تازة من خلال الوثيقة الكولونيالية .. أحداث بدايات القرن العشرين نموذجا تعد الوثيقة الكولونيالية من أبرز مصادر تاريخ المغرب الحديث والمعاصر، فقيمتها من حيث المادة التاريخية توازي بل تتفوق في بعض الأحيان على باقي أنواع الوثائق الأخرى كالمصنفات التاريخية (الاستقصا للناصري والإتحاف لابن زيدان مثلا) والوثيقة المخزنية من ظهائر ورسائل وكتابات رسمية، وكذا وثائق الأرشيف العام وما يحتويه من كنانيش ورسائل وفتاوى فقهية ومصادر صوفية وغيرها، على أهميتها ثم الآثار المادية والرواية الشفهية، فضلا عن الأرشيف الخاص فإعادة الاعتبار للوثيقة الكولونيالية، هي في الجوهر تثمين للبحث التاريخي في قضايا مختلفة تهم الوطن والبلد، قضايا لها علاقة بالسياسة والحكم والاقتصاد ومعيشة السكان ومسألة الأمن والطرق والمسالك وفتح الأسواق. وقد أصبح معظم الباحثين العرب والمغاربة يعتمدون إلى حد كبير على الأرشيف الأجنبي والكولونيالي منه على وجه أخص منذ العديد من السنوات، لا سيما بعد أن بدأت الشعوب تكتب تواريخها وتتحرر تدريجيا من رواسب وعقد الاستعمار الأجنبي ومخلفاته؛ فأهمية تلك الوثيقة لا تتجلى بالطبع في جانبها الأيديولوجي وخلفياتها المباشرة وغير المباشرة ووظيفتها وارتباطها بظاهرة الاستعمار وقهر واستغلال الشعوب، والتي تَعتبر المخزن مثلا مجرد تمثال ضريبي على حد تعبير بعض الباحثين أو تعد المغاربة مجرد "أنديجان "Indigènes ، بل تكمن أهميتها في طبيعة المادة الخبرية والمعرفية والتاريخية التي تحملها الوثيقة الاستعمارية سواء التزم صاحبها قدرا من الموضوعية في مقاربة الأحداث والمواقف والشخصيات والجماعات الفاعلة في التاريخ أو انساق بدرجة أو بأخرى نحو الميول الاستعمارية.. لقد شهد الأرشيف الكولونيالي إسهامات متنوعة وغنية للعديد من الأشخاص، بينهم رحالون وإتنولوجيون ورهبان وعلماء اجتماع ودبلوماسيون وساسة وقادة عسكريون.. وكنماذج فقط، تمدنا كتابات شارل دوفوكو وزيكونزاك وروبيرمونتاني وباسكون ولويس أرنولد وشينيي وهنري تيراس وهاريس وباسي ولويس فوانو، تمدنا بمعلومات ثمينة حول جغرافية العديد من المناطق والمدن المغربية ونوعية الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، وأوضاع القبائل المختلفة وعلاقتها بالمخزن المركزي، وصراعاتها، وقضايا مهمة تخص دور الصلحاء والفقهاء والشرفاء والزوايا وأنشطتها الدينية والسياسية والاقتصادية ووظائفها التحكيمية وغيرها.. وعموما أنشأت فرنسا الاستعمارية العديد من مؤسسات البحث في المغرب سرعان ما تجمع رصيدها الوثائقي ضمن أرشيف الدبلوماسية الفرنسية بكي دورساي quai d'Orsay وملحقتها بمدينة نانط والأرشيف العسكري المحفوظ بقصر فانسان بباريس، كما أن العديد من تلك التقارير والوثائق جُمعت في كتب ومصنفات ومن نماذجها مثلا مؤلَّف "زمن لمحلات السلطانية" للويس أرنولد « Au Temps des Mhallas Lous Arnold وكتاب "المغرب المجهول" لأوغست موريلياس Le Maroc inconnu Auguste M0lièras ، والبعد الوظيفي لهذه الإسهامات كان يمضي غالبا في اتجاه الجاسوسية والأنشطة الاستخباراتية وتوفير المعلومات الضرورية تمهيدا للغزو العسكري والاستعماري بالطبع، لكن على الباحث أن يعزل إجرائيا - من وجهة نظري- هذا البعد حتى يلتزم