بعيدا عن التحليلات السياسية التي يحلّل أصحابُها الحراك الاجتماعي الذي تشهده عدد من مناطق المغرب، وخاصّة الحسيمة ونواحيها، انطلاقا من معطيات "نمطيّة"، كالقول بأنّ الاحتجاج هو وسيلة للتعبير عن مطالبَ اجتماعية واقتصادية وسياسية؛ قال سعيد بنيس، أستاذ علوم الاجتماع بجامعة محمد الخامس بالرباط، إنَّ هذه الاحتجاجات هي ذاتُ أبعاد أكبرَ مما يتمّ تصوّره. الشارع، حسب بنيس، هو فضاء لا زمن له؛ ذلك أنّ المطالبَ المرفوعة من لدن المحتجّين لا تُحيل على الزمن الراهن بل يُمكن أن تُحيل على الزمن الماضي. وانطلاقا من هذا المُعطى، يخلُص أستاذ العلوم الاجتماعية إلى أنّ الشارع ليس فقط فضاء للاحتجاج من أجل مطالبَ اجتماعية واقتصادية وسياسية؛ بل أضحى فضاء للتنشئة والتربية، لا سِيَما أنه يشهد توافُد مرتادين جددٍ، يتشكلون من الفئات العمرية ما بين 10 سنوات و16 سنة. وإذا كانت كلّ المبادرات التي قامتْ بها الدولة لم تُفلح إلى حدّ الآن في إخماد الحراك الاجتماعي في الريف، بالرغم من تدخّل الملك شخصيا وتوجيه أوامر إلى الحكومة بتسريع وتيرة إنجاز المشاريع التنموية في المنطقة، وإيفاد لجنتيْ تحقيق من الداخلية والمالية، وحرمان الوزراء المعنيين من عطلتهم السنوية؛ فإنّ بنيس يرى أنَّ "رفضَ الحلول الوسطى" من لدن المحتجين مردّه أنّ الشارع تحوّل إلى فضاء للتحدّي والمقاومة ومجال لفرض الذات. وثمّة عامل آخرُ يشير إليه أستاذ علوم الاجتماع، وهو خروج المحتجين إلى الشارع هو تعبير عن رفض "تمثّلات الآخر الدونية"، من قبيل "أوباش"، انفصاليون"، تجار مخدرات"، "مهرّبون"، أولاد السبليون"، انفصاليون"... وكان التعبير الأخير قدْ أجَّج الغضب في صفوف المحتجين بالريف، حينَ اجتمع قادة الأحزاب المشكّلة للأغلبية الحكومية وقالوا في تصريحات مشتركة إنّ حَراكَ الريف ينطوي على نزعة انفصالية. ويصف بنيس الشارعَ بأنه "حَلبة للصراع ضدّ خصْم متواجد في الضفة الأخرى"، ويقصد الضفّة المؤسساتية، حيث توجد الحكومة والسلطات العمومية والشخصيات السياسية ومنظمات المجتمع المدني.."؛ لكنّ المحتجّين لا يتصارعون فقط ضدّ المكونات المشكّلة للضفة المؤسساتية، بل يتصارعون، أيضا، مع مُنتسبي ما سمّاه بنيس "الضفّة العفوية"، وهُمُ "العيّاشة"، وكل من هو ضدَّ الحَراك أو عنده رأي مخالف. في هذا السياق، يستحضر بنيس نظرية "الديمقراطية التصادمية"، (Démocratie agonistique)، لشنطال موف، صاحبة كتاب " Le paradoxe démocratique"، الذي توضح فيه أن إخفاقات التجارب الديمقراطية مردها ترددات الديمقراطية الليبرالية التي أسس لها جون راولز ويوركن هابرماس والتي تحيل على التوافقات السياسية وتغفل التناقضات العميقة والمُشلّة (Contradictions paralysantes). وإذا كان حَراك الريف، حسب التمثلات السائدة، يتسم بخصوصيات؛ فإنّ بنيس يرى أنَّ الشارع كمجال لليقينيات وفضاء للمظلومية، ليس خاصا بحراك الريف بل يمكِّن من توصيف أغلب الاحتجاجات التي خرجت في مدن أخرى من المملكة، على أساس أن قادتها يمثلون الخصائص ذاتها ويشتركون في خاصية "الحرمان النسبي" التي تحيل على التمثلات الفردية للتفاوتات الاجتماعية وعدم الرضا عن الذات وفقدان الثقة في المجتمع، حسب السوسيولوجي (Walker). انطلاقا من المُعطى السابق، يُمكن فهم لماذا لم رفض قادة الحَراك في الريف الجلوس إلى طاولة الحوار مع ممثلي المؤسسات الرسمية، من السلطات الحكومية والمؤسسات، وكذلك المجموعات التي رأي مخالف؛ ذلك أنَّ قادة الحَراك اعتبروا، من خلال خطاباتهم، المُحاوَر الممثل لهذه الجهات، شخصا لا يمكن الوثوق به، "بل يتوخى الحذر منه، وهو في مرتبة دونية ويستحق أن تُلحق به جميع النعوت والأوصاف لأنه يشكل مصدر المآسي والمشاكل، بل يمكن أن يدخل في خانة دلالية من قبيل "العصابة" و"العياشة" و"العبيد" و"الخونة"... وعلى الرغم من التوتّر الكبير الذي يسم الاحتجاجات والذي قد يؤدّي إلى وقوع صدامات، كما حصل في الريف؛ فإنّ بنيس يرى أنَّ الشارع في نهاية المطاف هو فضاء للمطالبة بالحقوق ومجال لتقديم واقتراح الحلول، حيث ليست هناك مطالبة بتغيير النظام، بل اكتفى المحتجون فقط بالمطالبة بمحاسبة المسؤولين المباشرين جهويا أو وطنيا.. وأكثر من هذا، يردف أستاذ علوم الاجتماع بجامعة محمد الخامس، فإنّ المطالبَ تصبُّ في تشجيع حضور قوي وإيجابي للدولة من خلال إنشاء الجامعات والمستشفيات والمصانع. ويضمّ بنيس صوته إلى صوت المنادين بنهج مقاربة غير المقاربة الأمنية الصرفة للتعاطي مع الاحتجاجات، سواء في الريف أو في مناطق أخرى، معتبرا أنّ الشارع كفضاء للتعاطي مع الإشكالات الاجتماعية "لا يمكن فقط مقاربته من وجهة نظر أمنية صرفة، بل يتوجب كذلك التعامل معه من وجهة نظر سياسية لا ترتهن حصريا بالتدابير الأمنية"..