النوعي بقضايا الكراء التجاري، تقودنا إلى القول بأن مواقف القضاء المغربي لا تخرج عن اتجاهين قضائيين، تقيد أحدهما بحرفية النص وفسر الفقرة ال5 من المادة ال5 من قانون إحداث المحاكم التجارية تفسيرا ضيقا (أ). في حين اعتمد الاتجاه الثاني التفسير الواسع، ففسر النص وفق المفهوم الذي قصده المشرع بموازاة باقي أحكام مدونة التجارة والقانون المحدث للمحاكم التجارية، (ب). التفسير الضيق لمفهوم المنازعات المتعلقة بالأصل التجاري: تزعمت محكمة الاستئناف التجارية بفاس هذا الاتجاه، متمسكة بحرفية نص الفقرة ال5 من المادة ال5 من قانون المحاكم التجارية، واستبعدت بذلك قضايا الكراء التجاري من اختصاص المحاكم التجارية، معللة قراراتها بأن: "عقد كراء المحل التجاري وإن كان يتصف بالصفة التجارية، فهو لا يدخل ضمن العقود التجارية التي تولت مدونة التجارة تحديدها وتعريفها وبالتالي جعلت تطبيقها أمام المحاكم التجارية طبقا للمادة 736...، وأن سكوت المادة ال20 من القانون المنظم للمحاكم التجارية عن إسناد الاختصاص في دعوى كراء المحل التجاري إلى رئيس المحكمة التجارية، وتصريح ظهير24/5/1955 بإعطاء هذا الاختصاص إلى رئيس المحكمة الابتدائية، وكذا الطابع المدني المعترف به تقليديا لعقد الكراء، وكذا الصفة الاستثنائية التي تتمتع بها المحاكم التجارية، كل ذلك يجعل المحاكم المدنية هي المختصة للنظر في الدعاوى المتعلقة بالأكرية المدنية"(3)، وبالرغم من أن محكمة الاستئناف التجارية بمراكش تعتبر رائدة الاتجاه القضائي الذي اعتمد التفسير الواسع للفقرة ال5 المذكورة، فإن المحكمة التجارية الابتدائية بالمدينة نفسها لم تسايرها في ذلك، ومالت إلى اعتماد التفسير الضيق في الموضوع، معتبرة أن: "المنازعة بين المكتري والمكري لمحل معد للاستعمال التجاري أو الصناعي أو الحرفي لا تعتبر منازعة منصبة على الأصل التجاري، وإنما منازعة متعلقة بعقد كراء، وبالتالي فإن البت فيها يرجع للمحاكم العادية التي لها الولاية العامة"(4)، وهو التفسير نفسه الذي اعتمده قرار صادر عن رئيس المحكمة التجارية بالرباط بتاريخ 24/6/1998(5). اعتبر الفقه أن هذا التفسير الضيق للفقرة ال5 المذكورة لا ينسجم مع المقصود من عبارة المنازعات المتعلقة بالأصول التجارية؛ لأن هذه العبارة جاءت عامة ودون تقييد، وغاية المشرع من هذه العمومية هي عدم حصر اختصاص المحاكم التجارية في العقود المتعلقة بالأصل التجاري، كما هي منظمة بموجب الكتاب الثاني من مدونة التجارة، وإنما المقصود هو جعلها تمتد لتشمل كل نزاع له علاقة بوجود الأصل التجاري، والدليل على ذلك هو أن المشرع استعمل عبارة "النزاعات المتعلقة" بدلا من عبارة "النزاعات المنصبة" على الأصول التجارية، "، ثم إن ظهير 24/5/1955 لا يتصور تطبيقه إلا بوجود أصل تجاري، والحق في الكراء الذي يتوخى حمايته كعنصر، ومن ورائه الأصل التجاري برمته، يعتبر أهم عنصر في الأصول التجارية بالمغرب، والذي تستند إليه أكثر من اعتمادها على عنصر الزبناء والسمعة التجارية". ومن ثمّ، فإن كل منازعة في الحق في الكراء هي منازعة في الأصل التجاري ذاته. ب- التفسير الواسع لمفهوم المنازعات المتعلقة بالأصل التجاري: تعتبر محكمة الاستئناف التجارية بمراكش رائدة هذا الاتجاه، بحيث توسعت كثيرا في تفسير