بحدود المنهج التاريخي والتوثيقي كما شرحنا بعض آلياته في التعامل مع الوثيقة الكولونيالية.. عبر هذا السياق البحثي والهم المعرفي صغنا في منسقية النسيج الجمعوي بتازة تصورا شاملا ضمن المساهمة في كتابة تاريخ المنطقة بتوفير رصيد وثائقي محترم حول تازة وممرها وأحوازها وباعتماد الوثيقة المحققة ودراسة الموجود منها مهما تعددت واختلفت مصادرها ومنابعها، والعمل على نشر الدراسات والمتابعات والأنشطة التي تنظم في إطار التعريف بتاريخ المنطقة وتراكماته المادية والرمزية، والفكرة المجمع عليها هي ضرورة تأسيس مركز للدراسات والأبحاث حول تازة والأحواز... ، ومن المفترض أن يلهم هذا المشروع ويُلِمَّ الباحثين والمهتمين (الجامعيين وغير الجامعيين) سواء كانوا منتمين إلى المنسقية أو من خارجها . دشنت المنسقية أول مبادرة في هذا المسار تستحق التنويه ونقصد تنظيم "موائد رمضان الفكرية" التي اتخذت كتيمة لها "تازة في الوثيقة الكولونيالية" التأمت عبر برنامج من محطتين خلال رمضان الذي ودعناه قبل أسابيع: كانت أولاها مائدة مستديرة حول "تازة في الوثيقة الكولونيالية / المغرب المتمرد لريجينالد كان / أحداث بداية القرن العشرين نموذجا" وهي الوثيقة التاريخية المهمة التي نحاول تقديمها وتلخيصها في هذا المقال تعميما للفائدة؛ والثانية حول رحلة الشريف محمد ولد سيدي احمد التيجاني عبر تازة نحو الجزائر قادما من الصحراء في مستهل سنة 1913. تنتمي وثيقة "المغرب المتمرد " Le Maroc révoltéإلى الأرشيف الكولونيالي عموما والفرنسي منه خصوصا والمتعلق ببداية القرن العشرين على وجه أخص، وكاتبها هو ريجينال كان Réginadl Kann وصفته الرسمية مراسل حربي، ولد سنة 1876 من أصول يهودية وسبق أن عمل مراسلا حربيا في الهند الصينية ثم انتقل بعدها إلى المغرب حيث زار الثائر الجيلالي الزرهوني "بوحمارة " وذلك بصفته الصحافية ليعود مرة أخرى إلى فرنسا عشية الحرب العالمية الأولى التي شارك فيها بفعالية ضد الألمان، وتشاء الظروف أن يعود إلى المغرب في مهمة صحافية وحربية وفي عز حرب الريف التحررية، ليلقى مصرعه شمال تازة في معركة الكيفان سنة 1925 والتي جرت بين مقاتلي الثورة الريفية وبين القوات الفرنسية، في سياق التحضير لهجوم فرنسا المضاد على الريف وإثر الزحف المظفر لمجاهديه على منطقة الاحتلال الفرنسي وتهديدهم لتازة ثم فاس في أبريل من السنة نفسها؛ وهو الهجوم الذي قامت به قوات الثورة الريفية بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي، وقد تم تأبينه بشكل رسمي وبحضور الماريشال بيتان شخصيا بمقبرة الجنود الفرنسيين بمعسكر جيراردو في تازة لكن الوثائق التاريخية تفيد بأنه سبق أن اشتغل أيضا بالمال والأعمال، وبالصفة ذاتها دخل إلى المغرب كمراسل صحافي مرافَقا بشاب جزائري مترجم وبشخص زطاط (دليل ومرافق في الطريق) من أحواز تازة بهدف لقاء الروغي الجيلالي بن عبد السلام اليوسفي الزرهوني المعروف عند الباحثين الأكاديميين بالفقيه الزرهوني وفي التاريخ الرسمي باسم "بوحمارة"... والتعرف على حاشيته ومخزنه ومرافقيه ورعيته . استهل ريجينالد كان تقريره بمقدمة تاريخية حول وفاة السلطان الحسن الأول سنة 1894 خلال إحدى حركاته بنواحي الرباط ولم يخلف سوى أطفال صغار؛ وهو ما أتاح للصدر الأعظم آنذاك با حماد أن يستأثر بالأمر والنهي في البلاط مقصيا الابنين الأكبرين للسلطان المتوفى ومعينا للأمير عبد العزيز وليا للعهد، وقد تابع باحماد نفس سياسة السلطان الراحل إلى حين وفاته سنة 1900، وكان هناك عدد من التجار الإنجليز في بلاط م عبد العزيز استغلوا ولعه بالمخترعات الحديثة فأغرقوه فيها وأسهموا بذلك في استنزاف المخزون المالي للدولة المغربية. وفي هذه الأثناء، ارتفعت حدة معاداة الأجانب بين المغاربة، وخاصة منهم الإنجليز؛ وهو ما أدى إلى اغتيال أحدهم على يد شخص مغربي، سرعان ما قبض عليه المخزن وأعدمه، الشيء الذي ضاعف من نقمة كثير من المغاربة على المخزن العزيزي . في الفترة نفسها (ربيع 1902) كان هناك شاب يتنقل عبر نواحي تازة يمتطي الأتان ويطلب "ضيف الله" من قياد وصلحاء المنطقة، وكان مرفوقا بفارس واحد، ونحن لن نسلط الضوء كثيرا على تمرد هذا الشاب الذي سيطلق عليه فيما بعد نعت الروغي أي الدعي أو الفتان أو بوحمارة واسمه الحقيقي الجيلالي بن عبد السلام بن إدريس اليوسفي الزرهوني، لأن ما يهمنا أكثر في هذا المقال وهو ما ذكرته الوثيقة حول تازة وقبائلها في هذه الفترة الخطيرة من تاريخ المغرب، ولأن ثورة الجيلالي هذا كُتب عنها الكثير سواء من لدن بعض معاصريه من المغاربة والأجانب أو من قبل عدد من المؤرخين والباحثين. وأول ما يسترعي الانتباه بالنسبة إلى قبائل تازة، وخاصة غياثة، هو أنها قبائل محاربة بالفطرة ومتشبثة بقيم الحرية والكرامة من خلال صدامها شبه المستمر مع عمال المخزن وقياده بل مع السلطان نفسه، خاصة حول مسألة الجبايات والضرائب والمياه والتجارة بتازة والنواحي. كما يبالغ مراسلنا الحربي الفرنسي في وصف غياثة بأشنع النعوت متأثرا في ذلك بما سبق أن سجله سلفه الراهب الجاسوس شارل دوفوكو، ولهذا السبب وأسباب أخرى موضوعية بايعت غياثة وقبائل تازة المطالب بالعرش Prétendant وهي الصفة التي تكررت حول الجيلالي بن عبد السلام الزرهوني ولم ترد لفظة "بوحمارة" في الوثيقة إلا مرتين. وإذا كان ريجينالد قد أخفق في لقاء الروغي خلال المسعى الأول عن طريق رسالة بواسطة الزطاط المذكور وبسبب سقوط تازة (التي اتخذها الروغي معقله عند بدايات تمرده ) في يد الجيش المخزني العزيزي بقيادة العلاف الكبير (المهدي المنبهي) بتاريخ 07 يوليوز 1903، فإن هذا المراسل الحربي اضطر للانتظار مرة أخرى في مغنية حتى تتهيأ الأجواء المناسبة لذلك اللقاء، وكان ريجينالد كان قد وعد الروغي بإنجاز تحقيق صحافي شامل حوله وحول "مخزنه" وأتباعه على أن يُنشر في كبريات الصحف الأوروبية؛ وهو ما فتح شهية الفتان الجيلالي للمزيد من الإشعاع، خاصة لدى القوى الأجنبية وفي أفق إرهاصات مؤتمر الجزيرة الخضراء الذي انعقد بطلب من المفوضية الألمانية بطنجة في 07 أبريل 1906 لكن إحدى كلمات ريجينالد في التقرير نفسه فضحت بشكل واضح بعض خلفياته من هذه الرحلة حينما ذكر أنه كُلِّفَ بزيارة المطالب بالعرش لمعرفة قوته وحجم إشعاعه في البلاد : " Vers le moi de juillet dernier, Je fus chargé de rendre visite au prétendant, Afin de me rendre compte du nombre de ses partisans , de l'extension de son influence dans le pays et du véritable rôle qu'il avait