الفقرة ال5 من المادة ال5 من قانون إحداث المحاكم التجارية، وأضافت إلى المواضيع التي تختص بها المحاكم التجارية كل ماله علاقة بالأصل التجاري، ومن ذلك قضايا ظهير 24/05/1955 المتعلق بالكراء التجاري سواء تعلق الأمر بطلب الإفراغ أو التعويض أو مسطرة الصلح أو دعاوى تجديد عقد الكراء أو غير ذلك من قضايا ظهير 24/05/1955، على النحو الذي جاء في القرار الصادر عن المحكمة المذكورة بتاريخ 17 أكتوبر 1998، حيث ذهبت إلى أن "الفقرة الخامسة من المادة الخامسة من القانون المحدث للمحاكم التجارية تسند الاختصاص للمحاكم التجارية للبت في النزاعات المتعلقة بالأصول التجارية بغض النظر عما إذا كان العقد مدنيا أو تجاريا، وسواء تعلق الأمر بتاجر أو غير تاجر، وما دامت الإجراءات التي ينظمها ظهير 24 ماي 1955 ترمي إلى تجديد أو رفض كراء المحل المستغل فيه الأصل التجاري، فإنها بذلك تكون داخلة في إطار النزاعات المنصوص عليها في الفقرة سالفة الذكر". الملاحظ أنه، بالرغم من التبريرات التي قدمتها محكمة الاستئناف التجارية بمراكش، فإنها لم تكن كافية لإقناع الفقه الذي يعارض إسناد الاختصاص بقضايا الكراء التجاري للمحاكم التجارية، حيث يرى جانب من الباحثين أن هذه المنازعات تتعلق بعقد الكراء الذي يتخذ كمحل له العقار المعد للاستغلال التجاري أو الصناعي أو الحرفي ولا تتعلق بالأصل التجاري في حد ذاته، ولا يجب تبعا لذلك التركيز على قيمة الأصل التجاري للقول بإسناد الاختصاص للمحاكم التجارية أو رؤسائها، فبالرغم من أن الوجيبة الكرائية تؤثر فعلا في قيمة الأصل التجاري، فلا يجب أن تكون سندا مطلقا للاختصاص، لأن العقد يربط في الغالب بين تاجر وغير تاجر وهو في جميع الأحوال عقد مدني، والمحاكم التجارية وجدت لتطبيق المقتضيات المتعلقة بالنشاط التجاري والتجار، وقضايا ظهير 1955 لم تتناولها مدونة التجارة، ويرى البعض أن المقصود بعبارة المنازعات المتعلقة بالأصول التجارية الواردة في الفقرة ال5، هي تلك التي تتعلق بالأصل التجاري في مجموعه، أما المنازعات المتعلقة ببعض عناصره ومنها الحق في الكراء موضوع ظهير 24/05/1955، فإنها لا يمكن أن تدخل ضمن الفقرة المذكورة وتختص بها المحكمة الابتدائية، لا سيما أن الظهير المنظم للكراء التجاري والذي يسند الاختصاص للمحاكم الابتدائية لم يتم إلغاؤه أو تعديله بنص صريح، وأن المواد5-6-7-8-9 و20 من قانون إحداث المحاكم التجارية لم تسند صراحة الاختصاص بقضايا الكراء التجاري لهذه المحاكم. أمام هذا الخلاف الفقهي والقضائي الذي يتأرجح بين رفض إسناد الاختصاص بشكل مطلق للمحاكم التجارية، وبين رفض سحب الاختصاص منها نهائيا، تميز تفسير محكمة الاستئناف التجارية بالدار البيضاء والمحكمتين التجاريتين التابعتين لدائرة نفوذها بالبحث في روح التشريع واستلهام النقطة التي يتمحور حولها قانون إحداث المحاكم التجارية، والمتمثلة في كون هذه المحاكم هي محاكم للتجارة والتجار، وفضلا عن كون هذا الاتجاه يتميز بالانسجام مع روح التشريع المنظم للمحاكم التجارية، فإنه يستند على نظريتين عريقتين في فقه القانون التجاري، ويتعلق الأمر بنظرية التبعية التجارية ونظرية الأعمال التجارية المختلطة، حيث اعتبرت محكمة الاستئناف التجارية بالدار البيضاء أن المحاكم التجارية لا تختص بنظر المنازعات المتعلقة بالكراء التجاري موضوع ظهير24/05/1955، إلا إذا كان طرفا عقد الكراء تاجرين وتعلق العقد بتجارتهما، أما إذا كان أحد طرفي العقد تاجرا، والطرف الآخر غير تاجر، فإنها لا تختص إلا بوجود اتفاق صريح بين الطرفين يسند لها الاختصاص، أو إذا اختار الطرف غير التاجر مقاضاة التاجر أمام المحكمة التجارية، وفي غير هذه الفرضيات فإن قضايا ظهير 24/05/1955 تبقى من اختصاص المحاكم الابتدائية.