jouer depuis le commencement de l'insurrection " يبدو أن إعادة احتلال تازة من لدن جيش المخزن العزيزي قد روع الروغي؛ وهو ما عكسه الرد المكتوب الذي يعتذر فيه عن لقاء كان Kann بسبب اضطراب أحوال "مملكته "، وهذا ما يوضح بجلاء الموقع الإستراتيجي للمدينة وتحكمها في خطوط التماس نحو شرق وغرب البلاد، ومع أن مدينة تازة عادت "مؤقتا " إلى المخزن الشرعي، بالرغم مما قاسته من أهوال ومحن على أيدي جنود السلطان (تمكن جيش المخزن العزيزي من دخول تازة عبر باب الجمعة في الجهة الشمالية الشرقية للمدينة بعد إعلان قائد مكناسة المدني السملالي خلع الروغي ومبايعة السلطان م عبد العزيز) فإن المنبهي العلاف الكبير / وزير الحربية سرعان ما اكتشف الأسباب العميقة والمعقدة التي جعلت المدينة تسلس قيادها للروغي وأنصاره داعيا المولى عبد العزيز إلى زيارة المدينة وطمأنة أهلها خاصة حول مصير مولاي امحمد الابن الأكبر للمولى الحسن، الشيء الذي لم يقدم عليه السلطان م عبد العزيز (نقصد زيارة المنطقة وطمأنة رعاياه هناك)؛ وهو ما زاد من تأزم أوضاع المخزن والجيش المخزني في المنطقة ووسع من دائرة التأييد للفتان الجيلالي الزرهوني . في 10 غشت 1903، انطلقت رحلة ريجينالد كان من جديد صحبة الزطاط التازي والمترجم الجزائري الشاب وذلك من مغنية بالجزائر، وهذه المرة قطع خط الحدود نحو الإمبراطورية الشريفة واصفا الطبيعة شبه الجرداء في اتجاه وجدة. وكانت المدينة خلال هذه الفترة من الصراع تحت سيطرة أنصار الروغي، بعد أن هرب منها عامل السلطان عبد العزيز محمد بن كروم الجبوري والتحق بمغنية، وكان أن عادت السيطرة إلى الجيش المخزني من جديد، كل ذلك والمدينة تعاني انحصارا اقتصاديا واجتماعيا بعد تراجع النشاط التجاري بفعل الحرب الأهلية وانعدام الأمن بالمسالك والطرق، هكذا وصف الأحوال عامة بمدينة وجدة، خلال الفترة العصيبة نفسها. على المستوى الاقتصادي للمنطقة الشرقية، تأسف كان لتقصير حكومة الجزائرالمحتلة في مبادراتها الاقتصادية والحيوية بالمنطقة، وخاصة التأخر في مد الخط الحديدي والطرقي من للا مغنية إلى وجدة ومن ثمة إلى تازةوفاس (عن طريق الاحتلال طبعا)، ثم استأنف السير من عيون سيدي ملوك نحو تاوريرت ووادي زا واصفا القبائل وظروف الاستقبال والطبيعة والأحوال الاقتصادية والاجتماعية بالمنطقة، وكان وصوله إلى نهر ملوية خاتمة هذا المسار ليشرع في الدخول إلى بلاد تازا، والتي تبدأ اعتبارا من هناك، وهو ما تسجله كل الكتابات التاريخية والجغرافية والمجالية منذ القديم، وأيضا لاختلاف الطبوغرافيا والتضاريس وأنماط العيش بين المناطق الموجودة شرق ملوية والأخرى غربها...وقد وصف ملوية بأنه من أهم أنهار المغرب لكن مداه السقوي يظل محدودا بالنسبة إلى المنطقة الشاسعة شبه الصحراوية التي تحيط به أو تعد امتدادا لمجاله. أدرك ريجينالد كان بلاد تازة إذن في أواخر غشت 1903، وكانت أول قبيلة وصفها هذا الجاسوس الفرنسي المقنع هي مطالسة، حيث سجل أنها آخر قبيلة من قبائل الرحل وأن الغابات والنباتات هناك تخضع لاستغلال متوحش وإحراق متواصل مما يهددها بشكل جدي، ويصف كان علاوة على ذلك وعورة تضاريس مجالها الغابوي، أما قبيلة اولاد بكار فقد حدد مقاتليها في نحو ألف شخص مسلح (بعض قبائل المنطقة اشتهرت بصناعة البارود منذ عهد الحسن الأول كقبيلة غياثة)، ويذكر في مقام آخر الأسلحة والسلع المختلفة التي تجلب عن طريق مليلية بالأساس والتي تفيد بتورط واليها العسكري الإسباني نفسه في تلك الأنشطة شبه المحظورة ثم بدرجة أقل تستقبل ساكنة المنطقة البضاعة القادمة من الجزائر ووصف كان أولاد بكار بأنها قبيلة مستقرة تقطن في منازل واسعة بنيت من الأحجار. وانطلاقا من هذا الحيز من البلاد تتغير الأجواء مقارنة بشرق ملوية، حيث تهب الرياح الغربية القادمة من المحيط الأطلسي، ولذلك يعتبر ر – كان المشاهد الطبيعية هنا قطعة من أوروبا، فتلك الرياح تأتي معها بأمطار قوية؛ وهو ما يجعل البلاد ككل قادرة على إطعام عشرة ملايين من المغاربة، لأن أكثر الأراضي الزراعية الخصبة تمتد من ملوية إلى باقي أنحاء المغرب.. وبالرغم من بساطة الزراعة في وسائلها وغلاتها، فإنه يمكن التمييز بين المناطق الفقيرة الصحراوية أو شبه الصحراوية في المغرب (يقصد مناطق شرق ملوية والجنوب والجنوب الشرقي للبلاد) والمناطق الأخرى الغنية. يصل ر- ك إلى ناحية البرانس أخيرا حيث يعاين من أحد التلال (والمنطقة تقع في قلب تلال مقدمة الريف) حوالي مائة خيمة، فيدرك من ثمة أنه وصل إلى هدفه وهو معسكر المطالب بالعرش الجيلالي بن عبد السلام " الدعي" أو "الروغي بوحمارة ". وبالرغم من أن الرحلة أصلا كانت من أجل التعرف على هذا الفتان المطالب بالعرش، فإنها لا تخلو من أخبار وفوائد تاريخية وجغرافية واجتماعية وسياسية حول المنطقة الشرقية وملوية وشمال غرب تازة على وجه الخصوص. وقد كفانا الصحافي سعيد عاهد في كتابه "الفتان" الصادر عن منشورات الاتحاد الاشتراكي سنة 2013، فلمن أراد التوسع والفهم الشامل لثورة الدعي عليه بالعودة إلى هذا الكتاب وكتب أخرى عديدة كمذكرات محمد بن الحسن الحجوي والاتحاف لعبد الرحمان بن زيدان والبيان المعرب للطيب بن اليمني بوعشرين وزمن لمحلات المخزنية للويس أرنولد والروغي Elrogui لإدواردو ما لدونادور وفوانو وغيرهم، وإنما نحن بصدد حضور تازة والناحية في الوثيقة أساسا من خلال أحداث بداية القرن العشرين، ومنه ثورة الجيلالي الزرهوني والتي لها سياقها وتشعباتها . يصف كان مخزن الجيلالي ومعسكره، الذي يضم 118 خيمة، ويقدم مشهدا مختزلا لأحد أسواق المنطقة، حيث يتبضع الجنود مع السكان المحليين ما تيسر من السلع الأساسية سواء منها المهربة أو المنتجة محليا، ومن المثير أن يوجد بين هؤلاء يهوديان كانا يوزعان الماحيا سرا وسط بعض المسلمين "الفاسقين" أو "المنحرفين " Mauvais musulmans". وبعجالة، فإن مخزن الجيلالي الزرهوني لم يكن يتميز بالكثير عن مخزن مولاي عبد العزيز من حيث الهيكل العام والوظائف المختلفة (الصدر الأعظم وهو المسمى سي صلاح والعلاف الكبير عبد المالك بن محيي الدين والمترجم الحاج الطيب).. وبالرغم من الصرامة التي أبداها عبد المالك تجاه صاحب التقرير (وكان عبد المالك يمثل إلى جانب كونه العلاف الكبير رئيس جهاز المخابرات لدى الجيلالي الزرهوني).. قلت: بالرغم من الدهاء والصرامة والمكر التي بدت على استجواب عبد المالك لكان، فإن هذا الأخير كان أكثر مكرا واستطاع إخفاء أهدافه الحقيقية من هذه الرحلة. أما الجيش التابع للروغي فلم يكن يزيد تعداده