(6). ثانيا: توحيد المجلس الأعلى سابقا لتفسير مفهوم الدعاوي المتعلقة بالأصل التجاري وأثر ذلك على التشريع. لقد أدى تضارب التفسيرات القضائية بخصوص مفهوم الدعاوي المتعلقة بالأصل التجاري ومدى شمولها لدعاوي الكراء التجاري إلى تدخل المجلس الأعلى سابقا لتوحيد التفسير القضائي بهذا الخصوص (أ)؛ وهو ما جعل المشرع يتدخل بدوره من خلال القانون رقم 49.167 ليضع حدا للإشكال الناجم عن غموض النص وفقا للتفسير الذي استقر عليه الاجتهاد القضائي (ب). اختصاص المحاكم التجارية بقضايا الأكرية التجارية بعد صدور قرار المجلس الأعلى سابقا عدد2248 (8): قبل صدور قرار المجلس الأعلى سابقا رقم 2248، تبين من خلال الممارسة أن التفسير الضيق للفقرة ال5 من المادة ال5 من قانون المحاكم التجارية تميز بعدم المرونة وخلق مجموعة من المشاكل تمثلت أساسا في استبعاد قضايا الكراء التجاري من اختصاص المحاكم التجارية، بالرغم من ما لهذه القضايا من ارتباط شديد بالأصل التجاري ككيان اقتصادي وآلية فعالة من آليات التجارة، وأن الإفراغ من المحل قد يترتب علنه توقف التاجر عن دفع ديونه وخضوعه تبعا لذلك لمساطر صعوبات المقاولة، فتعود الكرة من جديد إلى ملعب المحكمة التجارية، في وقت يكون فيه التاجر قد حرم من امتيازات المساطر الجماعية قبل إفراغ المحل وفسخ عقد الكراء. في إطار هذا الجو القانوني المتسم بميول فقهي وقضائي نحو اعتماد التفسير الواسع للفقرة ال5 من المادة ال5 من قانون المحاكم التجارية، أتيحت الفرصة للمجلس الأعلى سابقا لكي يبدي موقفه من المقصود بالمنازعات المتعلقة بالأصول التجارية ومحاولة وضع حد للتضارب القضائي في الموضوع، فانتصر للتفسير الواسع للفقرة المذكورة، حيث جاء في قراره عدد 2248 المشار إليه سابقا، أن: "المادة الخامسة من القانون المحدث للمحاكم التجارية أسندت الاختصاص لهذه الأخيرة بالنسبة للنزاعات المتعلقة بالأصول التجارية، وأن حق التوبة يخضع لمسطرة تجديد عقد كراء محل معد التجارة الذي هو أحد عناصر الأصل التجاري الداخل في النزاعات المتعلقة بالأصول التجارية...". الملاحظ أن المجلس الأعلى من خلال هذا القرار اعتمد التفسير الواسع لنص الفقرة ال5 المذكورة، دون قيد أو شرط، وانطلق في ذلك من فكرة أن موضوع الدعوى هو حق التوبة الذي يرتبط بالحق في الكراء وما دام الحق في الكراء عنصر في الأصل التجاري، فالنزاع بشأنه هو نزاع بشأن الأصل التجاري، والمجلس الأعلى بهذا التفسير يكون قد رد على الاتجاه الفقهي والقضائي سالف الذكر، والذي فسر الفقرة ال5 موضوع الدراسة بأنها تتعلق بالنزاع الذي يكون الأصل التجاري ككل موضوعا له، دون اعتبار النزاعات التي تتعلق بأحد عناصر الأصل التجاري. عقب هذا التفسير الذي خلص إليه المجلس الأعلى توحد موقف القضاء التجاري حول اعتماد التفسير الموسع لنص