في أحسن حالاته عن 2000 إلى 3000 مقاتل، وكان جيش السلطان عبد العزيز يتفوق عليه عددا بما لا يقاس؛ فالسلطان -كما أفاد الحجوي- بالكثرة والأمداد والأموال مع جهل قواده بفنون الحرب والفتان بالمهارة والمكر والاقتدار، خاصة لدى قادته ومنهم عبد المالك بن محيي الدين، وجيش الفتان كان يتألف من عدة فئات أهمها الفرسان والحرس الخاص ب "مولاي امحمد" ومقاتلي القبائل وكانوا يلتحقون ويغادرون متى شاؤوا مقابل ما يغنموه من عتاد ومال وسلع عند كل انتصار (المعروف أن انتصارات الروغي على الجيش العزيزي توالت خلال الأشهر الأخيرة من سنة 1902 إلى حدود يناير 1903 ثم تجددت مرة أخرى في مواجهة المولى عبد الحفيظ طيلة سنة 1908 وإلى حدود يوليوز 1909 أي إلى حين هزيمته النهائية بمنطقة الحياينة وخاض جيش السلطان ما مجموعه 27 معركة مع جيش الروغي) لكن يبدو أن عوزا رهيبا ظهر بشكل ملحوظ حسب ما يصف المراسل لدى أغلب هؤلاء بحيث اضطر ريجيلان كان إلى دفع مسدسه كهدية للروغي، ثم تتابع الدفع عبر مبالغة كبيرة من صاحب الوثيقة، علما بأن الروغي خاض معارك كبرى لم يتسن له خوضها لو لم يكن ذا مال وفير إلى حدود 1909. وهذه النقطة بالذات كانت من أسباب هزيمته، ولا ننسى أن الجيلالي أهدى ريجيلاند كان فرسا فتية جميلة كمقابل لخدمته، أما حراسة الروغي واحتياطاته الأمنية حول شخصه فكانت كبيرة منذ أصيب برصاصة في ذراعه ألزمته العلاج لعدة أيام، كما أن هذا يؤكد أن قبائل المنطقة لم تكن لها ثقة كبيرة فيه ولا كان يبادلها الثقة ذاتها باستثناء حوالي عشرين فارسا من غياثة هم الذين أعطوه "الكلمة" في أحد أسواق الحياينة ربيع 1902. أما ساكنة مدينة تازة فعانت طويلا من القبائل المجاورة وأمام ضعف المخزن وعدم استجابته لملتمساتها المتعددة فقد سلم ممثلوها المدينة إلى الروغي، على مضض بعد ثلاثة أيام من المفاوضات العسيرة وإثر يأسهم من وصول جيش المخزن "الشرعي"، طبعا هناك إشارات إلى هذه الأحداث في وثيقتنا وخاصة احتلال المنبهي لتازة في صيف 1903. وبالمناسبة، فإن المسألة الأمنية كانت تكتسي غاية كبيرة في البلاد وعلى صعيد المنطقة. وحسب التقرير / الوثيقة، فإن الروغي يؤكد أنه ضمن الأمن والاستقرار في مناطقه، فضلا عن "الأحكام". وتفيد الوثيقة بأن العنصر الديني والالتزام بالشعائر كان حاضرا بقوة في معسكرات الروغي، وهو ما تؤكده الوثيقة وكتابات الفترة معا حتى إنه كان يعطل حركاته في بعض المناسبات الدينية كعيد الأضحى مثلا؛ الشيء الذي أسهم مؤقتا في نجاح حركاته علاوة على بعض أساليب التوهيم والشعوذة كاتفاقه مع أحد خدامه مسبقا حول رسائل وظهائر ومظاهر تأييد من هنا وهناك، واستغلال ماكر لبعض الآلات الحديثة. وكخلاصة لما سبق، فإن منطقة تازة عاشت إحدى أحلك فترات تاريخها والتي أثرت على البلاد ككل، علما بأن هناك عناصر أخرى أسهمت في هذا التردي العام كتدهور المخزن العزيزي والصراع على العرش وثورات القبائل منذ عهد السلطان المولى الحسن والقروض وأشكال الخيانات وفساد الوزراء وكبار رجال الدولة وفشل الإصلاحات التحديثية وتفويت التراب الوطني وحالة التخلف العام والمناورات الاستعمارية وخاصة الفرنسية والتي أسقطت المغرب أخيرا في يد الحماية الموقعة من لدن السلطان م عبد الحفيظ في 30 مارس 1912.