الفقرة ال5 موضوع الدراسة، وأصبحت المحاكم التجارية تعتبر نفسها مختصة بنظر قضايا الأكرية التجارية، فإذا كانت محكمة الاستئناف التجارية بمراكش قد أسست قضاءها منذ البداية على النحو الذي جاء به قرار المجلس الأعلى عدد 2248، فإن محكمة الاستئناف التجارية بالدار البيضاء، والمحاكم التجارية التابعة لدائرتها الاستئنافية وبعدما كانت هذه المحاكم تعتمد على الفقرة الثانية من المادة الخامسة من قانون المحاكم التجارية للقول باختصاصها بقضايا الكراء التجاري، أصبحت تستند في اختصاصها على نص الفقرة ال5 من المادة نفسها (9)، فهل ساير المشرع اتجاه القضاء عند صياغته لقانون الكراء التجاري؟ ب-اختصاص المحاكم التجارية بقضايا الكراء التجاري في ظل القانون رقم 49.16 . نص مقترح قانون الكراء التجاري لسنة 2008 في المادة ال30 منه على ما يلي: "تختص المحاكم التجارية بالنظر في النزاعات المتعلقة بتطبيق هذا القانون، غير أنه في المناطق التي لا توجد بها المحاكم المذكورة فإن المحكمة الابتدائية الموجودة بدائرتها المحلات التجارية أو الصناعية أو الحرفية هي المختصة للبت في النزاعات المتعلقة بهذا القانون". وبالرغم من استفادة المشرع من التراكمات الفقهية والقضائية التي سبقت وضع نص المادة ال30 أعلاه، فإن الصياغة التي جاءت بها المادة المذكورة لم تحسم كليا النقاش الدائر حول مسألة الاختصاص النوعي بقضايا الكراء التجاري، وذلك لكون الشك ظل قائما حول مسألة الاختصاص المطلق للمحاكم الابتدائية والمحاكم التجارية فيما يخص كيفية ملاءمة نص المادة ال30 من مقترح القانون مع نظرية التبعية التجارية ونظرية العمل التجاري المختلط، بحيث إن الطرف غير التاجر قد يختار المحكمة التجارية. كما أن النزاع قد يكون بين تاجرين بمناسبة أعمالهما التجارية، فهل كانت ستكون الأولوية في التطبيق للمادة ال30 من مقترح القانون، أم الأولوية لأحكام المادة ال5 من القانون المحدث للمحاكم التجارية؟ بحيث تختص دائما في مثل هذه الحالات المحاكم التجارية، حتى وإن تعلق النزاع بمحل تجاري يوجد بدائرة نفوذ لا توجد بها محكمة تجارية. فهل توفق المشرع في توفير أجوبة لهذه الإشكالات عند إقراره للنص النهائي لقانون الكراء التجاري؟ عند موافقة البرلمان بغرفتيه على مقترح القانون في إطار القراءة الثانية أصبحت الصياغة النهائية لأحكام الاختصاص النوعي بقضايا الكراء التجاري منظمة بموجب المادة ال35 من القانون رقم 49.16 التي نصت على ما يلي: "تختص المحاكم التجارية بالنظر في النزاعات المتعلقة بتطبيق هذا القانون، غير أنه ينعقد الاختصاص للمحاكم الابتدائية طبقا للقانون المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة". الملاحظ، من خلال هذه المادة، أن المشرع استفاد من النقاش الفقهي والقضائي الذي ساد بخصوص موضوع الاختصاص النوعي بقضايا الكراء التجاري؛ فمن جهة، اعتمد المشرع تفسير القضاء للفقرة ال5 من المادة ال5 من قانون المحاكم التجارية، واعتبر هذه المحاكم هي المختصة أصلا بقضايا الكراء التجاري، إلا أنه من جهة أخرى، أخذ بعين الاعتبار ملاحظات الفقه الذي طالب بضرورة إسناد الاختصاص لغرف داخل المحاكم الابتدائية بخصوص القضايا التجارية عندما تنعدم المحاكم التجارية في مدينة معينة، وذلك تخفيفا على المتقاضين الذين تبعد عنهم المحاكم التجارية بمئات الكيلومترات. غير أن الصياغة التي جاءت بها المادة ال35 من القانون لم تكن موفقة في التعبير عن هذا الخيار، إذ نظمت في الآن نفسه اختصاص المحاكم التجارية واختصاص المحاكم الابتدائية، دون أن تتضمن أي معيار لرسم الحدود الفاصلة بين اختصاص كل محكمة من المحاكم المذكورة، خلافا لما كان عليه الحال في المادة ال30 من مقترح القانون قبل المصادقة عليه، حيث كانت تعتمد المادة المذكورة معيارا مكانيا، ينعقد بموجبه الاختصاص للمحكمة الابتدائية متى انعدمت محكمة تجارية في مكان تواجد المحل التجاري. ويرجع السبب في اعتماد هذه الصياغة إلى محاولة المشرع استشراف ما سيتضمنه قانون التنظيم القضائي مستقبلا من اختصاصات جديدة للمحاكم الابتدائية، حيث ينص مشروع القانون رقم 15.38 المتعلق بالتنظيم القضائي على إحداث أقسام تجارية ببعض المحاكم الابتدائية، تختص بالنظر في القضايا التي تختص بها المحاكم التجارية، بغية تقريب القضاء التجاري من المتقاضين في الدوائر التي لا توجد بها محاكم تجارية. ويبدو أن هذا الخيار سيضع حدا للنقاش الذي طرحه مقترح قانون الكراء التجاري في صياغته الأولية بشأن مشكلة توزيع الاختصاص بين المحاكم التجارية والمحاكم الابتدائية عندما تتوفر شروط إعمال نظرية التبعية التجارية والأعمال التجارية المختلطة، وفق ما فصلناه أعلاه، ما دام أن الاختصاص بقضايا الكراء التجاري أصبح في ظل القانون رقم 49.16 اختصاصا أصيلا للقضاء التجاري وحده، سواء أمام المحاكم التجارية أو أمام الأقسام التجارية التي ستحدث ببعض المحاكم الابتدائية، وبالتالي لن تكون هناك حاجة إلى اقتباس النظريات المذكورة لإسناد الاختصاص إلى القضاء التجاري. ومع ذلك، فإن الصياغة التي جاءت بها المادة ال35 من القانون رقم 49.16 تبقى صياغة معيبة من حيث الصناعة التشريعية، لكونها من جهة تعلق حكما قانونيا نافذا على مقتضى قانوني مستقبلي قد يعتمد وقد لا يعتمد من قبل المشرع، إذ لا توجد أية ضمانة بشأن امكانية اعتماد المشرع لخيار إحداث أقسام تجارية ببعض المحاكم الابتدائية، ومن جهة أخرى تبقى صياغة مبهمة وغامضة، إذ لا يمكن فهم قصد المشرع من عبارة: "غير أنه ينعقد الاختصاص للمحاكم الابتدائية طبقا للقانون المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة"، ما لم نكن على علم بوجود مشروع قانون للتنظيم القضائي يقضي بإحداث أقسام تجارية ببعض المحاكم التجارية، ما دام أن قانون التنظيم القضائي الحالي لا يتضمن أي مقتضى قانونيا ينظم اختصاص المحاكم الابتدائية بقضايا الكراء التجاري. عموما، وفي ظل الصياغة الحالية للمادة ال35 سالفة الذكر، فإن الاختصاص بقضايا الكراء التجاري ينعقد للمحاكم التجارية والأقسام التجارية التي ستحدث ببعض المحاكم الابتدائية التي لا توجد بدائرتها محكمة تجارية، في حالة إقرار مشروع القانون رقم 38.15 المتعلق بالتنظيم القضائي، في حين تبقى المحاكم الابتدائية مختصة بقضايا الكراء التجاري التي تقل قيمتها عن 20.000 درهم إعمالا للمادة ال6 من القانون المحدث للمحاكم التجارية، والتي تحدد الاختصاص القيميي لهذه المحاكم في الطلبات التي تزيد قيمتها عن 20.000 درهم. كما ستبقى المحاكم الابتدائية مختصة بقضايا مراجعة وأداء وجيبة كراء المحلات التجارية، ما دام أن القانون رقم 99.64 المتعلق باستيفاء الوجيبة الكرائية يسند الاختصاص صراحة للمحكمة الابتدائية ولرئيسها بشأن المطالبة بواجب الكراء، ولكون المادة ال5 من القانون رقم 49.16 المتعلق بالكراء التجاري تحيل صراحة بشأن مراجعة الوجيبة الكرائية على القانون رقم03/07(10)، الذي ينص في مادته الثامنة على إسناد الاختصاص بشأن النزاعات المتعلقة بمراجعة واستيفاء الزيادة في أثمان كراء المحلات التجارية للمحاكم الابتدائية وحدها. وكل ذلك ما لم يتعلق الأمر بدعاوى بين تجار بشأن أعمالهم التجارية، أو بعمل تجاري مختلط، اختار بشأنه الطرف المدني اللجوء إلى القضاء التجاري، بحيث ينعقد الاختصاص في هذه الحالة للمحكمة التجارية إعمالا لأحكام البند ال2 من الفقرة ال1 والفقرة ال3 من المادة ال5 من القانون المحدث للمحاكم التجارية، لا سيما أن التجربة الفرنسية أثبتت ذلك، فبالرغم من أن المشرع الفرنسي منح صراحة الاختصاص للمحاكم المدنية بقضايا الكراء التجاري بموجب مرسوم 1953، فإن المحاكم التجارية الفرنسية اعتبرت نفسها مختصة بهذا النوع من القضايا كلما توفرت شروط تطبيق نظرية الأعمال التجارية بالتبعية(11). هوامش: 1- وذلك بموجب القانون رقم 95.53 الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم65-97-1، صادر في 4 شوال1417(12/02/1997)، الجريدة الرسمية عدد 4482، بتاريخ 15/5/1997، ص:1141. 2-Hassania cherkaoui : « Note sur quelques difficultés dans La détermination de la compétence des tribunaux de commerce. (Art 5 et 12 du dahir n° 1.97.65 du 12 février 1997)», Revue Francomagribine de droit, N°6 année 1998 p: 304 et s. 3- قرار رقم 29، صادر بتاريخ 11/8/1998، ملف عدد 7/98، منشور بمجلة المعيار عدد 24، سنة 1999 ص:187. 4- حكم رقم 93/98، صادر بتاريخ 7/9/1998 في الملف رقم 46/98، منشور بمجلة المحاكم المغربية، العدد 81، سنة 2000 ، ص:205. 5- أمر استعجالي صادر بتاريخ 24/6/1998، في الملف رقم 7/98 منشور بمجلة الإشعاع، العدد17، سنة 1998 ، ص: 255-256. 6 - قرار عدد 430/99 صادر في الملف عدد 470/99/4، منشور بمجلة رسالة المحاماة، العدد 15، سنة 2000 ص:120. 7 - ظهير شريف رقم 1.16.99 صادر في 13 من شوال 1437 (18 يوليو 2016) بتنفيذ القانون رقم 49.16 المتعلق بكراء العقارات أو المحلات المخصصة للاستعمال التجاري أو الصناعي أو الحرفي الجريدة الرسمية عدد 6490 بتاريخ 7 ذي القعدة 1437 (11 اغسطس 2016)، ص 5857. 8 - القرار الصادر بتاريخ 14/11/2001 ملف تجاري عدد 2227/2002، منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى عدد مزدوج 57-58، سنة 2001 ، مع تعليق للمستشار عبد الرحمان مزور، ص 532. 9 - ملف رقم225/2001/4، تحت رقم 152/2002/13، غير منشور. 10 - القانون رقم 03-07 المتعلق بكيفية مراجعة أثمان كراء المحلات المعدة للسكن أو الاستعمال المهني أو التجاري أو الصناعي أو الحرفي. الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 134-07-1 بتاريخ 19 ذي القعدة1428(30نوفمبر 2007)، منشور بالجريدة الرسمية عدد 5886 بتاريخ 2 ذو الحجة 1428(13 ديسمبر2007)، ص 4061. 11 - راجع محمد المجدوبي الإدريسي، المرجع السابق، ص145. *دكتور في الحقوق